في الـ 30 من نوفمبر الماضي ألقت تصريحات الرئيس الأمريكي المُنتخب "دونالد ترامب" عن تكتل البريكس صدى واسعًا في الأوساط العالمية، إذ أوضح أنه بصدد فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول البريكس في حال اتخاذ أي خطوات تقوض وضع الدولار الأمريكي، وهو الأمر الذي استدعى البحث في مستقبل هذا التكتل في ظل الولاية الثانية لترامب.
ومن الجدير بالذكر هنا أن تكتل البريكس أصبح قوة اقتصادية صاعدة، خاصة خلال عام 2024، في ظل توسع التكتل بضم خمس دول جديدة، وهي "مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا"، ليصبح عدد الدول الأعضاء في التكتل 10 دول وهي الدول السابق ذكرها بالإضافة إلى المؤسسين الأصليين للتكتل وهم "روسيا والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند"، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد، مع طلبات الانضمام المُتزايدة، إذ عبرت أكثر من 30 دولة عن رغبتها في الانضمام لتكتل البريكس.
وتأسيسًا على ما سبق يُحاول هذا التحليل استشراف مستقبل تكتل البريكس في ظل تهديدات دونالد ترامب.
أبعاد مهمة
تحمل تصريحات ترامب الأخيرة عن تكتل البريكس، العديد من الأبعاد المهمة التي تتمثل في الآتي:
(-) مدى قابلية التنفيذ: يُثار تساؤل رئيسي عند متابعة تصريحات الرئيس الأمريكي المُنتخب "دونالد ترامب"، بأنه هل سيُنفذ هذه التهديدات أم لا؟، ويُمكن الإجابة على هذا من خلال تحركات ترامب في هذا الشأن، إذ إنه يُناقش في الوقت الحالي مع مستشاريه الاقتصاديين طرق معاقبة الخصوم، والدول الأخرى على حد سواء التي تستهدف الانخراط في التجارة الثنائية بعملات أخرى غير الدولار، كما أنه قال "ليس هناك فرصة لأن تحل عملة مجموعة البريكس محل الدولار الأمريكي في التجارة الدولية، وأي دولة تحاول ذلك عليها أن تودع أمريكا".
وفي هذا الإطار أوضح ترامب خلال مقابلة تلفزيونية مع شبكة "سي إن بي سي" في مارس الماضي، أنه يريد أن يظل الدولار العملة الاحتياطية للعالم، كما أوضح أنه لن يسمح للدول بالتخلي عن الدولار؛ لأن ذلك سيكون ضربة لبلاده، ويُمكن القول من متابعة معظم تصريحات ترامب أنه ينتهج أسلوب التهديد بفرض الرسوم الجمركية في معظم العلاقات الاقتصادية الخارجية، وهو ما سيضر الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير.
فبالتالي وفقًا للمُعطيات السابقة يُمكن القول إن ترامب سيتخذ أي خطوة تُحافظ على هيمنة الدولار عالميًا، خاصة أن الحزب الجمهوري أصبح الحزب المُسيطر في الكونجرس الأمريكي، مما سيُساعد الرئيس المنتخب بشكل كبير في تنفيذ أجندته.
(-) الارتباط بمصالح اقتصادية: إن معظم الدول الأعضاء في تكتل البريكس لديها مصالح اقتصادية كبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي اتضح من تصريحات ترامب بأنه يُهدد الدول بالدخول إلى السوق الأمريكية، وهو ما يوضح أنه يعول بشكل كبير على أن الدول لن تتخلى عن التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ويُمكن توضيح العلاقات الاقتصادية بين بعض دول تكتل البريكس والولايات المتحدة الأمريكية من خلال الشكل (1)، الذي اشتمل على أكثر الدول تعاملًا مع أمريكا في عام 2023، فالصين تُعتبر شريكًا تجاريًا كبيرًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من انخفاض معدلات التبادل التجاري عن مستوياتها السابقة، إذ تبلغ الواردات الأمريكية من الصين 448.02 مليار دولار، بينما تبلغ الصادرات الأمريكية إلى الصين 148 مليار دولار، وتأتي في المركز الثاني "الهند" بحجم واردات أمريكية 87.28 مليار دولار وبحجم صادرات أمريكية 40.12 مليار دولار أمريكي.
وكما يزداد التبادل التجاري الأمريكي مع البرازيل بحجم واردات 41 مليار دولار، وبحجم صادرات 44.81 مليار دولار، وفي السعودية يبلغ حجم الواردات الأمريكية 16.51 مليار دولار، بينما يبلغ حجم الصادرات الأمريكية إلى السعودية 13.87 مليار دولار، وفي الإمارات يرتفع حجم الصادرات الأمريكية، إذ تبلغ 24.86 مليار دولار، بينما يبلغ حجم الواردات الأمريكية 6.78 مليار دولار، وفي جنوب إفريقيا لم يكن الأمر مختلفًا، فتظل الولايات المتحدة الأمريكية شريكًا تجاريًا مهمًا بحجم واردات 14.2 مليار دولار، وبحجم صادرات 7.16 مليار دولار، وفي مصر يبلغ حجم الواردات الأمريكية 2.54 مليار دولار، بينما يبلغ حجم الصادرات الأمريكية إلى مصر 4.49 مليار دولار.
