خلال العقد الماضي، طرأ العديد من التغيرات على مراكز الثقل الاقتصادي العالمي، ولما كانت القوة الناعمة هي المحدد الأساسي للقوة الاقتصادية العالمية، فإنه يُمكن القول إنه لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية هي المسيطر الاقتصادي الأكبر على العالم، بل أصبح هناك شركاء في هذا يؤثِّرون في القرارات الاقتصادية ويُعيدون تشكيل النظام الاقتصادي من جديد، ويُحققون قوة اقتصادية كبيرة مُتنامية، وهو ما جعل مركز الثقل ينتقل من الشمال إلى الجنوب بدرجة كبيرة.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على اتجاهات الثقل الاقتصادي في العالم خلال الفترة الحالية، وانعكاسات ذلك على الوضع العالمي في المستقبل.
اتجاهات مُحددة
يُمكن التعرف على اتجاهات الثقل الاقتصادي في الفترة الحالية من خلال النقاط التالية:
(-) اتجاه المؤشرات الاقتصادية: إن المعيار الحاكم في توضيح اتجاه الثقل الاقتصادي هو التعرف على وضع المؤشرات الاقتصادية للدول، ولما كان معدل النمو الاقتصادي هو المؤشر الذي يُعبِّر عن مجمل النشاط الاقتصادي داخل الدول، فبالتالي هو معيار حاكم في هذا الاتجاه.
فمن الشكل رقم (1) يتضح أن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية تراجع بشكل كبير في الربع الأول من عام 2025، إذ إنه سجل قيمة سالبة (0.5-%)، كما أنه سجل مستويات منخفضة في الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ 1.5%، ولكن تصاعد هذا المؤشر في الدول الآسيوية، فقد بلغ 5.4% في الصين، و7.4% في الهند، وهو الأمر الذي يوضح تصاعد القوى الاقتصادية لهذه الدول بالمقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، ارتفع مؤشر الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 0.3% فقط في يونيو 2025، وانخفض مؤشر التعدين بنسبة 0.3%، ولكن في الصين ارتفع مؤشر الإنتاج الصناعي بنسبة 6.8% في نفس الشهر من العام، وفي الهند ارتفع هذا المؤشر بنسبة 1.6%، مما يُشير إلى توسع النشاط الإنتاجي بشكل أكبر في الدول الآسيوية.
وبالنسبة لمعدلات التضخم، يوضح الشكل (2) أنها تتناقص بشكل كبير في الدول الآسيوية، خاصة الصين، إذ بلغت 0.1% في يونيو 2025، وفي سنغافورة بلغ 0.8%، وفي الهند بلغ 2.1%، ولكن ارتفعت في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بـ 2.7% لكلٍّ منهما، وتنعكس معدلات التضخم على تكلفة الاقتراض داخل الدولة، فارتفاع التضخم يجعل قرار خفض سعر الفائدة مُستبعدًا، وبالتالي تنخفض معدلات الاستثمار.
(-) اتجاه نشاط الشركات: الشركات العالمية في الفترة الحالية باتت تبحث عن الإطار الاقتصادي المُتنامي، وهو الأمر الذي سوف يترتب عليه إعادة تموضع لمواقع الشركات الكبرى في الخريطة العالمية.
فمنذ نهاية الحرب الباردة، كانت الشركات العملاقة مُهيمنة في دول الشمال أو ما يُطلق عليها دول العالم الغني، ولكن في الوقت الحالي تبرُز منطقة جنوب شرق آسيا كمركز تصنيع عالمي، مما يوفر العديد من الفرص للشركات العالمية، إذ اجتذبت منطقة شرق آسيا في عام 2023 تدفقات استثمار أجنبي مباشر بلغت 230 مليار دولار، بالرغم من انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بنسبة 10%.
وما يدعم ذلك أن إندونيسيا وفيتنام حاليًا تقودان التحولات في التصنيع وتدفق التجارة، وهو ما يظهر في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تتلقاه هذه الدول في مجال التصنيع الجديد، الذي بلغ حوالي 33 مليار دولار لإندونيسيا، و16 مليار دولار لفيتنام، وبالإضافة إلى ذلك ستتصدر الصين مراكز الإنتاج العالمية.
ومن ناحية أخرى، تحتل سنغافورة المرتبة الأولى من حيث قدرات الابتكار في آسيا، وذلك وفقًا لمؤشر الابتكار العالمي (GII) 2024، إذ إنها تُقدم نظامًا يحمي استثمارات الشركات في البحث والتطوير، وبالتالي أنشأت الشركة الألمانية "بيوترونيك Biotronik" أول مركز للتصنيع والأبحاث في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لإدارة ضربات القلب في سنغافورة، في حين أنشأت الشركة متعددة الجنسيات "ريكيت بينكيزر Reckitt Benckiser" مركزًا جديدًا للبحث والتطوير، ونتيجة لذلك أعلنت حكومة سنغافورة أنها ستستثمر نحو 440 مليون دولار سنغافوري؛ لجذب المزيد من شركات رأس المال الاستثماري للاستثمار في الشركات المحلية في مجال التكنولوجيا العميقة.
