افتتحت مجموعة بريكس (BRICS) 5 يوليو 2025 منتدى أعمالها في ريو دي جانيرو، بمشاركة ممثلي حكومات وشركات كبرى وخبراء اقتصاديين من مختلف الدول الأعضاء، وذلك في ظل طموحات متزايدة لأن تتحول المجموعة إلى قطب عالمي بديل للهيمنة الغربية المسيطرة على النظام الدولي في الوقت الراهن. وتأتي هذه الفعالية في لحظة حرجة يمر بها النظام الدولي، حيث تتزايد التوترات بين القوى الكبرى، وتتسع الفجوة بين شمال العالم وجنوبه، ما يجعل تسليط الضوء على "بريكس" ضروري لفهم المسارات المحتملة لنظام عالمي متعدد الأقطاب.
ففي ظل السياق الدولي الراهن، تنامى الطموح العالمي لمجموعة "بريكس"، إلى تعزيز نفوذها في إدارة الاقتصاد العالمي، والضغط من أجل إصلاح المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومجلس الأمن.
وفي ضوء ما سبق، تٌثار العديد من التساؤلات مثل: ما مصادر أو مكامن قوة مجموعة "بريكس" التي تمكنها من زيادة دورها كقطب جديد على الساحة العالمية؟.. وما أهم التحديات التي تحول دون ذلك؟.. وما التصورات المستقبلية لدور مجموعة "بريكس" على الساحة الدولية؟
مكامن القوة
هناك العديد من المؤشرات أو مكامن القوة العالمية لمجموعة "بريكس (BRICS)"، التي تُظهر تنامي دورها كلاعب دولي مؤثر رغم التحديات:
(*) التمثيل المتنوع: تضم بريكس دولًا من أربع قارات (آسيا، إفريقيا، أمريكا الجنوبية، وأوروبا)، ما يمنحها امتدادًا عالميًا واسعًا، فهذا الانتشار الجغرافي يعزّز نفوذها في المؤسسات متعددة الأطراف (مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين، وغيرها من المحافل الدولية).
(*) النفوذ السياسي الدولي: فمن بين أعضاء هذه المجموعة؛ الصين وروسيا وهما من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتملكان حق النقض (الفيتو)، الأمر الذي يمنح بريكس قدرة مباشرة على التأثير في القرارات الكبرى المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين.
(*) تمثيل الجنوب العالمي: تمثل بريكس "الجنوب العالمي" في مواجهة الهيمنة الغربية، وتعكس مطالب الدول النامية في إصلاح النظام الدولي، فهذا التحالف يسعى إلى إصلاح مجلس الأمن، ومنظمات التمويل الدولية، وإعادة التوازن في الحوكمة الاقتصادية العالمية.
(*) مؤسسات تمويلية بديلة للنظام الغربي: فقد أنشأت بريكس مؤسسات سياسية–اقتصادية مستقلة مثل: بنك التنمية الجديد (NDB)، ترتيب احتياطي للطوارئ (CRA). وقد شهد منتدى الأعمال لمجموعة "بريكس" طرح مبادرات جديدة، من أبرزها إطلاق صندوق لضمان الاستثمارات، وتوسيع الشراكات في التمويل المناخي، مع تقارير عن قرب انضمام الصين إلى الصندوق البرازيلي لحماية الغابات المدارية. فهذه المؤسسات تعزز من الاستقلال الاستراتيجي للمجموعة عن المؤسسات الدولية التي يهيمن على قرارها القوى الغربية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
(*) المواقف الجماعية في القضايا الدولية: تنسّق المجموعة مواقفها في ملفات مثل: الأزمة الروسية الأوكرانية، النزاع في الشرق الأوسط، العقوبات الاقتصادية الغربية، قضايا الأمن الغذائي والطاقة. وتصدر المجموعة بيانات جماعية تنتقد التدخلات الغربية الأحادية وتدعو إلى التعددية القطبية.
(*) استقطاب دول جديدة: توسّعت بريكس لتضم دولًا مثل مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا وإندونيسيا، ما يدل على جاذبيتها السياسية المتزايدة. وتعكس هذه التوسعات رغبة دول الجنوب في البحث عن تكتلات سياسية–اقتصادية بديلة للغرب.
(*) نفوذ دول "بريكس" في المحافل متعددة الأطراف: تلعب دول بريكس أدوارًا محورية في منظمات مثل: مجموعة العشرين ومنظمة شنجهاي للتعاون وحركة عدم الانحياز والاتحاد الإفريقي، الأمر الذي من شأنه منح المجموعة قدرة على بناء توازنات وتحالفات متعددة داخل النظام الدولي.
ويتبين مما سبق، أن مجموعة "بريكس" تمتلك أدوات سياسية متعددة التأثير، أبرزها وجود قوى نووية وعضوين دائمين في مجلس الأمن، وتوسّعها في الجنوب العالمي، وإنشاء مؤسسات بديلة. ورغم التباينات بين أعضائها، فإن قدرتها على صياغة مواقف موحدة في القضايا الدولية الكبرى تمنحها وزنًا سياسيًا متصاعدًا في النظام الدولي يجعلها أكثر من مجرد تكتل اقتصادي.
