تغلغلت الشركات مُتعددة الجنسيات في الاقتصادات المختلفة، وأصبحت تُمارس تأثيرًا كبيرًا على مسارات نموها، خاصة في الدول النامية، إذ إن انتشارها في مختلف المجالات يُعتبر أحدث مرحلة في تطور الرأسمالية، فلم تعد الدول وحدها هي القوة الحاسمة في توجيه التدفقات الاقتصادية والتكنولوجية، بل أصبحت هناك فواعل أساسية في النظام الاقتصادي العالمي.
وتأسيسًا على ما سبق، نهدف إلى تحليل صعود هذه الشركات، وتفكيك أبعاد قوتها الاقتصادية العابرة للحدود، مع إلقاء الضوء على الآثار المختلفة التي تُفرض من وجودها على الاقتصادات، خاصة النامية.
إطار عام
(-) ماهية الشركات متعددة الجنسيات: تعدّدت التعريفات حول هذا المصطلح، إذ تُشير بعض التعريفات إلى أنها شركة تمتلك أو تسيطر على أصول مُدِرّة للدخل في دول متعددة من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، الأمر الذي يُمكّنها من إنتاج سلع وخدمات خارج بلدها الأصلي، والمشاركة في الإنتاج الدولي.
كما يُمكن تعريفها بأنها كيان موحّد له مكتب رئيسي وشركات تابعة تعمل في دول متعددة. ويُعد العامل المشترك بين التعريفات المختلفة أنه لا بد أن تمتلك هذه الشركات فروعًا في دولتين أو أكثر، وأن يكون لديها فريق إدارة مُكوَّن من مديرين من جنسيات مختلفة، وأن يتجاوز إنتاجها في الدول الأجنبية ما لا يقل عن 25–30% من إجمالي إنتاجها.
(-) مدى الانتشار: أنشأت الشركات العالمية أكثر من 370 ألف شركة فرعية حول العالم، منها 980 شركة في مجال التكنولوجيا والاتصالات، و890 شركة في الخدمات المالية، و713 شركة في الإنشاءات، و424 شركة للسلع الاستهلاكية المُعبّأة، و382 شركة في مجال الكيماويات والرعاية الصحية، و336 شركة في السلع والآلات الصناعية، و296 شركة في قطاع التجزئة، و248 شركة في قطاع المعادن والتعدين.
ووفقًا للشكل (1)، يتضح أن الدول التي تتركز بها المقرات الرئيسية للشركات متعددة الجنسيات، تتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية (1700 شركة)، والصين (1272 شركة)، واليابان (615 شركة)، والمملكة المتحدة (313 شركة)، وأستراليا (189 شركة)، وغيرها من الدول مثل كندا والهند وتايوان وكوريا الجنوبية وفرنسا وسويسرا والسويد وألمانيا وهونج كونج والبرازيل.
وفي الآونة الأخيرة بدأت الشركات متعددة الجنسيات تظهر في الأسواق الناشئة، ونتيجة لذلك أصبحت 19 من أفضل 100 شركة مُصنفة حسب القيمة السوقية تتخذ مقرًا لها في الدول النامية.
(-) حجم القوة الاقتصادية: تتجاوز القوة الاقتصادية للشركات متعددة الجنسيات اقتصادات بعض الدول، إذ يبلغ حجم التدفقات الاستثمارية السنوية لهذه الشركات نحو 1.48 تريليون دولار، كما قُدّر حجم الأصول الأجنبية التي تمتلكها بنحو 44.1 تريليون دولار أمريكي في عام 2023، وذلك وفقًا لتقرير الاستثمار العالمي، بالمقارنة بناتج محلي إجمالي قُدّر بنحو 27.7 تريليون دولار في الولايات المتحدة الأمريكية، وبنحو 18.27 تريليون دولار في الصين.
ويوضح الشكل (2) أن متوسط الإنفاق الرأسمالي المرتبط بالاستثمارات العابرة للحدود، ارتفع إلى 82.9 مليون دولار في الأشهر العشرة الأولى من عام 2024، بالمقارنة بـ 79.6 مليون دولار في عام 2023 بأكمله، وهو أعلى مستوى سُجّل منذ الأزمة المالية العالمية.
