تحظى دعوة 64 مليون ناخب تركي يوم 14 مايو 2023 إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس، و600 نائب لعضوية الجمعية الوطنية لمدة 5 سنوات مقبلة، باهتمامٍ بالغ سواءً على المستويات الداخلية، أو الإقليمية أو الدولية؛ نظرًا لانعكاس نتائج هذه الانتخابات على توجهات السياسة التركية داخليًا وخارجيًا. وقد دعا المجلس الأعلى للانتخابات نحو 3.28 مليون مُغترِب مؤهل للإدلاء بصوته في الانتخابات التركية 27 أبريل 2023، فيما سيُصوّت الناخبون داخل تركيا في 14 مايو من العام الجاري.
توضيحًا لما سبق، يحاول هذا التحليل قراءة واقع الانتخابات العامة في تركيا، لا سيَّما الانتخابات الرئاسية التي يتنافس فيها أربعة مرشحين، وانتخابات الجمعية الوطنية التي يتنافس فيها أربعة تحالفات انتخابية أساسية، إضافة لعددٍ من الأحزاب، مع إبراز أهم المؤثرات الجديدة التي قد تؤثر على نتائج هذه الانتخابات.
واقع المشهد السياسي:
قد يكون من المُهم الإشارة إلى بعض المقدمات التأسيسية حول الانتخابات العامة في تركيا 2023، لفهم الآليات الإجرائية، والعوامل المؤثرة في هذه الانتخابات، وذلك كالتالي:
(*) النظام الانتخابي: تتبنى تركيا نظام "هوندت" للتمثيل النسبي في الانتخابات البرلمانية، وهو يقوم بالأساس على تزكية التحالفات الانتخابية. ويتم من خلال هذا النظام توزيع عدد الأصوات التي حصلت عليها كل قائمة على عدد الأحزاب بما يضمن المواءمة بين دقة التمثيل والاستقرار مع إلزام الأحزاب بما يُسمى بـ"العتبة الانتخابية"، والمُحددة بـ7% في هذه الانتخابات.
(*) التحالفات الانتخابية: تُشارك مجموعة من الأحزاب، وأربعة تحالفات في هذه الانتخابات وهي؛ تحالف الجمهور الذي يضم أحزاب العدالة والتنمية (الحاكم)، والحركة القومية، والرفاه الجديد بقيادة نجل نجم الدين أربكان أستاذ الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، والاتحاد الكبير، وحزب الهدى الإسلامي الكُردي، وتحالف الأمة المعروف إعلاميًا بـ"الطاولة السُداسية" ويضم أحزاب الشعب الجمهوري، والجيد، والمستقبل بزعامة أحمد داود أوغلو، والتقدم والديمقراطية، والديمقراطي، وتحالف العمل والحرية بقيادة حزب الشعوب الديمقراطية، ويضم أحزاب العمل، والحركة العمالية، وعمال تركيا، واتحاد الجمعيات الاشتراكية، وحزب الحرية المجتمعية، وتحالف الأجداد (ATA) اليمني القومي الذي يضم أحزاب الظفر، والعدالة، ودولتي.
(*) أبرز مرشحي الرئاسة، وبرامجهم: يتنافس في هذه الانتخابات 4 مرشحين وفق ما أعلنه المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا، وتُشير التقديرات إلى تصدّر مرشحي تحالفي الجمهور والأمة لاستطلاعات الرأي. ونبرز فيما يلي المرشحين الأربع، وأبرز ما تضمنته برامجهم الانتخابية:
(&) رجب طيب أردوغان: يُعتبر الرئيس التركي الحالي "أردوغان" مرشح تحالف الجمهور. ويُعوّل هذا التحالف في هذه الانتخابات على تماسك قاعدته الشعبية، وشخصية أردوغان، وما قدمه حزب العدالة والتنمية للواقع الاقتصادي التركي خلال العشرين عامًا الفائتة. وتُعد مسائل مثل الأزمة الاقتصادية الأخيرة وملف اللاجئين، وطول مدة حكم حزب العدالة والتنمية المُشكِل الرئيس لهذا التحالف أبرز نقاط ضعفه. ويتعهد أردوغان خلال هذه الانتخابات بخفض نسب التضخم وتحقيق النمو الاقتصادي عبر الاهتمام بالاستثمار والتوظيف والإنتاج والصادرات.