تحديات معرقلة
رغم تنامي النفوذ الاقتصادي لأعضائها، تواجه مجموعة "بريكس" تحديات جوهرية تحد من فعاليتها العالمية، فرغم ما تحققه من نجاحات في مجالات الاقتصاد وتمويل التنمية، إلا أن الطريق نحو التأثير العالمي ما زال محفوفًا بالعقبات والتحديات، وذلك على النحو التالي:
(&) الاختلافات بين الدول الأعضاء: هناك العديد من الانقسامات الأيديولوجية العميقة بين الأنظمة السياسية في دول مجموعة "بريكس"، فضلًا عن التنافس الجيوسياسي بين بعض الدول الأعضاء في هذه المجموعة (كالصين والهند)، تعيق صياغة موقف موحد على الساحة الدولية. وهناك أيضًا الضغوط الغربية على بعض الأعضاء للحفاظ على مسافة من بكين وموسكو.
(&) ضعف الهيكل المؤسسي: لا تمتلك المجموعة حتى اللحظة آلية مؤسسية فاعلة أو أمانة عامة دائمة، ما يجعلها أقرب إلى منتدى للحوار منها إلى تكتل استراتيجي متماسك، فضلًا عن غياب الأجندة الموحدة، نتيجة تباين الأولويات الاقتصادية والتنموية بين الدول الأعضاء في المجموعة.
(&) محدودية الدور المالي العالمي: فحتى الآن هناك استخدام محدود للعملات المحلية في التعاملات بين دول مجموعة "بريكس"، وعدم تبني المجموعة لنظام بديل فعال للدولار أو منظومة SWIFT، الأمر الذي من شأنه غياب التأثير المالي الحقيقي عالميًا لتلك المجموعة حتى الآن.
(&) هيمنة الصين اقتصاديًا على المجموعة: تثير هيمنة الصين اقتصاديًا داخل هذه المجموعة، قلقًا متزايدًا من تحول بريكس إلى أداة ناعمة في يد بكين وتخدم أجندتها.
سيناريوهات محتملة
في ظل مصادر القوة المتوفرة لمجموعة "بريكس" وما تواجهها من تحديات سبق توضيحها، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل بريكس ودورها العالمي، وذلك على النحو التالي:
(-) السيناريو الأول (صعود مجموعة "بريكس" كقطب عالمي): يفترض هذا السيناريو نجاح مجموعة "بريكس" في بناء مؤسسات قوية وتوسيع التعاون الاقتصادي والتجاري، واعتماد أعضائها العملات المحلية وتقليص هيمنة الدولار. فمن شأن ذلك كله، أن يحوّل المجموعة لمنصة حقيقية لإصلاح النظام الدولي.
(-) السيناريو الثاني (بقاء مجموعة "بريكس" كمنتدى رمزي): يفترض هذا السيناريو تواصل عقد القمم والمنتديات لدول مجموعة "بريكس" دون تأثير فعلي على موازين القوة العالمية، فمن ذلك أن تظل هذه المجموعة أقرب إلى "منتدى حوار الجنوب" دون وزن سياسي أو مالي كبير.
(-) السيناريو الثالث (التراجع والتفكك التدريجي لمجموعة "بريكس"): هو السيناريو الأسوأ والأقل احتمالًا؛ حيث يذهب هذا السيناريو إلى احتمال اتساع الخلافات وتراجع الثقة بين أعضاء مجموعة "بريكس"، فمن شأن ذلك أن يُهمّش المجموعة دوليًا وتعود إلى دور شكلي فقط.
وإجمالًا، يظل السيناريو المرجح حاليًا هو استمرار مجموعة "بريكس" كمنتدى غير ملزم على المدى القصير، مع إمكانية التحول إلى قوة فاعلة إذا تم تجاوز التحديات الداخلية وتعزيز أدواتها المؤسسية. فما تحاول بريكس أن تقدمه اليوم ليس مجرد تحالف اقتصادي، بل مشروع حضاري عالمي يدعو لإعادة التوازن إلى منظومة الحكم الدولي. لكنها لن تبلغ ذلك الهدف إلا بتوحيد الرؤية، وتوزيع الأدوار بإنصاف، وامتلاك الشجاعة لبلورة آليات تنفيذية تقطع مع نموذج "الخطابات دون فعل". فبينما تتسع الفجوة بين دول الشمال والجنوب، تقف بريكس عند مفترق طرق حاسم: إما أن تكون رافعة لعالم متعدد الأقطاب، أو مجرد "تجمع مصالح" محدود التأثير في ظل عالم لا يعترف إلا بمن يملك أدوات الفعل والتغيير.
وفي النهاية، يمكن القول إنه رغم أن مجموعة "بريكس" قد لا يزال أمامها طريق طويل قبل أن تتصدر النظام العالمي، فإن تنامي طموحاتها خاصة بعد أن انضمت إليها قوى إقليمية جديدة، يعكس تحولات عميقة في ميزان القوة الدولي. ويظل نجاح المجموعة في بناء تحالف متماسك ومتعدد الأقطاب لا يعتمد فقط على قوتها الاقتصادية، بل على قدرتها على معالجة الانقسامات الداخلية للمجموعة، وتبنيها رؤية استراتيجية موحدة لعالم أكثر توازنًا وعدالة. ففي ظل النظام العالمي الأحادي القطبية الذي تهمين عليه الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، فإن مجموعة "بريكس" –رغم ما يواجهها من تحديات– تبقى أحد أهم البدائل في بداية "عصر ما بعد الغرب" المتعدد الأقطاب.