في خضم مساعٍ متجددة لإبرام اتفاق يوقف إطلاق النار في غزة، استبق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لقاءه الثالث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، المقرر له، اليوم الاثنين، بإعلان عزمه أن يكون هذا اللقاء حاسمًا مع لإنهاء الحرب، وحثّ حركة حماس على قبول المقترح المعدل لإيقاف القتال لمدة 60 يومًا مقابل تبادل عدد من الأسرى والمحتجزين بين الجانبين، والانخراط في مفاوضات غير مباشرة بوساطة مصر وقطر ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، تهدف إلى إنهاء الحرب.
تأتي زيارة نتنياهو بعد أيام من محادثات معمقة بين وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، مع المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، مطلع يوليو الجاري، بالتوازي مع وضع قيادة جيش الاحتلال عدة سيناريوهات للتعامل مع ملف غزة على ضوء تطور المفاوضات.
تأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي الانعكاسات المحتملة لزيارة نتنياهو للبيت الأبيض على المفاوضات الجارية لبحث فرص التوصل لهدنة في قطاع غزة، تنتهي بوقف مستدام لإطلاق النار وإنهاء الحرب.
دلالات التوقيت
تأتي الزيارة الثالثة لرئيس الوزراء الإسرائيلي لواشنطن منذ فبراير 2025، في ضوء اهتمام أمريكي ملحوظ بإيجاد تسوية لملف غزة، بالاستفادة من زخم إنهاء حرب الـ12 يومًا بين إسرائيل وإيران، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
(*) مرونة تفاوضية: تأتي الزيارة في سياق طرح مقترح جديد من الوسطاء يحمل تعديلات على إطار "ويتكوف" للدخول في هدنة لمدة 60 يومًا مع البدء الفوري في المفاوضات على إنهاء الحرب. ورغم تباين مواقف الطرفين واستمرار إسرائيل في محاولتها فرض أمر واقع، فإن مطالبات حماس بوقف الحرب بنهاية العملية التفاوضية، في إطار ضمانات من الولايات المتحدة الأمريكية والوسطاء لم تُقابل برفض إسرائيلي قاطع وعلني، باستثناء وضع المزيد من الشروط والعراقيل أمام التسوية النهائية للحرب.
كما وافق المجلس الوزاري الأمني في 5 يوليو الجاري على آلية لتوزيع المساعدات بجميع أنحاء قطاع غزة عبر الآلية القديمة، وهو ما يتقاطع مع المطالبات الفلسطينية والدولية بإدخال ما يلزم من المساعدات الإنسانية عبر الآليات المتبعة مسبقًا، بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بعد فشل آلية المساعدات الأمريكية التي تشرف عليها "مؤسسة غزة الإنسانية"، والتي تسببت في استشهاد المئات من المدنيين الفلسطينيين منذ نهاية مايو الماضي.
(*) قضية المحتجزين: عقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، أبدى الرئيس الأمريكي اهتمامًا ملحوظًا بإحراز تقدم في ملف إنهاء الحرب في غزة وإعادة المحتجزين، ففي 29 يونيو الماضي، وجّه ترامب عبر منشوراته على منصة "تروث سوشيال" بإنهاء الحرب وإعادة المحتجزين الإسرائيليين. وفي 3 يوليو الجاري، التقى الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض بالمحتجز الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر، الذي أطلقت حركة حماس سراحه منتصف مايو الماضي، وتعهد ترامب بإعادة جميع المحتجزين الإسرائيليين من قطاع غزة.
(*) ضمانات أمريكية واعدة: يبدو الرئيس الأمريكي منفتحًا أكثر من أي وقت مضى لإنجاز صفقات كبرى تنهي الاضطرابات في الشرق الأوسط، مدعومًا بنتائج التدخل الأمريكي لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، فضلًا عن الأدوار المهمة للعديد من الدول الفاعلة في المنطقة لتسوية الصراعات والمساهمة في حلحلتها، على غرار دور سلطنة عُمان وباقي دول الخليج العربي في المفاوضات مع إيران، والمساعدة في إعادة الهدوء بمناطق تراجع النفوذ الإيراني، وجهود الوسيطين المصري والقطري في ملف إنهاء الحرب في غزة.
وتخلق تلك الأجواء مناخًا ملائمًا لبناء استراتيجية إقليمية فعالة، مع إمكانية تحريك ملف التطبيع بين إسرائيل وكل من سوريا ولبنان في إطار توسّع محتمل لاتفاقيات السلام، وتعزيز التنسيق الأمريكي الإسرائيلي بشأن قضايا المنطقة، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، في مقابل إعادة انخراط القيادة الإسرائيلية في مسار السلام الإقليمي وتخفيف حدة الصراع في الأراضي المحتلة، بما في ذلك الدخول في هدنة مؤقتة والتفاوض على شروط إنهاء الحرب أو الوقف المستدام لإطلاق النار مع حماس في مدى زمني يتراوح بين 5 و10 سنوات.