(&) كمال كليتشدار أوغلو: يخوض كليتشدار هذه الانتخابات مُمثلًا عن كتلة الطاولة السداسية (تحالف الأمة)، ويُعوّل بشكلٍ كبير في هذه الانتخابات على التنوع الأيديولوجي الذي يتميز به تحالفه الانتخابي، وانعكاسات الفوز بكبرى البلديات مثل إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية 2019. على الجانب الآخر، تتمثل نقاط ضعف كليتشدار في شخصيته التي تفتقد لكاريزما القائد السياسي كما يرى الكثيرون، وحالة التباين الفكري والأيديولوجي بين مُمثلي الطاولة، وغموض برنامجهم الانتخابي الذي أغفل الجوانب الاقتصادية وركز على انتقاد سياسات أردوغان، وظهوره كرد فعل لها، وكذلك العمل على العودة للنظام البرلماني كما كانت تركيا قبل التعديلات الدستورية 2017.
(&) سنان أوجان: مرشح تحالف الأجداد (أتا)، ويعد أوجان بالعودة للنظام البرلماني، وإعادة المهاجرين واللاجئين، والاهتمام بالزراعة، ورفع الحد الأدنى للأجور فوق مستوى حدود الفقر، ويتطلع لتطبيع العلاقات مع سوريا، ولا يرحب بوجود اللاجئين السوريين في تركيا.
(&) محرم إنجه: يكتسب إنجه قوته من انتخابات 2018؛ إذ نافس أردوغان ممثلًا عن حزب الشعب الجمهوري، وحصل على 30% في هذه الانتخابات قبل أن يستقيل ويؤسس حزب الوطن. يتبنى إنجه اتجاه تدعيم الاقتصاد والسياحة، وتخفيض الإيجارات. وترى التحليلات أن دخوله في السباق الانتخابي يصب في مصلحة أردوغان خاصة أن استمراره يخصم من شعبية حزب الشعب الجمهوري.
مؤثرات جديدة:
تتميز انتخابات تركيا 2023 عن سابقتها في 2018 ببروز مجموعة من المؤثرات الجديدة التي لم تتوفر في 2018؛ ومن أبرز هذه المؤثرات:
(*) وحدة تحالف المعارضة، وتنوعه: يواجه الرئيس التركي أردوغان اختبارًا انتخابيًا ضخمًا في 14 مايو المقبل، خاصة بعد تمكن قوى المعارضة الرئيسية من اختيار مُرشح موحد لها؛ هو كمال كليتشدار أوغلو. وتُعد هذه المرة الأولى التي يواجه فيها أردوغان تحالفًا يضم 6 أحزاب معارضة يجمعها هدف واحد، هو هزيمة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات؛ وذلك على الرغم من اختلافاتهم الأيديولوجية والفكرية. ويعتبر صلاح الدين دميرطاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي (الموقوف حاليًا في أحد السجون التركية بتهمة الإرهاب) أن الأتراك مكلفون باغتنام فرصة وحدة المعارضة ليس فقط لتجاوز حقبة الاستقطاب الحاد الذي تعيشه تركيا منذ عام 2016 لكن للفوز بالانتخابات أيضًا.
(*) الأوضاع الاقتصادية: يعتبر العديد من المحللين أن أساس صعود أردوغان وحزبه على الساحة السياسية التركية أداؤهم الاقتصادي، وهو الأمر الذي تغير لأول مرة في هذه الانتخابات؛ إذ شهد عام 2022 تراجعًا واضحًا في الأوضاع الاقتصادية بتركيا؛ نتيجة لسياسة خفض الفائدة، وهروب الأموال الساخنة. في هذا السياق، تجاوز حجم التضخم حاجز الـ80%، ووصلت البطالة لنحو 10.1%، ورُغم أن حالة ضعف الأداء الاقتصادي ارتبطت في أغلبها بسياقٍ عالمي، إلا أن الشارع التركي لا يعترف بذلك.
