يتعقد مسار المحادثات السورية الإسرائيلية رغم الجهود الأمريكية الحثيثة لتوسيع إطار اتفاقات السلام الإقليمية مع إسرائيل، مع استمرار الخروقات الإسرائيلية للسيادة السورية، اتخذت إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا خطوات جديدة باتجاه إعادة استكشاف العلاقات مع روسيا الحليف السابق لنظام بشار الأسد، في الوقت الذي استمرت فيه الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية بعمليات للقوات الخاصة لمصادرة أسلحة واستجواب عناصر مسلحة في الجنوب السوري، إلى جانب التوتر المستمر في محافظة السويداء بين قوات الأمن الداخلي وميليشيات محلية درزية.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي حدود وفرص نجاح المفاوضات السورية الإسرائيلية وعوائق التوصل لاتفاقات طويلة الأمد.
أبعاد ومحددات المحادثات
بدأت المحادثات قبل أشهر من التصعيد الأخير في السويداء، الذي اندلع 13 يوليو الماضي، وشهد قصف مبنى رئاسة الأركان السورية، قبل أن تُستأنف برعاية المبعوث الأمريكي توم باراك بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمير في باريس، 24 يوليو 2025، وهو اللقاء الأول بهذا المستوى عقب أحداث السويداء واستهدف بحسب الإعلام الرسمي السوري إجراء مشاورات أولية ذات طابع أمني لخفض التصعيد وإعادة فتح قنوات الاتصال إلى جانب تأكيد التزام الحكومة بوحدة الأراضي السورية.
وفيما يلي أبرز المحددات الداعمة التي يستند إليها مسار المحادثات بين سوريا وإسرائيل:
(*) العامل التركي: تلعب تركيا دورًا مهمًا وميسرًا في تحريك المحادثات بين الجانبين باعتبارها أقرب شركاء الحكومة الانتقالية السورية من خلال التفاهمات الأمنية الثنائية، التي قادها كل من رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنجبي، التي استهدفت تدشين خط ساخن لمنع الصدام العسكري بين أنقرة وتل أبيب في الأجواء السورية. وبحسب موقع "أكسيوس" التقى هنجبي عدة مرات، وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في باكو، استجابة لعرض تركي بانضمام الجانب السوري للمحادثات الأمنية.
(*) الرؤية الأمريكية: استندت الرؤية الأمريكية في التعامل مع الملف السوري من دافعين أساسيين، أولهما الاستجابة لمطالبات الجانب السعودي برفع العقوبات عن دمشق، وثانيهما خلق مناخ جيوسياسي يدعم مكتسبات الحرب على المحور الإيراني بالتوافق مع الرؤية التركية في الملف السوري، وهو ما ظهر ليس فقط في الانفتاح على الإدارة الانتقالية، وإنما في إيجاد مسار جديد للسلام الإبراهيمي بين إسرائيل وسوريا انطلاقًا من أذربيجان التي باتت فاعلًا جيوسياسيًا صاعدًا ومهمًا في الشرق الأوسط، استنادًا لاحتياطياتها من الغاز الطبيعي التي مثلت أحد البدائل للغاز الروسي إلى أوروبا، إلى جانب علاقاتها المستقرة مع إسرائيل ودورها في الوساطة أو تيسير إجراء المحادثات بين إسرائيل وعدد من الفواعل الإقليميين وعلى رأسهم تركيا.
ولتفعيل تلك الرؤى، تدعم الإدارة الأمريكية عبر مسارين متوازيين المحادثات السورية الإسرائيلية وصولًا لصفقة متكاملة للسلام الاقتصادي بين الجانبين، يأتي في مقدمتها تسهيل المحادثات المباشرة بين دمشق وتل أبيب، وبناء تحالف إقليمي يدعم تلك الصفقة بدعم وتمويل من دولة قطر عبر إيصال الغاز الأذري عبر تركيا إلى سوريا، الذي تم تدشينه 2 أغسطس الجاري، ويغذي في المرحلة الأولى حلب ثم دمشق في المرحلة الثانية. ومن المحتمل أن يمتد المشروع ليشمل إسرائيل في مرحلة لاحقة، ما يعزز مصالح الجانبين التركي والأذري ويعطي الجانب السوري ورقة تفاوضية قوية عبر تزويد الغاز لإسرائيل.