ومن الجدير بالذكر أن مشاريع تصنيع الرقائق الدقيقة والبنية التحتية الرقمية، سيطرت على قائمة أكبر عشرة مشاريع جديدة أُعلن عنها في عام 2024، إذ إن تكلفة المشاريع العشرة تجاوزت 6 مليارات دولار، مما يُسهم في استمرار ارتفاع الإنفاق الرأسمالي للاستثمارات العابرة للحدود.
وفي هذا النطاق، تتراوح إيرادات أكبر الشركات متعددة الجنسيات، مثل أمازون وأبل وجوجل وتسلا وجنرال إلكتريك ومايكروسوفت بين مئات آلاف المليارات وعشرات التريليونات من الدولارات الأمريكية، كما تُعد شركة بلاك روك واحدة من الشركات الرائدة عالميًا في توفير الاستثمارات والاستشارات وحلول إدارة المخاطر، وهي أكبر مدير أصول في العالم، بحجم أصول يبلغ 10 تريليونات دولار، فضلًا عن شركة فانجارد التي تُعتبر أكبر مزود لصناديق الاستثمار المشتركة ووسيط الأوراق المالية، وتبلغ أصولها نحو 9.3 تريليونات دولار.
وبقراءة دلائل هذه الأرقام، يتضح أن القوة الاقتصادية الضخمة للشركات متعددة الجنسيات، أصبحت تُشكّل اقتصاديات موازية للنظام الاقتصادي العالمي، تؤثر فيه بشكل كبير وفي سياساته النقدية.
آثار متعددة
وجود الشركات متعددة الجنسيات له العديد من الآثار على الدول المضيفة، خاصة النامية، والتي تتنوع بين إيجابية وسلبية، وذلك على النحو التالي:
أولًا: الآثار الإيجابية
(-) تحسين بيئة العمل: يترتب على وجود الشركات متعددة الجنسيات في الدول المختلفة ارتفاع الإنتاجية، وتحسين ظروف العمل، فهذه الشركات تعمل على تطبيق معايير عمل داخلية قوية، توفّر آليات تعاقد عادلة، وتُحقق سلامة العمل.
ومن جانب آخر، تقدم هذه الشركات تدريبًا تقنيًا وإداريًا للعمال المحليين، مما يُعزّز المهارات الإنتاجية، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى زيادة أجور العمال، وبالتالي زيادة الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية.
وعلى سبيل المثال، أدخلت شركة تويوتا في جنوب إفريقيا برامج تدريب مهني واسعة النطاق ورفعت مستوى مهارات العمل في قطاع التصنيع.
(-) تحفيز التطور التكنولوجي: تعمل الشركات متعددة الجنسيات على نقل تكنولوجيات إنتاج متطورة، وأنظمة برمجية، وأدوات تشغيل حديثة إلى فروعها في الدول النامية، وهو ما يساعد على تحديث الصناعة.
كما حدث مع دخول شركة إنتل Intel في فيتنام، وإنشاء قاعدة تصنيعية متقدمة في مجال الإلكترونيات الدقيقة. ومن ناحية أخرى، تُنشئ بعض الشركات مراكز أبحاث لها، الأمر الذي يُساعد على تحفيز البحث والتطوير.
(-) زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر: بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في الدول النامية نحو 435 مليار دولار في عام 2023؛ وهو ما يرجع بشكل أساسي إلى إنشاء الشركات متعددة الجنسيات مشروعات جديدة، مثل مصانع ومراكز توزيع أو مراكز تكنولوجيا في هذه الدول، أدت إلى تدفقات استثمارية ضخمة، تسببت في رفع حصة الدول النامية من الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي.
وبالإضافة إلى ذلك، يجذب وجود الشركات متعددة الجنسيات داخل الدولة شركات أجنبية أخرى للاستثمار في نفس الدولة، فدخول شركة تويوتا في جنوب إفريقيا جذب العديد من الموردين اليابانيين والأوروبيين إلى السوق الإفريقية.
