يمثل توقيع اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان في واشنطن، بوساطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حدثًا فارقًا في التاريخ السياسي لمنطقة جنوب القوقاز. فهذا الاتفاق لا يُقرأ فقط باعتباره نهاية فصل دامٍ من الصراع على إقليم ناجورنو كاراباخ، بل باعتباره إعادة صياغة عميقة لخريطة النفوذ في واحدة من أكثر الساحات الجيوسياسية حساسية، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية (روسيا وتركيا وإيران) مع مصالح القوى الدولية الكبرى (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة). إن اختيار واشنطن كمسرح للتوقيع ودور ترامب كوسيط، يمنح الاتفاق أبعادًا استراتيجية جديدة، تتجاوز الإطار الإقليمي لدولتي الاتفاق لتتداخل مع التوازنات الدولية في إقليم جنوب القوقاز.
في هذا السياق، يُثار تساؤل رئيسي وهو: ما حدود التأثير الإقليمي والدولي المحتملين لاتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان؟
تأثيرات إقليمية محتملة
يتضمن اتفاق السلام الشامل بين أرمينيا وأذربيجان الموقع في البيت الأبيض، إنشاء ممر اقتصادي(TRIPP) يربط أذربيجان بمنطقتها نخجوان عبر أرمينيا، ويهدف لتسوية براجماتية للنزاع. وفي ضوء ذلك، يمكن تحديد بعض التأثيرات المحتملة لهذا الاتفاق على مستوى إقليم جنوب القوقاز، فيما يلي:
(*) تهديد النفوذ الروسي في جنوب القوقاز: كانت روسيا الطرف الأهم في معادلة الأمن بالقوقاز، فكانت الضامن والوسيط وصاحبة الكلمة الفصل لعقود. أما اليوم، وبانتقال مسرح تسوية الصراع الأرميني الأذري إلى واشنطن بعد وساطة ترامب في التوصل لاتفاق السلام لإنهاء هذا الصراع، تتعرض هذه المكانة لهزة استراتيجية تهدد نفوذها في محيطها الإقليمي الحيوي. ويتأكد ذلك في ضوء تحذير وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف من خروج روسيا من عملية الوساطة، معتبرًا أن "السلام السريع" قد يؤدي إلى تصعيد جديد، ودعا إلى تسوية ضمن إطار ثلاثي يشمل موسكو.
(*) تعزيز المحور التركي–الأذري: يفتح الاتفاق الطريق أمام مشاريع الربط الإقليمي مثل ممر زونجزور الذي سيشكل جسرًا بريًا مباشرًا بين أذربيجان وتركيا، بما يحقق مكاسب اقتصادية للدولتين. فهذا المسار يعزز من النفوذ التركي في القوقاز وآسيا الوسطى على حساب طهران وموسكو.
(*) تقييد خيارات إيران في الممرات التجارية بإقليمها: يرجع ذلك إلى أن أي ممرات تجارية أو خطوط طاقة تنشأ بين تركيا وأذربيجان عبر أرمينيا ستلتف على الأراضي الإيرانية، ما يفاقم من عزلتها الاقتصادية ويحد من قدرتها على التأثير في شمالها الاستراتيجي.
(*) كسر العزلة الأرمينية: يتوقع بعد الاتفاق أن تقف أرمينيا التي طالما حوصرت اقتصاديًا وجغرافيًا، على أعتاب انفتاح إقليمي قد يحررها من الهيمنة الروسية، ويفتح الباب أمام استثمارات أمريكية وأوروبية تعيد تشكيل بنيتها التحتية وعلاقاتها التجارية.
تأثيرات دولية مُحتملة
يمكن تحديد بعض التأثيرات المحتملة لاتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان على المستوى الدولي، فيما يلي:
(&) تحقيق مكسب جيوسياسي للولايات المتحدة: يدعم نجاح واشنطن في انتزاع ملف جنوب القوقاز من يد موسكو، حضورها كلاعب أساسي في مناطق النزاع خارج نطاقها التقليدي، ويعيد تقديمها كوسيط قادر على إنتاج تسويات واقعية ذات بعد استراتيجي. ويتأكد ذلك في ضوء تباهي الرئيس الأمريكي؛ دونالد ترامب بالقول: "بعد 35 عامًا من الصراع، أصبحوا أصدقاء، وسيدوم ذلك طويلاً"، وأكد أن الاتفاق هو ثمرة نجاح نادر في تسوية نزاع مزمن.
وتقديرًا لوساطة ترامب في التوصل لهذا الاتفاق، أعلن الرئيس الأذري إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام، تقديرًا لجهوده الدبلوماسية. ووصف الرئيس علييف الاتفاق بأنه يمثل "بداية شراكة استراتيجية"، مشيدًا بمسار "ترامب" للتجارة والسلام، وقال: "في خلال ستة أشهر حقق ترامب معجزة". واعتبر رئيس الوزراء الأرميني الاتفاق "إنجازًا مهمًا"، مؤكدًا أن هذا التقدم ما كان ليتحقق بدون الالتزام الشخصي لترامب.
(&) التأثير السلبي على الهيبة الروسية: يؤثر تراجع الدور الروسي في إدارة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان وفرض حل نهائي، على صورة موسكو كضامن للأمن في جوارها المباشر، ويترتب على ذلك احتمال اتجاه شركاء روسيا في آسيا الوسطى للبحث عن بدائل في واشنطن وبروكسل وأنقرة.
(&) تعزيز إمدادات الطاقة الأوروبية: من شأن التوصل لاتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، تحقيق استقرار ولو نسبي في جنوب القوقاز، وهو الأمر الذي من شأنه تأمين تدفق الغاز الأذري عبر تركيا نحو أوروبا، متماشيًا مع الأجندة الأمريكية لتقليص الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية، وهو ما يعمق البعد الاستراتيجي للاتفاق.
(&) إعادة تشكيل التحالفات الدولية في المنطقة: يعكس التنسيق الأمريكي–التركي في التوصل لاتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، إمكانية بناء شراكات براجماتية أكثر عمقًا بين الطرفين في مسارح أخرى، رغم الخلافات بينهما في ملفات أخرى مثل شرق المتوسط وسوريا.
وفي النهاية، يُمكن القول إن اتفاق واشنطن بين أرمينيا وأذربيجان هو أكثر من وثيقة سلام، إنه إعلان صريح عن دخول جنوب القوقاز مرحلة جديدة من إعادة التموضع الجيوسياسي، حيث تتراجع موسكو تحت ضغط الحرب في أوكرانيا، وتتقدم واشنطن وأنقرة لملء الفراغ. في هذا المشهد، تتحول أرمينيا من تابع لروسيا إلى شريك محتمل للغرب، فيما تعزز أذربيجان موقعها كمحور طاقة وممر استراتيجي بين آسيا وأوروبا. ورغم الزخم السياسي والاقتصادي الذي يحمله الاتفاق، يبقى التحدي الأكبر في ترجمة نصوصه إلى واقع، وضمان ألا يتحول إلى هدنة مؤقتة في انتظار جولة صراع جديدة. فالقوقاز بتاريخه الملتهب وموقعه الفريد، لم يكن يومًا مسرحًا لتسويات نهائية، بل لسلسلة من التوازنات المتغيرة التي تصنعها القوة بقدر يفوق ما تصنعه الدبلوماسية.