على وقع مشاهد تفشي المجاعة في قطاع غزة، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي في 27 يوليو 2025 عن تعليق تكتيكي للأعمال العسكرية في المواصي ودير البلح ومدينة غزة من الساعة العاشرة صباحًا وحتى الثامنة مساءً (بالتوقيت المحلي)، وتوسيع إدخال المساعدات الإنسانية بالتعاون مع المنظمات الإنسانية الدولية، في مؤشر على فشل الآلية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا لإدخال وتوزيع المساعدات عبر "مؤسسة غزة الإنسانية".
وبالتوازي مع التراجع أمام الضغوط الدولية لإدخال المساعدات برًا وجوًا، أعلن المبعوث الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط ستيف ويتكوف من جانبه عودة المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار في غزة بعد ساعات من انسحاب الوفدين الإسرائيلي والأمريكي من مفاوضات الدوحة واتهام حركة حماس بالتعنت ورفض مقترح وقف إطلاق النار.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أبعاد التوجه الإسرائيلي بإنفاذ هدنة إنسانية تكتيكية في مناطق غرب القطاع وتأثيراتها المحتملة على مسار مفاوضات وقف إطلاق النار.
أبعاد متداخلة
جاء إعلان الهدنة الإنسانية المحدودة ليشمل المناطق المكتظة بالسكان وهي مدينة غزة والمواصي ودير البلح بعد أيام من إعلان جيش الاحتلال عملية عسكرية جنوب دير البلح، ليعكس تخبط القرار الإسرائيلي أمام الضغوط الدولية المتصاعدة وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
(*) انتقادات دولية متصاعدة: باتت الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة على رأس الأجندة الدولية، حيث أدان بيان مشترك لنحو 25 دولة غربية في 21 يوليو الجاري إجراءات القوة القائمة بالاحتلال في توسيع عملياتها العسكرية باتجاه المحافظة الوسطى وصدور أوامر إخلاء إسرائيلية في 20 يوليو للسكان المدنيين في دير البلح التي تعد المركز الإنساني الحضري الرئيسي والوحيد في القطاع الذي لم تتلق بنيته التحتية المدنية ذات القدر من التدمير الذي شهدته باقي حواضر القطاع وتخدم ما بين 50 إلى 80 ألف مدني فلسطيني.
وعلاوة على أوامر الإخلاء التي تمتد إلى ساحل البحر المتوسط بهدف تقطيع أوصال القطاع لنصفين، تناول البيان الدولي باستنكار مخطط نقل نحو 600 ألف فلسطيني في مدينة إنسانية برفح الفلسطينية التي لا تمتلك أدنى مقومات الحياة بعد التدمير شبه الكامل لمبانيها وبنيتها التحتية المدنية، في ظل الواقع المأسوي لمنافذ توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية التي أودت بحياة 800 مدني فلسطيني في أقل من شهرين دون أدنى التزام بمسؤولياته في إطار القانون الإنساني الدولي.
ورغم الانقسام الأوروبي حول خطوات حل الأزمة، بات هناك توجهًا واضحًا إزاء الاعتراف بدولة فلسطينية تقوده فرنسا بالتعاون مع المملكة العربية السعودية من خلال رعاية المؤتمر الدولي لحل الدولتين الذي انطلقت أعماله في 28 يوليو 2025، حيث أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن باريس ستعترف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في سبتمبر المقبل على هامش أعمال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك لتجسيد حل الدولتين على أرض الواقع.
(*) ضغوط الوسطاء: حافظ الجانب المصري على سردية واضحة إزاء حل الأزمة في غزة لإيجاد حل مستدام يتعامل مع جذور الصراع من جهة، والانخراط الإيجابي في مفاوضات وقف إطلاق النار من جهة ثانية، وإيصال صوت الغزيين للأطراف الفاعلة في المحيطين العربي والدولي للضغط من أجل تخفيف المعاناة الإنسانية من جهة ثالثة، في إطار التزامها القومي بدعم الموقف الفلسطيني الجامع والتزامها الدولي كقوة استقرار في المنطقة رغم حملات التشويه المغرضة.
على الرغم من عودة وفدي إسرائيل والولايات المتحدة من الدوحة للتشاور بدعوى تعنت الطرف الفلسطيني في المفاوضات، سعى المفاوضون المصريون والقطريون لتعزيز الضغوط لمواصلة التفاوض ومواجهة تملص طرفي الأزمة من التزامهما بالمسؤولية الأخلاقية لإنهاء معاناة المدنيين في غزة، حيث عززت الدولة المصرية على مستويات مختلفة ضغوطها الدبلوماسية على الجانب الإسرائيلي لإدانة خطواته التصعيدية، حيث حشدت القاهرة في 24 يوليو 2025 لإصدار بيان مشترك مع 9 دول عربية وإسلامية إلى جانب جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لإدانة مصادقة الكنيست الإسرائيلي فرض "السيادة على الضفة الغربية".
وفي 25 يوليو الجاري أصدر الوسيطان المصري والقطري بيانًا أكدا فيه استمرار جهودهما الحثيثة في مفاوضات وقف إطلاق النار بغزة، واعتبر البيان المشترك أن عودة الوفود للتشاور "يعد أمرًا طبيعيًا في سياق المفاوضات المعقدة"، وفيما أكدتا استكمال الجهود المشتركة مع الولايات المتحدة حتى وقف إطلاق النار، حثت القاهرة والدوحة وسائل الإعلام الدولي على تركيز الانتباه على ما يجري في القطاع من معاناة إنسانية.
