وسط استمرار تصاعد الحرب الروسية الأوكرانية، تشهد الساحة العسكرية تحولًا جذريًا طرأ في استخدامات أوكرانيا للتكنولوجيا العسكرية منذ بدء الحرب في فبراير 2022، فبينما بدأت المعارك بأسلوب يماثل حروب القرن العشرين، مع تقدم الدبابات والمدفعية والمشاة في خنادق طويلة، أخذت ساحة القتال منحى جديدًا منذ عام 2023، لتصبح أول حرب طائرات مسيّرة شاملة في التاريخ الحديث.
وحسب تقرير لمجلة "فورن أفيرز" الأمريكية اعتمد على مشاهدات ميدانية وزيارات مكررة لأوكرانيا، فإن الطائرات المسيّرة تحولت من أداة دعم ثانوية إلى العمود الفقري للعمليات الهجومية والدفاعية، وغيّرت موازين القوة بين موسكو وكييف، لتفرض واقعًا عسكريًا جديدًا يتجاوز الأسلحة التقليدية.
حرب الطائرات المسيّرة
عندما شنّت روسيا هجومها الشامل على أوكرانيا، بدت مشاهد المعارك مألوفة بدبابات وناقلات جند مدرعة تتقدم، ومدفعية تطلق نيرانها الكثيفة، ومشاة يختبئون في خنادق تمتد على طول الجبهة.
لكن بحلول صيف 2023، برز عامل جديد غير مجرى الصراع، فقد أوضح قائد وحدة الطائرات المسيّرة في اللواء الهجومي الثالث الأوكراني، المعروف بالاسم الحركي "فيل"، أن الطائرات المسيّرة من منظور الشخص الأول (FPV) باتت السلاح الأبرز.
هذه الطائرات الرباعية الصغيرة والرخيصة، القادرة على المناورة العالية، تبث صورًا مباشرة للمشغل قبل أن تتحول إلى مقذوف انتحاري يصيب هدفه بدقة، ومع تكثيف أوكرانيا استخدامها لآلاف الوحدات منها، تبعتها روسيا بسرعة، حتى أصبحت سماء أوكرانيا تموج بمئات الآلاف من هذه الطائرات بحلول نهاية العام.
قبل عامين، كان تقييم قوة أي لواء أوكراني يعتمد على عدد دباباته ومدافعه ومنظوماته الصاروخية، لكن منذ 2023، أصبح المعيار الأساسي هو عدد مشغلي الطائرات المسيرة المهرة وقدرة الوحدة على نشرها بكثافة، ووفق التقرير، فإن الطائرات المسيّرة الأوكرانية مسؤولة الآن عن تدمير 90% من الدبابات والمركبات المدرعة الروسية، و80% من خسائر القوات الروسية.
الميزة الكبرى للطائرات المسيرة هي قدرتها على تنفيذ هجمات بعيدة خلف خطوط العدو دون الحاجة إلى تفوق جوي، ففي يونيو الماضي، تمكنت أوكرانيا من استهداف قواعد جوية روسية على بُعد 5000 ميل من كييف، عبر تهريب طائرات مسيّرة وإطلاقها من شاحنات داخل الأراضي الروسية.
حرب المصانع
تصف المجلة الحرب الأوكرانية بأنها "حرب مصانع" جديدة، إذ أنتجت أوكرانيا أكثر من مليوني طائرة مسيّرة عام 2024 وتخطط للوصول إلى أربعة ملايين في 2025، بينما رفعت روسيا إنتاجها الشهري من "شاهد" من 300 إلى 5000 وحدة، ويخلص التقرير إلى أن الطرف القادر على الحفاظ على معدل إنتاج أعلى سيكون الأقرب إلى النصر.
تؤكد "فورن أفيرز" أن ما يجري في أوكرانيا ليس مجرد صراع إقليمي، بل مختبر عالمي لحرب المستقبل، حيث تحل البرمجيات والابتكار محل العقيدة التقليدية، وبالنسبة للغرب، لا يمثل دعم أوكرانيا خيارًا سياسيًا فقط، بل فرصة لفهم قواعد الحرب الجديدة، حيث أصبحت الطائرات المسيّرة ليست سلاحًا إضافيًا، بل قلب المعركة نفسها.
