تمثل شبكات التهريب في سوريا أحد التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه الإدارة السورية الجديدة، التي تسعى في الفترة الأخيرة إلى خنق طرق التهريب التي تعبر الحدود السورية خاصة مع لبنان.
وتُعدّ هذه الطرق آخر ما تبقى من الجسر البري، وهي شبكة تمتد عبر الأراضي السورية، التي استخدمتها إيران والميليشيات المتحالفة معها لنقل الأسلحة، والأموال، والمخدرات، والوقود من سوريا لدول جوارها الجغرافي وخاصة لبنان.
وساهمت هذه الطرق في دعم حكومة الرئيس السوري السابق بشار الأسد، ووفرت دعمًا ضروريًا لحليف النظام القوي "حزب الله" اللبناني، إلا أن ذلك الوضع اختلف جذريًا بعد الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر الماضي، ما شكَّل انتكاسة كبيرة لقوة إيران الإقليمية، وعزلها إلى حد كبير عن "حزب الله" في لبنان.
وتسعى الإدارة السورية الجديدة إلى القضاء على شبكات التهريب الممتدة على ذلك الجسر البري، لذلك تستهدف قوات الحكومة السورية في الوقت الراهن، طرق التهريب على طول الحدود الممتدة لـ233 ميلًا مع لبنان، وهي طرق حيوية لإيران والميليشيات المتحالفة معها لنقل الأسلحة والأموال والمخدرات من سوريا، لذلك يمثل موضوع التهريب والوضع الأمني على الحدود بين سوريا ولبنان، أحد أهم الملفات التي ناقشها رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام خلال زيارته دمشق، ولقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع، في 14 من أبريل الجاري.
في هذا السياق، تثار العديد من التساؤلات وهي: ما تأثيرات شبكات التهريب عبر الحدود على الدولة السورية؟ وإلى مدى تم إضعاف هذه الشبكات في عهد الإدارة السورية الجديدة؟ وما الجهود المستقبلية للإدارة السورية الجديدة في مكافحة مثل هذه الشبكات؟
تأثيرات متعددة
تؤثر شبكات التهريب في سوريا على العديد من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلًا عن تأثيراتها على الاستقرار الإقليمي للدولة السورية، ويمكن بيان هذا التأثيرات تفصيلًا فيما يلي:
(*) التأثيرات الاقتصادية: يترتب على أنشطة التهريب التي تقوم بها هذه الشبكات، تدهور الاقتصاد السوري، فمن شأن هذه الأنشطة، تقليص الإيرادات الرسمية للدولة، إذ يتم تهريب السلع والموارد بشكل غير قانوني، ما يؤدي إلى تقليص الضرائب والجمارك التي كانت ستدخل خزينة الدولة السورية.
وعلى سبيل المثال، يؤدى تهريب النفط أو السلع الاستهلاكية إلى خسائر كبيرة للاقتصاد السوري، فضلًا عن المنافسة غير العادلة؛ لأن التهريب يجعل من الصعب على الشركات المحلية التنافس مع المنتجات المهرَّبة، ما قد يؤدي إلى تدمير بعض الصناعات المحلية، خصوصًا في حال كانت السلع المهربة أقل تكلفة أو تحظى بمواصفات مشابهة للبضائع المحلية.
(*) التأثيرات الاجتماعية: تساهم أنشطة التهريب في تفشي الفقر بسبب تأثير التهريب على الاقتصاد، إذ تعيش فئات واسعة من الشعب السوري في ظروف اقتصادية صعبة، وتتزايد معدلات الفقر بسبب نقص فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة، فشبكات التهريب قد تساهم في تعطيل النشاطات التجارية المشروعة وخلق بيئة اقتصادية غير مستقرة.