وفي كلمته التي تناولت الأوضاع في غزة، أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لانخراط بلاده بجدية في المفاوضات لتحقيق ثلاث أهداف يتقدمها الملف السياسي والأمني عبر إنهاء الحرب، والملف الإنساني عبر ضمان تدفق المساعدات للقطاع والإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، موجهًا نداءًا للمجتمع الدولي وعلى رأسه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وللدول العربية ببذل كل جهد لتحقيق تلك الأهداف وإنهاء المعاناة الإنسانية، خاصًا بالذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتباره القادر على إنهاء المعاناة.
(*) الموقف الأمريكي: رغم التأييد السياسي والدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، بات الوضع الإنساني ضاغطًا على الإدارة الأمريكية ويمثل تحديًا أخلاقيًا لا يمكن تبريره، فبعدما دعمت أركان إدارته عمل "مؤسسة غزة الإنسانية"، اتخذ الرئيس دونالد ترامب خطوات قليلة إلى الوراء خلال لقائه مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في 28 يوليو 2025 بإسكتلندا فيما يتعلق بالملف الإنساني، ملقيًا المسؤولية على عاتق إسرائيل لمعالجة الوضع المتفاقم في القطاع ومؤكدًا في الوقت ذاته العمل على إنشاء مراكز إضافية للطعام "دون أسوار أو حواجز"، بدعم وتمويل أوروبي.
ولا يزال الموقف الأمريكي شديد التقلب في التصريحات بشأن الحرب في غزة، ففي 25 يوليو 2025 ألمح الرئيس دونالد ترامب إلى دعم خيارات إسرائيلية أخرى لاستعادة المحتجزين من قطاع غزة.
الانعكاسات على مسار الأزمة
أثبتت الحرب الإسرائيلية على غزة وجود عدة متغيرات في تعامل إسرائيل مع واقع الصراع وطبيعة الاستجابة للضغوط الدولية، لعل أهمها يتمثل في كسر الاعتقاد السائد بعدم إمكانية الانخراط في حرب استنزاف طويلة الأمد وذلك بالنظر لقدرتها على التعامل مع صراع منخفض الحدة على عدة جبهات وبدعم لوجيستي واستخباري أمريكي. كما مضت حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل قدمًا في مواصلة حربها على قطاع غزة ولبنان وسوريا وإيران عبر المزيد من الخطوات التصعيدية في الضفة الغربية وغزة ردًا على أي إجراءات أوروبية أو غربية تدين انتهاكات الاحتلال ونشاط المستوطنين في الضفة، مستغلة الدعم الدبلوماسي الأمريكي والانقسامات في صفوف المعسكر الغربي بشأن الملف الإنساني. ويتمثل المتغير الثالث في الساحة السياسية الإسرائيلية؛ فرغم فقدان الحرب على غزة الكثير من مبرراتها إلا أن مجمل تحركات حكومة نتنياهو حظيت بدعم وتأييد مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي باستثناء عرب الداخل وجزء من تيار اليسار بقيادة زعيم حزب الديمقراطيين يائير جولان، وبالتالي تفتقر الساحة السياسية الإسرائيلية لوجود بديل سياسي لمشروع نتنياهو ومعسكر اليمين المتطرف.
وفي ضوء تلك المتغيرات يمكن استشراف مستقبل المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار بغزة في ضوء أي من السيناريوهين التاليين:
(&) فصل المسارات: ويشير ذلك السيناريو لاحتمالية فصل المسار الإنساني عن المسارات السياسية والأمنية لإنهاء الحرب على غزة من أجل مواصلة العدوان على القطاع والمضي قدمًا في اتجاه الاحتلال الدائم للقطاع تمهيدًا لإعادة الاستيطان وإزاحة السكان جنوبًا، مع دفع مسار تهجير الغزيين تدريجيًا بالتعاون مع العديد من الدول تحت غطاء "إنساني".
ويعزّز من ذلك التوجه رغبة الائتلاف في تخفيف الضغوط الإنسانية الدولية وتحييدها عن مسار الحرب التي استنفدت أهدافها الميدانية بينما لا تزال مسوغاتها السياسية قائمة.
(&) وقف إطلاق النار: ويتمثل في العودة الجادة للمقترح المحدث لوقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا يجري خلالها بحث وقف إطلاق نار مستدام ينهي الحرب بشكل كامل. ويحول دون تحقيق ذلك السيناريو تماسك جبهة دعم الحرب داخل الائتلاف الحاكم نظرًا لدورها في خدمة أجندة اليمين المتطرف، وتراجع الأحزاب الحريدية عن إسقاط الحكومة رغم انسحاب بعضها من الائتلاف، ما يؤجل فرص الانهيار السريع للائتلاف بعد دخول الكنيست في عطلته الصيفية.
وإجمالًا؛ رغم إعلان جيش الاحتلال هدنًا إنسانية مؤقتة لتسهيل إدخال المساعدات بدعم المؤسسات الأممية والدولية الذي يوحي في جانب منه بفشل الآلية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، إلا أنه لا مؤشرات واقعية على تغير سلوك حكومة اليمين المتطرف ونهجها التصعيدي لتصفية حل الدولتين وتحويل قطاع غزة إلى ضفة غربية جديدة، فضلًا عن تفعيل خطط التهجير "الطوعي" التي قد تبدأ بأعداد رمزية. وقد يعزز نمط الهدن الإنسانية المحدودة والمؤقتة من فرص فصل المسار الإنساني عن باقي مسارات إنهاء الأزمة في مواجهة الضغوط الدولية التي باتت غير كافية في إثناء حكومة نتنياهو عن مخططاتها، إلى جانب العراقيل البنية والسياسية في الساحة الفلسطينية وعدم خضوع الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة لسلطة شرعية واحدة تحت مظلة السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية.