بلغت المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار في غزة منعطفًا جديدًا في سبيل بلورة اتفاق لإطلاق سراح بعض المحتجزين مقابل وقف مؤقت للقتال لمدة شهرين، رغم تضارب التصريحات من المفاوضين الأمريكيين والفلسطينيين (حركة حماس) وحكومة نتنياهو، بالتزامن مع تعثر وفشل محتمل لخطة الاحتلال لتوزيع المساعدات الإنسانية بدعم أمريكي، وتصاعد الغضب الدولي من سلوك حكومة اليمين المتطرف في تجويع الفلسطينيين، واستخدام الغذاء كسلاح لفرض تهجير الغزيين.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي مآلات وقف الحرب على غزة في ضوء المعطيات المتضاربة حول تطور المفاوضات وإطار ويتكوف التفاوضي الجديد.
مؤشرات متضاربة
رغم تأكيد الوسيط المصري والرئيس الأمريكي إحراز بعض التقدم في المفاوضات بشأن غزة، أثار إعلان حركة حماس موافقتها على مقترح (معدَّل) لمبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف حالة من التضارب حول مسار المفاوضات، وما قد تُفضي إليه، قبل أن تعيد وسائل الإعلام الإسرائيلية طرح صيغة شبيهة للمقترح الذي وافقت عليه الحركة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
(*) مواقف متباينة: رغم الحديث عن تقدم بالمفاوضات، قدَّمت الإدارة الأمريكية وحركة حماس تصريحات متضاربة بشأن موافقة الحركة على مقترح للمبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف عبر قناة المفاوضات المباشرة بواسطة رجل الأعمال الأمريكي الفلسطيني بشارة بحبح، يقضي بالإفراج عن 10 محتجزين أحياء على دفعتين مقابل 60 يومًا من الهدنة، وتتضمن تعهدًا أمريكيًا بوقف الحرب نهائيًا وبإعلان الرئيس دونالد ترامب صيغة الاتفاق أو تتويجه بمصافحة بين المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف وكبير مفاوضي حماس خليل الحية.
وفي حين أعلنت الحركة عبر قناة الأقصى في 26 مايو 2025 موافقتها على المقترح، وأنها بانتظار الموقف الإسرائيلي، نقل موقع "أكسيوس" في نفس اليوم عن ويتكوف شعوره بالإحباط من حركة حماس معتبرًا سلوك الحركة بـ"غير المقبول"، مضيفًا أن الحركة لم تتلق مقترحًا جديدًا مختلفًا عن المقترح الذي توافق عليه إسرائيل ويشمل الإفراج عن 10 محتجزين أحياء و19 جثة مقابل هدنة تتراوح بين 45 و60 يومًا.
وفي 29 مايو، نقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" عن مصدر إسرائيلي صيغة إطار تفاوضي جديد لويتكوف يتضمن هدنة لمدة 60 يومًا وإطلاق سراح 10 محتجزين إسرائيليين أحياء و18 جثة على دفعتين وانسحاب جيش الاحتلال من المناطق التي احتلها بعد استئناف القتال منتصف مارس 2025، إلى جانب تولي الأمم المتحدة توزيع المساعدات الإنسانية.
(*) تضارب معلومات إسرائيلي: منذ أيام الحرب الأولى، تلعب التسريبات الإعلامية دورًا رئيسيًا في إدارة المفاوضات من الجانب الإسرائيلي على وجه التحديد، وهو موقف بات ينسحب على الجانب الأمريكي كذلك، إذ تناولت وسائل الإعلام العبرية صيغة مختلفة من مقترح ويتكوف المعدل في بنود تتعلق بأعداد المحتجزين المفرج عنهم وآلية إدخال المساعدات وإنهاء الحرب؛ ففي حين يشير المقترح المنشور باللغة العربية إلى انخراط الطرفين في المفاوضات بحسن نية حتى التوصل لاتفاق نهائي و"حل دائم للصراع"، توعد نتنياهو في لقاء متلفز مع عائلات المحتجزين في 29 مايو 2025 بمواصلة القتال حتى القضاء على حركة حماس.
تحديات قائمة
يبدو أن زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية ورئيس وفد التفاوض الإسرائيلي رون ديرمر إلى واشنطن في 27 مايو 2025، كانت العامل الأساسي في إخراج المقترح بصيغته الجديدة بتعديلات إسرائيلية، وهو ما أفرز المقترح الجديد الذي وافقت عليه إسرائيل مباشرة وأعقبها تصريحات من حركة حماس تشدد على الخطوط العريضة المتمثلة في تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني وإرساء وقف دائم لإطلاق النار في القطاع، كما أشار مسؤول بحماس في تصريحات لوكالة "رويترز" في 30 مايو 2025 أنّ الحركة تلقت ردًا إسرائيليًا على المقترح يرسِّخ لاحتلال القطاع ولا يلبي المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني.