رد روسيا
رغم بطء موسكو في البداية، إلا أنها ضاعفت إنتاجها من الطائرات المسيّرة، سواء القتالية أو الاستطلاعية، وأدخلت نماذج متطورة مثل "أورلان" و"لانسيت"، ومع استمرار الابتكار السريع في الأجهزة والبرمجيات، تغيرت أنماط الحرب بوتيرة مذهلة، لتصبح ساحة القتال شفافة إلى درجة أن أي تحرك قرب الجبهة يُرصد ويُستهدف خلال دقائق.
وفق "فورن أفيرز"، يشغل نحو 3000 جندي أوكراني طائرات استطلاع على مدار الساعة، أغلبها من طراز DJI Mavic، لمراقبة جبهة تمتد 750 ميلاً. تعرض مراكز قيادة الألوية ما يصل إلى 60 بثًا حيًا من الطائرات في وقت واحد، ما يجعل مبدأ "ما يرى يصيب" حقيقة ميدانية يومية.
هذه المراقبة الدقيقة أجبرت القوات الروسية على تقليل تحركاتها النهارية، واعتماد أساليب مثل الهجوم بمجموعات مشاة صغيرة أو استخدام الدراجات النارية للتقدم بسرعة في المناطق المفتوحة، بدلاً من أرتال الدبابات الثقيلة.
أصبح تدمير طائرات روسيا المسيرة أولوية، فأنشأت أوكرانيا أول نظام دفاع جوي يعتمد على الطائرات المسيرة لاعتراض الطائرات الروسية، كما طورت روسيا طائرات استطلاع أسرع وأصغر وأفضل تمويهًا، بعضها مزود بكاميرات خلفية لرصد الملاحقة، ويقدّر أن 80% من الطائرات المسيّرة الاستطلاعية على الجبهتين تسقط قبل إتمام مهمتها.
تكتيكات جديدة
تعمل أوكرانيا على إنشاء "خط طائرات مسيّرة" على طول الجبهة، وهو حاجز دفاعي متعدد الطبقات يضم خنادق وحقول ألغام وأسلاك شائكة، إضافة إلى مئات فرق الطائرات المسيرة الجاهزة لاعتراض أي تقدم روسي، والهدف هو تقليل الحاجة لانتشار واسع للقوات البشرية، وتخفيف خسائر الجنود عبر الاعتماد على الأتمتة.
وتنفذ روسيا هجمات ليلية باستخدام مئات طائرات "شاهد" الانتحارية، وتلجأ إلى إطلاق موجات متزامنة من اتجاهات مختلفة لاختراق الدفاعات، كما تستخدم طائرات "زائفة" رخيصة لدفع الدفاعات الأوكرانية إلى كشف مواقعها قبل توجيه صواريخ كروز وباليستية نحو الأهداف.
يرى التقرير أن سرعة الابتكار أصبحت معيار القوة الجديد، حيث يقوم أفضل طياري الطائرات المسيرة الأوكرانيين بإجراء تعديلات فورية على البرمجيات والأجهزة لمواجهة أساليب العدو.
ويختبر الطرفان أنواعًا جديدة من الطائرات بوتيرة شبه يومية، أبرزها الطائرات الموجهة عبر كابلات ألياف ضوئية، التي تتميز بمقاومتها للتشويش وقدرتها على تنفيذ كمائن دقيقة في البيئات الحضرية.
خفض التكاليف
تخلت القوات تدريجيًا عن الطائرات الباهظة لصالح نماذج أرخص مثل "مولنيا" الروسية و"دارت" الأوكرانية، التي يقل سعرها عن 3000 دولار، ما يسمح بإطلاق أسراب كبيرة على هدف واحد.
كما انتشرت الطائرات القاذفة القادرة على إسقاط ألغام أو ذخائر مباشرة، وهو ما ساهم في صد الهجمات الروسية بشكل فعّال، حيث يقدر أن نصف المركبات الروسية المدمرة في بعض الجبهات نتج عن هذه التكتيكات.
وتشير "فورن أفيرز" إلى أن أتمتة الطائرات المسيرة عبر الذكاء الاصطناعي قد تحل كثيرًا من مشكلات الميدان، مثل أخطاء الطيارين أو التشويش، وتعمل الشركات على تطوير أنظمة قادرة على تنفيذ عمليات نهائية للهجوم بشكل شبه مستقل، والتعرف على الأهداف المتحركة في بيئات معقدة، كما يجري العمل على تطوير أسراب آلية يمكن لطيار واحد إدارتها، قادرة على التواصل فيما بينها وتنسيق الضربات بشكل متزامن.