(*) الجانب الروسي: اتخذت روسيا خطوات متقدمة في إظهار الدعم للسلطات الجديدة بدمشق سعيًا للحفاظ على موطئ قدم لها في منطقة الشرق الأوسط عبر قاعدتيها البحرية في طرطوس والجوية في حميميم، وهو ما ظهر في دعم الرئيس الانتقالي أحمد الشرع لحضور القمة العربية الروسية، منتصف أكتوبر المقبل، فضلًا عن استقبال الرئيس فلاديمير بوتين لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في الكرملين 31 يوليو 2025، على هامش زيارته لموسكو التي استغرقت يومين.
وعلى الرغم من انكفائها النسبي عن أزمات الشرق الأوسط، عقب سقوط بشار الأسد نشطت الدبلوماسية الروسية مؤخرًا للحفاظ على ما تبقى من نفوذها في سوريا ودعم الحلول الدبلوماسية بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وإيران من جهة أخرى. وفي هذا الصدد أجرى الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي اتصالين هاتفيين، 28 يوليو و4 أغسطس 2025، وانصب التركيز فيها على الملف السوري وتأكيد الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية وتعزيز استقرارها السياسي من خلال احترام الحقوق المشروعة للمجتمعات العرقية والدينية، حسب بيان الكرملين عن المكالمة الأولى.
ويؤشر التواصل مع روسيا أن الإدارة الانتقالية السورية تناور من أجل امتلاك أوراق ضغط متعددة للتعامل مع واقع القوة المفرطة لإسرائيل ورغبتها في فرض التقسيم الإثني والطائفي في سوريا، وعدم وجود دور تركي نشط في التصدي للعدوان الإسرائيلي على دمشق.
ومن الممكن أن تلعب روسيا دورًا في بناء الجيش السوري وإعادة تسليحه بالنظر لاعتماد الجيش السابق بصورة رئيسية على العتاد العسكري الروسي، كما من الممكن أن تعرض روسيا الإشراف على تفاهمات مع الجانب الإسرائيلي كطرف ضامن محتمل في أي تفاهم أمني مع إسرائيل حول نزع سلاح الجنوب مقابل انتشار روسي محدود في تلك المناطق في إطار تعديل محتمل لاتفاق فض الاشتباك 1974، على غرار انتشار الشرطة العسكرية الروسية بموجب اتفاق سابق بين موسكو وواشنطن وعمّان، عام 2018.
أفق محدود
رغم المساعي المتواصلة من عدة أطراف إقليمية ودولية لإيجاد تفاهمات مشتركة بين دمشق وتل أبيب في صيغة اتفاق أمني يستبدل اتفاق فض الاشتباك، إلا أن عوامل داخلية ودولية وأخرى حول جوهر العلاقات السورية الإسرائيلية قد تحد من إنجاز تفاهمات كبرى على غرار السلام الإبراهيمي وهو ما يمكن استعراضه في النقاط التالية:
(&) تحديات داخلية: على الرغم من حديث الرئيس السوري عن مشتركات مع إسرائيل فيما يتعلق بالعداء لإيران، إلا أن تحديات داخلية متعددة تحول دون تطبيع العلاقات بين الجانبين، أولها الرفض الواسع في قواعد الفصائل المنضوية تحت قيادة الشرع للقبول بسلام مع إسرائيل بينما تواصل الأخيرة القصف والتدمير في الأراضي السورية تحت ذريعة مواجهة إيران والفصائل الموالية لها. وعلى اتصال بذلك الموقف مسوغات التفاهم مع إسرائيل التي باتت تتآكل في ظل الاختلال الكبير في ميزان القوى ورغبة الأخيرة في فرض اتفاق استسلام على سوريا تنشأ بموجبه مناطق واسعة منزوعة السلاح في ظل هاجس دعم الأقليات بما يضعف نفوذ السلطة المركزية بدمشق ويمهد الطريق لبناء فيدرالية هشة على أسس مذهبية وطائفية، وتظل العاصمة دمشق بموجبه تحت طائلة نيران العدوان الإسرائيلي أو المجموعات والفصائل المناوئة سواء من داخل معسكر الإدارة الانتقالية أو من قبل القوى المسلحة ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية، التي يسيطر عليها المكون الكردي مدعومًا ببعض العشائر العربية في الشمال الشرقي أو الفصائل الدرزية في الجنوب.