وتتمثل أهم التحديات المصاحبة للإطار التفاوضي الجديد فيما يلي:
(&) غياب الثقة: يُظهِر مجمل التصريحات غياب الثقة التام بين الأطراف الثلاث الرئيسية في الصراع؛ بين حركة حماس وإسرائيل من جهة وبين الحركة والإدارة الأمريكية من جهة ثانية، وهو ما يظهر فيما نقلته "القاهرة الإخبارية" 26 مايو 2025 عن مصدر مصري مسؤول أشار إلى وجود "اتصالات مكثفة مع كل الأطراف" من أجل "تقريب وجهات نظر الأطراف المعنية للعودة إلى التهدئة"، ومطالبة الطرفين بـ"إبداء المرونة اللازمة للتوصل لاتفاق لمواجهة الأزمة الإنسانية في قطاع غزة".
وفي ظل غياب ضمانات والتزامات واضحة من الطرف الأمريكي، تتخوف المقاومة الفلسطينية من عودة جيش الاحتلال للقتال مرة أخرى حتى بالانسحاب التدريجي خارج المناطق السكنية على غرار اتفاق 19 يناير 2025 الذي خرقته إسرائيل في 18 مارس 2025، خاصة في ظل توجه إسرائيلي معلن بالعودة إلى القتال عقب انتهاء عمليات تبادل المحتجزين الأحياء والقتلى، إلى جانب ما يشير إليه الإطار التفاوضي بـ"إعادة الانتشار" وتركها في إطار المفاوضات التي ستجري بين الطرفين خلال الهدنة.
(&) تقلب الموقف الأمريكي: رغم ما تشير إليه وسائل الإعلام العبرية من ضغوط مكثفة من قبل إدارة ترامب على إسرائيل وحركة حماس من أجل إرساء وقف إطلاق النار، إلا أن الموقف الأمريكي يظل شديد التقلب في ضوء عدم وجود رؤية واضحة وثابتة لإنهاء الحرب وإيجاد تسوية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خاصة في ضوء تعويل الأطراف الفلسطينية والعربية وكذلك المجتمع الدولي على دور فاعل لواشنطن في الضغط على إسرائيل.
وربما يعود تقلب الموقف الأمريكي لعدة أسباب؛ أبرزها الضغوط المضادة التي يفرضها اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل وتأثيره الواسع داخل الكونجرس والبيئة السياسية الأمريكية، وثانيها ما تفرضه خبرة التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي تعزز حرص ترامب على تنسيق المواقف الأمريكية الإسرائيلية بشأن ملفات الشرق الأوسط، سعيًا للتحوط من سلوك نتنياهو واحتواء إسرائيل، لتجنب إعاقة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وفي مقدمتها تخفيف حدة الصراعات وحل الملف النووي الإيراني عبر التفاوض وتعزيز المكتسبات الاقتصادية والتجارية من الشراكة مع دول الخليج العربي. وثالث تلك الأسباب هو التوافق العام في التوجهات الإستراتيجية بين الجانبين الإسرائيلي والأمريكي في تقويض حركة حماس التي يعتبرها الجانبان امتدادًا لتقويض شبكة النفوذ الإيراني في المنطقة، وبالتالي فإن مهددات هذا التوافق تتمثل في الرفض العربي والدولي لمخطط التهجير والغضب العالمي المتصاعد ضد معاناة المدنيين الفلسطينيين تحت وطأة التجويع والقتل.
ويكمن في التحليل الأخير غياب الخطة الإستراتيجية الأمريكية لإنهاء الحروب وعدم وجود رؤية خلاقة ومتوازنة للجانب الأمريكي لإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط، بالتوازي مع اختلال موازين القوى الإقليمية وعدم وجود منظومة إقليمية قادرة على إدارة وحل النزاعات.
(&) قضايا اليوم التالي: رغم التعديلات الطفيفة نسبيًا على صيغة المقترح المعدل، إلا أنها تجنبت الخلافات الأساسية التي تعوق الوقف المستدام لإطلاق النار وإنهاء الحرب، فضلًا عن انحيازها للموقف الإسرائيلي في العديد من النقاط، أهمها فصل المقترح عن إطار اتفاق 19 يناير 2025 بمراحله الثلاث التي تشمل إنهاء الحرب، وإعطاء إسرائيل (ضمنًا) حق استئناف القتال عقب هدنة الستين يومًا، بينما أشار مقترح حماس وجود ضمانات أمريكية بإنهاء الحرب في إطار المفاوضات.
كما تضمن المقترح الجديد إطلاق سراح 10 محتجزين أحياء على دفعتين في اليومين الأول والسابع، بينما تضمن مقترح حماس الإفراج عن الدفعة الأولى في اليوم الأول للهدنة والثانية خلال اليوم الستين، في حين يتضمن المقترح الجديد العودة لآلية توزيع المساعدات الإنسانية عبر الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
تظل المكتسبات المحتملة للحرب معرقلًا رئيسيًا للمفاوضات خاصة من الجانب الإسرائيلي الذي يسعى لاستهداف الوجود الفلسطيني في قطاع غزة عبر فرض مخطط التهجير، بالتوازي مع إعادة هندسة عملية إدخال المساعدات المدعومة أمريكيًا لخدمة أهداف الحرب بما فيها تقليص مساعدات القطاع و"شرعنة" تهجير ما يعادل مليون فلسطيني على الأقل خلال الأشهر والأسابيع القادمة.