كما تؤثر أنشطة التهريب على الأمن الاجتماعي السوري من خلال انتشار تجارة المواد المهرَّبة، مثل المخدرات والأسلحة والمواد المحظورة، لذلك تزداد نسبة الجريمة في مناطق مزاولة هذه الأنشطة، فتؤدي تلك الأنشطة إلى تهديد الأمن والسلم المجتمعي، إذ تصبح المجتمعات أكثر عرضة للتطرف والعنف، ويُضاف لما سبق أن التهريب يعزز من شبكات الهجرة غير القانونية، إذ يلجأ العديد من الأشخاص للمهربين من أجل الانتقال عبر الحدود بطرق غير شرعية، ما يؤدي إلى تدفقات غير منضبطة من المهاجرين والذي يشكل عبئًا إضافيًا على دول الجوار التي غالبًا ما تكون غير مجهزة للتعامل مع هذا التدفق.
(*) التأثيرات الأمنية: تساهم أنشطة التهريب في تقوية الجماعات المسلحة، فغالبًا ما ترتبط شبكات التهريب بالجماعات المسلحة التي تستفيد من الأرباح الناتجة عن تهريب الأسلحة أو المقاتلين، ويعزز هذا الارتباط بين الجماعات المسلحة وشبكات التهريب في سوريا من قدرة هذه الجماعات على تأجيج الصراع في سوريا والمناطق المجاورة في أي وقت.
كما أن التهريب عبر الحدود السورية قد يساهم في ضعف السيطرة على هذه الحدود مع دول الجوار مثل العراق ولبنان وتركيا، فهذه الشبكات تستفيد من الفوضى وضعف الرقابة على الحدود للتنقل بحرية عبرها، ما يزيد من تعقيد جهود حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة.
وتدعم أنشطة التهريب العنف والتطرف، فالتهريب لا يقتصر فقط على السلع، بل يمتد ليشمل الأسلحة والمخدرات التي يمكن أن تكون جزءًا من تمويل الجماعات الإرهابية وتعزيز قدرة على تنفيذ هجماتها ونشر نفوذها.
(*) التأثيرات السلبية على علاقات سوريا الدولية: أدت أنشطة شبكات التهريب عبر الحدود، لتدهور العلاقات بين سوريا وبعض دول جوارها الجغرافي، فهذه الأنشطة قد تساهم في زيادة التوترات السياسية خاصة في ظل الوضع المعقد في المنطقة. وفي كثير من الأحيان، تعرض النظام السوري السابق لضغوط من المجتمع الدولي بسبب تسهيل أو غض الطرف عن شبكات التهريب العابرة للحدود.
جهود حيوية
تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى إحكام سيطرتها على الحدود التي تمثل خط الدفاع الأول عن الشعب السوري، وبدون تحقيق ذلك لا يمكن أن تستمر هذه الإدارة، ولا يمكن أن تتحقق شرعيتها لدى مواطني سوريا، ويعد القضاء على شبكات التهريب الممتدة عبرها منذ سنوات كثيرة أولى خطوات حماية هذه الحدود وتحقيق الأمن للمجتمع السوري.
وأطلقت الحكومة السورية في فبراير الماضي حملة عسكرية واسعة تهدف إلى إغلاق المعابر غير الشرعية، وملاحقة المهرّبين، وتعزيز نقاط المراقبة الحدودية. وكلّفت القيادة العسكرية الفرقةَ 103 بهذه المهمة، والتي بدأت عمليات التمشيط من بلدة (حاويك)، نظرًا لموقعها الاستراتيجي كأحد مراكز التهريب الحيوية.
وبصفة عامة، تتوقف الجهود المستقبلية للإدارة السورية الجديدة في مكافحة شبكات التهريب الممتدة على طول حدودها مع دول الجوار المختلفة لتلافي تأثيراتها العديدة، على عدة عوامل يأتي في مقدمتها ما يلي:
(&) استكمال إعادة هيكلة المنظومة الأمنية: في ظل الإدارة السورية الجديدة، قد تشهد البلاد إعادة هيكلة شاملة في المنظومة الأمنية، وهذا من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على الطريقة التي تتم بها مكافحة التهريب. فقد تحتاج الإدارة الجديدة إلى تقوية الأجهزة الأمنية وتدريبها على أساليب حديثة لمكافحة التهريب، وتعزيز الرقابة على الحدود.
(&) تعزيز الرقابة على الحدود السورية والنقاط الحيوية فيها: سيظل ملف محاربة التهريب من أولويات النظام الجديد، وتتمثل في استعادة سيطرته الفعّالة على الحدود مع الدول المجاورة. ومن المحتمل إلى حد كبير أن يتم التركيز على إعادة تأهيل وتطوير الوحدات المسؤولة عن أمن الحدود لتكون قادرة على وقف عمليات التهريب عبر المنافذ غير الرسمية.
(&) التعاون بين سوريا ودول الجوار في مكافحة التهريب: يعد التعاون والتنسيق مع دول الجوار أداة رئيسية لمكافحة شبكات التهريب، وفي هذا السياق سيكون من الضروري التنسيق مع السلطات التركية على الحدود السورية التركية، وكذلك مع السلطات اللبنانية والعراقية والأردنية لضمان عدم تسرب السلع عبر الحدود.
(&) تعزيز جهود التعاون الدولي لمكافحة التهريب: من الممكن أن يتجه النظام الجديد في سوريا إلى تحسين علاقاته مع المجتمع الدولي، بما في ذلك دعم جهود مكافحة التهريب، وهذا قد يشمل التعاون مع الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية لمكافحة تهريب المخدرات والأسلحة، بالإضافة إلى توفير دعم فني وتقني لتحسين الرقابة على الحدود.
(&) احتواء الفصائل المسلحة: في ظل حكومة سورية جديدة، ستكون هناك ضرورة للحد من تهريب الأسلحة، الذي قد يظل مستمرًا من خلال الشبكات المحلية أو الدولية. فقد يعزز النظام الجديد في سوريا التعاون مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة لمراقبة تهريب الأسلحة، ويشدد الرقابة على نقل الأسلحة والمعدات العسكرية عبر الحدود.
وقد تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى ضبط الفصائل المسلحة المختلفة التي قد تكون متورطة في أنشطة التهريب، مثل تهريب الأسلحة أو التجنيد غير القانوني عبر ضمان انصهارها التام في مؤسسات الدولة. وقد تشمل هذه الجهود إقناع هذه الفصائل بالانخراط في العملية السياسية مقابل الامتيازات الاقتصادية والسياسية.
(&) تفعيل النظام الاقتصادي الرسمي وتنظيم التجارة السورية: قد تقوم الإدارة السورية الجديدة بتطوير سياسة اقتصادية جديدة تهدف إلى تقليص الاعتماد على الأنشطة غير القانونية مثل التهريب. وقد تتضمن هذه السياسات توفير فرص عمل للشباب في قطاعات، مثل الزراعة والصناعة والخدمات، ما يقلل من الحاجة للجوء إلى التهريب كمصدر دخل.
وقد تشهد الفترة المقبلة تشجيع الصناعات المحلية السورية على التوسع من خلال تقديم حوافز ضريبية، وتمويل مشروعات صغيرة ومتوسطة الحجم، ما سيسهم في تقليص النشاطات الاقتصادية غير المشروعة مثل التهريب، إذ ستكون السلع المحلية قادرة على المنافسة بشكل أفضل في السوق.
وفي النهاية، يمكن القول إن شبكات التهريب الممتدة منذ سنوات عديدة عبر الحدود السورية، كانت ولا تزال تشكل تهديدًا متعدد الأبعاد على الدولة السورية. فمن الناحية الاقتصادية، تزيد من الفقر وتؤدي إلى خسائر كبيرة في الإيرادات الحكومية السورية. واجتماعيًا، تساهم في تفشي الفقر والجريمة وتدهور الأمن الاجتماعي السوري. ومن الناحية الأمنية، تعزز من قوة الجماعات المسلحة وتجعل من الصعب مراقبة الحدود السورية. وعلى المستوى الدولي، تساهم هذه الشبكات في توتير علاقات سوريا مع بعض دول جوارها الجغرافي، لذلك قد يمكن القضاء على مثل هذه الشبكات من تحقيق انطلاقة أمنية واقتصادية قوية للإدارة السورية الجديدة بما يحقق استعادة الدولة السورية لبعض من عناصر قوتها المهمة التي فقدتها بسبب التأثيرات السلبية العميقة لأنشطة التهريب التي تقوم بها تلك الشبكات.