(&) عوامل بنيوية: يرتبط إيجاد سلام دائم بين سوريا وإسرائيل بإيجاد أسس للاحترام المتبادل ووضع أرضية مشتركة يمكن التفاهم عليها وتحافظ على "الشرعية الثورية" للنظام الجديد في مواجهة النظام السابق، وهو ما يعني أن دمشق معنية بالحد الأدنى باستعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل، منذ نهاية نوفمبر الماضي، خلال عملية "ردع العدوان" التي انتهت بإسقاط نظام بشار الأسد، فضلًا عن تأكيد استعادة الجولان المحتل وعدم تقديم التزام واضح بالتنازل عنه، سواء في إطار صفقة مشتركة مع الولايات المتحدة وإسرائيل تشمل تبادلًا محتملًا للأراضي بين دمشق وبيروت وتل أبيب، وتوريطًا محتملًا في مواجهة مع إيران أو الفصائل الموالية لها في العراق ولبنان. وتتشابه الأهداف الإسرائيلية والإيرانية في الساحة السورية، إذ تسهم إجراءات البلدين على الأرض بتقويض الاستقرار بالجانب السوري، وهو ما ظهر في المداهمة الإسرائيلية لأربع مناطق بصورة متزامنة ومصادرة أسلحة واستجواب بقرية حضر بريف درعا، 2 أغسطس 2025، بينما لم تتضح أسباب عدم انعقاد الجولة الثانية من المحادثات في باكو، التي تشير لاستمرار الدور السلبي الإسرائيلي في تقويض أمن سوريا خارج إطار الضغوط الداخلية للدفاع عن الدروز.
(&) الوسيط الموثوق: المعضلة الأساسية تتمثل في غياب وسيط موثوق ويحظى بالنزاهة للطرفين، ورغم ما توليه الإدارة الأمريكية من أهمية لسوريا، إلا أن دمشق باتت تدرك حاجتها للمراوحة بين عدد من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة للحصول على ضمانات حقيقية تكبح جماح غرور القوة الإسرائيلية.
ومع التحفظ على الدور الروسي الداعم للرئيس السابق استجابت إدارة الشرع للدعوة الروسية للتباحث بشأن العلاقات الثنائية ومستقبل الوجود العسكري الروسي في البلاد. وعلى الجانب الآخر عاد الدفء لعلاقات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رغم تغاضي الجانب الروسي عن التزامه بمنع وصول حزب الله وإيران لمنطقة الحدود السورية الإسرائيلية بموجب الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة والمملكة الأردنية الهاشمية، خلال سنوات الصراع الأهلي في سوريا. وتبدو تركيا بمفردها غير راغبة في الوقوف بوجه إسرائيل خاصة في ظل التقدم البطيء لعملية السلام ونزع سلاح حزب العمال الكردستاني، فمن شأن تجدد القتال على أي من الجبهات في الداخل السورية وخاصة في منطقة شمال شرق سوريا قد تجد أنقرة نفسها في معركة استنزاف، وهو ما يتزامن مع حديث وسائل إعلام تركية أن أنقرة ودمشق قد توقعان اتفاقًا عسكريًا، نهاية أغسطس الجاري، وبالتالي سيظل الانتشار العسكري التركي المحتمل في سوريا رهين بالتفاهمات مع إسرائيل لضمان عدم تشكيل تهديد.
وإجمالًا؛ تمضي الإدارة الانتقالية في سوريا بمسارات متعددة من أجل امتلاك أوراق ضغط قوية تعزز موقفها التفاوضي في الداخل مع الفرقاء الأكراد والدروز من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، فضلًا عن ارتفاع سقف المطالبات الإسرائيلية بنزع سلاح الجنوب السوري والاعتراف بضمها للجولان السوري المحتل. وفي مواجهة الشعور الإسرائيلي بالقوة والقدرة على فرض معادلات إقليمية جديدة، ترغب دمشق في وجود ضامن حقيقي للسلام يسهم في ردع إسرائيل ويعزز من جهود بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية وتيسير الحوار مع القوى المحلية الفاعلة في المشهد السوري من أجل دمج قواتها في المؤسسات الحكومية أو تسريحهم.