ويتمسك الجانب الإسرائيلي بمطالبات فضفاضة وتحمل العديد من التفسيرات للقبول بإنهاء الحرب في سبيل ما يعتبره ضمانًا بألا يشكِّل القطاع تهديدًا مستقبليًا لإسرائيل وعلى رأسها خروج حماس من القطاع، وهو ما لا يمكن تفسيره بخروج قيادة الحركة بالنظر لادعاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في 28 مايو 2025 اغتيال القيادي محمد السنوار خلال اجتماع لقيادة الجناح العسكري أسفل المستشفى الأوروبي إلى جانب اغتيال العديد من أعضاء المكتب السياسي للحركة في القطاع.
وعلى صعيد حل الأجنحة العسكرية لفصائل غزة؛ ينطوي فرز وتسريح مقاتليها وعناصرها أو إبعادهم خارج القطاع على إشكاليات عديدة في ضوء المزاعم الإسرائيلية التي تفيد بوجود نحو 40 ألف مقاتل من مختلف الفصائل بعد 18 شهرًا من القتال المكثف والعنيف، ما قد يفتح الباب أمام تهجير أعداد معتبرة من سكان القطاع عبر إبعاد المقاتلين وأسرهم إلى خارج الأراضي المحتلة.
وعلى صعيد التسليح والبنية التحتية العسكرية في القطاع، تذهب تقديرات "المصادر الأمنية الإسرائيلية" إلى أن الجيش لم ينجح سوى في تدمير 25% من شبكة أنفاق المقاومة الفلسطينية مع ترجيح مصادر أخرى أن حركة حماس تواصل ترميم الأنفاق المهدمة وبناء أنفاق جديدة، ما يضفي غموضًا (متعمدًا) على تلك المنظومة من الأنفاق الدفاعية والهجومية والقيادة والسيطرة وتلك المستخدمة في تخزين وتصنيع الذخائر والصواريخ، وفي حين تمكنت قوات الاحتلال من استعادة 4 محتجزين من أحد المنازل بمخيم النصيرات في يونيو 2024، لم تنفذ إسرائيل عملية ناجحة لتحرير المحتجزين من أنفاق غزة على مدى الحرب، باستثناء استعادة 6 جثامين عُثر عليها في أحد أنفاق خان يونس في أغسطس الماضي.
وتدلل كل تلك المعطيات على رغبة إسرائيلية في استكمال الحرب وتفادي الضغوط الداخلية والدولية عبر استعادة المحتجزين وإدخال المساعدات تحت إشراف جيش الاحتلال والشركات الأمريكية، مقابل تطبيع الاحتلال الدائم للقطاع.
وعلى الجانب الآخر، تسعى حركة حماس من خلال التفاوض مع الجانب الأمريكي لشرعنة حضورها في المشهد السياسي الفلسطيني كحزب سياسي شرعي في إطار الدولة الفلسطينية المأمولة مقابل تسليم إدارة القطاع للجنة الإسناد المجتمعي، والنظر بإمكانية التخلي عن سلاح الحركة ضمن شروط إنهاء الحرب أو التوصل إلى هدنة طويلة الأمد وفق ترتيبات عربية-إقليمية وأمريكية.
وإجمالًا؛ يعكس الإطار التفاوضي الجديد عدة متغيرات على رأسها تعيين المبعوث الأمريكي مفاوضًا رئيسيًا بين الجانبين وترحيل القضايا الخلافية للمفاوضات التي ستجري بين الجانبين خلال الهدنة، كما أنها لا تضع حدًا لنهاية الحرب وتترك قرار إنجاح المفاوضات أو إفشالها لرغبة وقرار الطرفين في نهاية المطاف، ما يمنح الجانب الإسرائيلي حق استئناف القتال بعد تهدئة الضغوط الداخلية المرتبطة بملف المحتجزين.
وإلى جانب استجابته للمطالب الإسرائيلية، يثير الطرح الأمريكي شكوكًا في حجم الضمانات التي تقدمها واشنطن للطرف الفلسطيني المفاوض الذي تعتبره تنظيمًا إرهابيًا وامتدادًا لنفوذ إيران الإقليمي، وبالتالي فإن أي امتيازات لحماس ترتبط بتنازلها عن السلاح وحل الجناح العسكري وعن إدارة القطاع ابتداءًا وطرح قضايا الترتيبات الأمنية وقضايا اليوم التالي لمناقشات الطرفين دون أي التزام واضح تجاه الحقوق الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
ويُبقي الإطار على هامش ضئيل للمناورة أمام الجانب الفلسطيني في ضوء التباينات السياسية والإستراتيجية مع السلطة الوطنية وفصائل منظمة التحرير من جهة، ومستويات الثقة المتدنية بين حماس والعديد من الأطراف العربية من جهة أخرى.