انعكاسات محتملة للزيارة
وتأسيسًا على ما تقدم؛ يُمكن القول إن زيارة نتنياهو إلى واشنطن تأتي في سياق بحث حجم التنازلات التي يمكن لإسرائيل تقديمها في سبيل تعزيز التحالف الاستراتيجي بين الجانبين، والتي ستعكس بدون شك دور إسرائيل في التوازنات الجديدة للشرق الأوسط، وفق أحد السيناريوهين التاليين:
(&) إنهاء الحرب: تتمثل في إبرام صفقة كبرى لتسوية ملفات الشرق الأوسط عبر إنهاء الحرب في غزة، ومواصلة تدمير قدرات المحور الموالي لإيران في المنطقة، وتقديم ضمانات أمنية وحوافز اقتصادية كبرى للجانب الإسرائيلي.
ويسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتسويق زيارته الثالثة للبيت الأبيض في خمسة أشهر، باعتبارها ترسيخًا للتحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولإبراز متانة العلاقات الشخصية مع الرئيس الأمريكي عقب الحرب على إيران. وبالتالي، فإن إبراز قضية إعادة المحتجزين عند الحديث عن ملف غزة، مقابل تصدير قضايا وملفات الشرق الأوسط الأخرى في سياق الزيارة الموسعة، والتي تمتد لعدة أيام وتشمل مباحثات مع أركان الإدارة الأمريكية، يُشي بإمكانية تحقيق اختراق كبير على صعيد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بما يعطي الرئيس الأمريكي إنجازًا رئيسيًا في ملفات سياسته الخارجية.
وتؤيد ذلك الرغبة الأمريكية المتزايدة في جني ثمار سياستها بالشرق الأوسط، وتقليص انخراطها في الصراعات الممتدة، واقتصارها على ضربات خاطفة لحسم تلك الصراعات، إلى جانب الحفاظ على علاقات التحالف الاستراتيجي مع دول المنطقة، وفي مقدمتها دول الخليج العربي، ليس لتقويض النفوذ الإقليمي لإيران فقط، وإنما لتعزيز دمج إسرائيل في المنطقة ودعم البدائل الاقتصادية لمشروع "الحزام والطريق" الصيني.
وتحول دون هذا السيناريو الضغوطات السياسية الداخلية على صعيد محاكمة نتنياهو بقضايا فساد كبرى، واختلال التوازنات داخل الائتلاف الحاكم، والتي تهدد بقاء الحكومة؛ بين قوى الصهيونية الدينية والتيار الأكبر داخل حزب الليكود من جهة، والتي تنادي بتصعيد الصراع وإعلان ضم الضفة الغربية، والتيار الحريدي من جهة أخرى، والذي يسعى لعرقلة إصدار قانون التجنيد الإجباري لتلك الفئة قبيل العطلة الصيفية للكنيست نهاية يوليو الجاري.
(&) ترحيل الملفات الخلافية: قد يعمد رئيس الوزراء الإسرائيلي للبناء على زخم الحرب مع إيران؛ من أجل إبرام صفقة جزئية مع حركة حماس، مقابل الهدوء النسبي خلال فترة 60 يومًا، واستغلال العراقيل الميدانية للمماطلة في الانسحاب من غزة، وإعادة طرح مخططات تقليص مساحة القطاع وتهجير بعض سكانه.
ويدعم ذلك التوجه الرغبة الإسرائيلية المتجددة في عدم مناقشة "اليوم التالي" للحرب في غزة، ودعم كيانات فلسطينية موازية تعمل تحت حماية جيش الاحتلال وبالتنسيق معه لمحاربة مقاتلي الفصائل والسلطة الفلسطينية.
ويواجه هذا السيناريو الدعم الدولي الواسع لحل الدولتين، ورفض الحصار والتجويع الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وفشل الآلية الإسرائيلية الأمريكية لتوزيع المساعدات في الحصول على دعم أممي ودولي، مع استمرار استهداف المدنيين في تلك المراكز.
وإجمالًا، تتعزز فرص نجاح صفقة وقف القتال في غزة، في ضوء الرغبة الأمريكية بتحقيق التهدئة في منطقة الشرق الأوسط، ووجود ضمانات أمريكية (رغم عدم كفايتها) لإنهاء الحرب في غزة، والتي قد تمهّد لميلاد صفقة إقليمية أوسع تشمل استئناف مسار التطبيع مع إسرائيل، وتعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي.
وتظل مخاطر استئناف القتال عقب الهدنة المقترحة مرهونة بتحديات المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل، وسُبل معالجة تباين المصالح بين أطيافه من جهة، والفشل المحتمل لمسار تقويض شبكة النفوذ الإقليمي الإيراني من جهة أخرى، في ظل عدم وجود تسوية واضحة وشاملة مع طهران، باعتبارها طرفًا رئيسًا فاعلًا في منطقة الشرق الأوسط.