ومن الجدير بالذكر هنا أن جنوب شرق آسيا تستضيف أكثر من 80% من شركات مجلة "فورتشن العالمية Global Fortune 500"، و5000 مقر إقليمي، كما أنه يتواجد عدد كبير من الشركات الناشئة التي لديها أصول متزايدة في مجال الأسهم الخاصة ورأس المال الاستثماري، والتي ارتفعت نسبة تواجدها بحوالي 130% من 2017 إلى 2023، ومن ناحية أخرى يوجد 60 شركة أُحادية القرن في جنوب شرق آسيا، وهي الشركات التي يتجاوز رأسمالها المليار دولار.
وفي هذا الإطار، حصدت دول شرق آسيا العديد من المكاسب بعد فرض الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" للرسوم الجمركية، إذ توجه الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المنطقة بشكل كبير، حيث ارتفعت شركات المنطقة في "تصنيف فوربس جلوبال 2000 لأكبر الشركات العامة" من 57 شركة في عام 2024 إلى 63 شركة في عام 2025. ومن هنا يتضح أن الثقل الاقتصادي العالمي يتجه من الشمال إلى الجنوب، وهو الأمر الذي سيزداد خلال السنوات المُقبلة.
انعكاسات مستقبلية
يترتب على التغييرات في خريطة الاقتصاد العالمي، من ناحية القوة الاقتصادية والاتجاهات الاستثمارية، مجموعة من المردودات المستقبلية، التي تتمثل في الآتي:
(-) اقتصاد عالمي متنوع: إن الصعود الآسيوي في الاقتصاد العالمي، يخلق حالة من التنوع التي تحل محل الهيمنة الأمريكية والأوروبية التي دامت لعقود، فالاقتصاد العالمي أصبح به العديد من البدائل المهمة التي تُحقق زخًما اقتصاديًا وفرصًا كبيرة للمؤسسات العالمية، وهو ما يُولِّد تنافسًا اقتصاديًا يُحقق المنفعة العامة لمختلف دول العالم.
على سبيل المثال، الرسوم الجمركية التي أقرها "دونالد ترامب" يصبح تأثيرها أقل حدة في ظل تنوع الاقتصاد العالمي، وعدم وجود سيطرة لدول معينة عليه.
(-) استفادة الدول النامية: إن الدول النامية تُحقق استفادة اقتصادية كبيرة من المشاركة الآسيوية بدرجة كبيرة في النشاط الاقتصادي العالمي، إذ إنه يسمح بنمو التحالفات الجديدة خارج الإطار الغربي التقليدي، مثل تكتل "البريكس+"، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وهو الأمر الذي يرفع القدرة الاقتصادية لهذه الدول، وارتفاع درجة مساهمتها في الاقتصاد العالمي والتجارة العالمية.
ومن ناحية أخرى، يترتب على تغير مراكز التمويل والاستثمار، تقليص اعتماد هذه الدول على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والشروط الاقتصادية الصعبة التي تفرضها، إذ إنه يُمكن الاعتماد على البنك الآسيوي للاستثمار والبنك الجديد للتنمية التابع للبريكس.
(-) إعادة تشكيل سلاسل التوريد: يترتب على نقل إنتاج الشركات العالمية إلى دول الجنوب، لأسباب تتعلق بالتكلفة والتقارب من الأسواق النامية، تنوع في سلاسل الإمداد العالمية، فدول الجنوب ستُساهم بشكل أساسي في تدفقات التجارة العالمية، وهو الأمر الذي يرفع من درجة المرونة في التعامل مع الأزمات المستقبلية، مما يُقلل التأثير على أسعار السلع العالمية، ومن ثم معدلات التضخم في الدول المختلفة.
وفي النهاية، يُمكن القول إن تغير مركز الثقل العالمي من الشمال إلى الجنوب لا يُمثل مجرد تحول اقتصادي أو جغرافي، بل هو إعادة تشكيل شامل للنظام الدولي بمفاهيمه وهياكله وقيمه، وهو ما يفتح الباب أمام عالم أكثر تنوعًا وتعددًا في مراكز التأثير.
إن العالم القادم لن يُبنى على الغلبة وحدها، بل القدرة على التفاوض والتعاون وصياغة نموذج اقتصادي وحضاري جامع تتوازن فيه القوة بالعدالة، والنمو بالتنمية المستدامة، والهوية بالانفتاح، ومن هنا ستظهر دول الجنوب كفاعل مؤثر وشريك في صناعة مستقبل الاقتصاد العالمي.