(*) التنافس بين المعسكرين الغربي والشرقي: تشهد الانتخابات التركية لعام 2023 تنافسًا حادًا بين النفوذ الروسي والأمريكي؛ إذ تميل موسكو إلى التعامل مع حكومة حزب العدالة والتنمية أكثر من أي وقتٍ مضى؛ نظرًا للتفاهمات التي ترسخت بين الجانبين على مدار السنوات الفائتة، لا سيَّما في ملفي أوكرانيا وسوريا. على الناحية الأخرى، يميل المعسكر الغربي بقيادة واشنطن إلى تغيير الأوضاع السياسية في تركيا لصالح المعارضة؛ نظرًا لموقف أردوغان من انضمام السويد إلى الناتو، وقربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما يعتبرونه من مواقف مرنة في السياسة التركية تجاه الأوضاع في أوكرانيا. يتأكد هذا السياق بانتقاد أردوغان لتحركات السفير الأمريكي لدى أنقرة "جيف فليك" بعد نشر صفحة السفارة على تطبيق تويتر في 29 مارس من العام الجاري زيارة "فليك" لمنافس أردوغان الرئيسي في هذه الانتخابات كمال كليتشدار أوغلو. ورغم ذلك، يحاول المعسكر الغربي ألا يُفرط في نفوذه في تركيا لصالح موسكو، وهي ثاني قوة عسكرية في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة.
(*) وجه جديد للعلمانية التركية: يبدو من خلال تتبع الخطاب السياسي الذي يقدمه مرشح تحالف الأمة المعارض "كليتشدار" أن هناك تطورًا فرضته الظروف السياسية على القوى العلمانية التركية التي كانت ترفض قديمًا أي دور للمظاهر الدينية في الشأن العام؛ إذ حرص "كليتشدار" في أكثر من مناسبة على إبراز ذلك في شخصيته، وكذلك قبول حزب الشعب الجمهوري، وهو حزب علماني بالتحالف مع أحزاب محافظة مثل حزب المستقبل الذي يتزعمه رئيس الوزراء التركي الأسبق، أحمد داوود أوغلو" الذي انشق عن حزب العدالة والتنمية بعد خلافه مع الرئيس التركي، أردوغان.
(*) دور الجيل Z في الانتخابات: قد تلعب الأجيال الجديدة دورًا مهمًا في الانتخابات العامة بتركيا 2023؛ إذ أبرز مسح لمؤسسة "أو آر سي" أن قرابة 50% من الشباب سيدعم تحالف المعارضة في هذه الانتخابات. ويُشكل جيل Z (الشباب في الفترة العمرية من 18-25 عامَا) نحو 13% من الناخبين، وتميل التحليلات إلى أن هذا الجيل ولد بين أعوام 1998- 2005، وهو ما يعني أنه ترعرع في فترات مستقرة اقتصاديًا، وهو الأمر الذي يجعله بعيدًا عن الحزب الحاكم بسبب تراجع الأداء الاقتصادي في السنوات الأخيرة دون أن يذكر الطفرات الاقتصادية التي قام بها حزب العدالة والتنمية لتغيير هذه الأوضاع منذ وصوله للسلطة في 2002. وفي هذا السياق، سيقوم نحو 4 ملايين ناخب للتصويت في هذه الانتخابات لأول مرة، لذلك قد يكون لهم دور مهم خلال هذه الانتخابات، خاصة أن استطلاعات الرأي المختلفة تشير إلى تقارب نسب المرشحين، وهو ما يُمكن أن يقود بهذه الانتخابات إلى جولة ثانية للحسم.
(*) تبعات زلزال كهرمان مرعش: واجه حزب العدالة والتنمية الحاكم انتقادات حادة بشأن تعاطيه من تبعات زلزال كهرمان مرعش الذي ضرب جنوب البلاد في 6 فبراير 2023؛ بعدما اُتهمت حكومة الحزب بالإهمال والتقصير. وعلى الرغم من الثقة التي يحظى بها أردوغان وحزبه إلا أنه يهاب إعادة ما حدث بعد زلزال إزميت عام 1999 الذي راح جراءه 17127 ضحية، وأدى إلى خسارة الحكومة الائتلافية الأغلبية في انتخابات عام 2002 التي أفرزت حزب العدالة والتنمية كحزب روَّج لنفسه على أنه قادر على تجاوز آثار الزلزال وقتها، وتقديم تجربة جديدة للمشهد السياسي التركي.
إجمالًا، من المُرجح أن تشهد الانتخابات البرلمانية رقم "28"، والرئاسية رقم "13" في تاريخ الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك (1923 – 1938) عام 1923 عقب سقوط الدولة العثمانية منافسة عالية، ويعزز من هذا السيناريو قدرة المعارضة التركية الرئيسية على التوحد لأول مرة خلف مرشح رئاسي رغم تنوعها الفكري والأيديولوجي، ومن المُتوقع أن يلقي ذلك بظلاله كذلك على تشكيل الجمعية الوطنية، لا سيَّما أن هذه الانتخابات تُعلي من شأن التحالفات الانتخابية.