ثانيًا: الآثار السلبية
(-) زيادة الفجوة الضريبية: تُساهم الشركات متعددة الجنسيات في زيادة الفجوة الضريبية في العديد من الدول، خاصة النامية، إذ تنتشر ممارسات التهرب والتحايل الضريبي، من خلال استخدام أدوات محاسبية مُعقدة؛ لنقل أرباحها إلى دول ذات ضرائب منخفضة (الملاذات الضريبية)، وهو ما يُخفض صافي الأرباح المُعلنة في الدولة المضيفة، ومن هنا يُقلل الضرائب التي تدفعها الشركات للحكومات المحلية.
ونتيجة لذلك، قدّر تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، حجم خسائر الدول النامية بنحو 100 مليار دولار سنويًا بسبب التهرب الضريبي، كما أن صندوق النقد الدولي قدّر أن الدول منخفضة الدخل تخسر نحو 1.3% من ناتجها المحلي الإجمالي سنويًا؛ نتيجة التلاعب الضريبي الدولي.
(-) إعاقة التنمية الاقتصادية: يوجد في الدول النامية بعض نماذج الشركات متعددة الجنسيات التي تُعيق التنمية الاقتصادية، فمثلًا قد تقوم بعض الشركات باستخراج الموارد (نفط ومعادن) دون تطوير الصناعات المحلية أو توطين المعرفة، وهو ما يؤدي إلى خلق اقتصاد ريعي لا يقوم على تنمية حقيقية، فمثلًا شركات التعدين الأجنبية في الكونغو تستخرج الكوبالت دون أي استثمارات في التعليم أو البنية التحتية.
ويُمكن أن يتعلق الأمر بحصر الاقتصادات المضيفة في مجالات ذات قيمة مضافة منخفضة، فضلًا عن مزاحمة الاستثمارات المحلية، فالشركات متعددة الجنسيات تمتلك رأس مال وتكنولوجيا ضخمة بالمقارنة بالشركات المحلية، وهو ما يؤدي إلى خروج الشركات الصغيرة والمتوسطة من السوق، مما يُضعف القاعدة الإنتاجية الوطنية.
(-) ارتفاع التكاليف البيئية: يتمثل الهدف الأساسي من استثمارات الشركات متعددة الجنسيات في الدول النامية في الحصول على المواد الخام والمعادن والنفط، فاستخراج هذه المواد يتسبب في آثار بيئية خارجية مثل تلوث الأنهار، وفي المقابل تدفع الشركات تعويضات محدودة.
وبالإضافة إلى ذلك، تتسبب بعض الشركات أثناء نشاطها في تكاليف بيئية باهظة، فعلى سبيل المثال، تسبب تسرب النفط من شركة شيل في نيجيريا في أضرار بالغة في البيئة وصحة السكان.
وفي النهاية، يُمكن القول إن الشركات متعددة الجنسيات تمثل أحد أبرز الفاعلين في الاقتصاد العالمي، إذ يتجاوز نفوذها الاقتصادي في كثير من الأحيان قدرات الدول، وهو ما يجعل تأثيرها كبيرًا على الدول المختلفة، خصوصًا الدول النامية التي تسعى دائمًا إلى جذب الاستثمارات الخارجية، فبالرغم من مساهمتها الإيجابية في نقل التكنولوجيا وتوفير فرص العمل وتوسيع الأسواق، إلا أن هذا النفوذ له تكلفة كبيرة، خاصة في توجيه مسارات التنمية وفقًا لأولوياتها الخاصة.
وعليه، فإن ضبط حدود القوة الاقتصادية لهذه الشركات، يتطلب إعادة صياغة قواعد العولمة الاقتصادية، وتعزيز قدرة الدول النامية على التفاوض، وتفعيل آليات الشفافية والمساءلة العالمية، بما يضمن تحولها من أدوات هيمنة إلى أدوات تنموية عادلة.