وعلى هذا الأساس يُمكن القول إن العلاقات الاقتصادية الكبيرة بين العديد من الدول الأعضاء في تكتل البريكس مع الولايات المتحدة الأمريكية، ستُحقق هدف ترامب المُتمثل في الحفاظ على وضع عملة الدولار في الاقتصاد العالمي.
(-) إقرار قوة التكتل: إن اهتمام دونالد ترامب بتكتل البريكس، والحديث عنه بشكل منفرد، يعني اعترافًا ضمنيًا من رئيس أكبر دولة في العالم، أن هذا التكتل يُعتبر قوة كبيرة تُثير تحركاته مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية، فمن خلال الشكل (2) يتضح أن تكتل البريكس ارتفع حجمه من 25.8 تريليون دولار في عام 2023 إلى 28.3 تريليون دولار في عام 2024، أي ارتفع حجمه بنسبة 9.69%، وهو الأمر الذي يُشير إلى أن تكتل البريكس قوة اقتصادية لا يُستهان بها، إذ تجاوز حجمه حجم الاقتصاد الأمريكي الذي قُدر بحوالي 28.1 تريليون دولار في عام 2024، وهو الأمر الذي يُبرر سبب هذه التهديدات.
مُستقبل التكتل
يُمكن استشراف مُستقبل تكتل البريكس في ظل الولاية الثانية لترامب من خلال ثلاثة اتجاهات، وذلك على النحو التالي:
(-) الاتجاه الأول: يتمثل هذا الاتجاه في "استمرار نمو التكتل"، فتصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب لن تقف أمام توسع تكتل البريكس في الفترة المُقبلة وانضمام دول جديدة إليه، إذ إن هناك العديد من الأهداف التنموية لتكتل البريكس، من أهمها دعم جهود التنمية في الدول الأعضاء من خلال توفير التمويل المُيسر والمُستدام، وتنشيط التبادل التجاري بين الدول الأعضاء، من خلال إلغاء الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء في التكتل، وهو الأمر الذي سيجعل البريكس من أهم التكتلات الاقتصادية العالمية في الفترة المُقبلة.
(-) الاتجاه الثاني: يُعبر هذا الاتجاه عن "تقويض فكرة إلغاء هيمنة الدولار"، وهذا الاتجاه لم يتبلور من تصريحات ترامب الأخيرة، ولكنه تم التنبؤ به من خلال تتبع مسار التكتل منذ نشأته في عام 2009، إذ إنه خلال حوالي 15 عامًا، لم يستطع التكتل إلغاء هيمنة الدولار في الاقتصاد العالمي، فالدولار يظل العملة الاحتياطية الأولى في العالم كما يوضح الشكل (3)، إذ بلغت نسبة الاحتياطي النقدي بالدولار الأمريكي حوالي 58%، بينما جاء اليورو في المرتبة الثانية بنسبة 20%، ثم الين الياباني بنسبة 6%، والجنيه الإسترليني بنسبة 5%، ثم تأتي باقي العملات الأخرى، ويتضح من هذه النسب أن الدولار لا يزال عملة مطلوبة من جميع دول العالم، ومن الصعب تبديلها بعملة أخرى، وما يؤكد هذا الاتجاه رد وزارة الخارجية الصينية على تصريحات ترامب بأن التعاون بين دول البريكس لا يستهدف أطرافًا ثالثة، وهو ما يوضح أن التعاون في المرحلة المُقبلة سيأخذ في الحسبان رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأمريكية وأيدولوجيته المُعادية لأي تكتل.
(-) الاتجاه الثالث: يتمثل هذا الاتجاه في "زيادة عدم التوافق بين الدول الأعضاء"، فإن من أحد الأسباب الأساسية التي أعاقت تبني عملة بديلة للدولار بين الدول الأعضاء في تكتل البريكس، هو الاختلاف في كيفية ارتباط الدول داخل التكتل بالولايات المتحدة الأمريكية، فالصين شريك تجاري قوي معها، بالإضافة إلى أن العلاقات الهندية الأمريكية تتسم بالتطور الكبير، وهو الأمر الذي سيجعل من الصعب على هذه الدول مُعاداة النظام الأمريكي المُنتخب، كما أن التوتر بين الصين والهند، الذي يدفعه التطلعات الجيوسياسية لكل دولة، سيحد من إصدار عملة بديلة للدولار في إطار التكتل.
وفي النهاية، يُمكن القول إن الرئيس الأمريكي المُنتخب "دونالد ترامب" أدرك الحجم الكبير لتكتل البريكس، باعتباره تكتلًا يضم مجموعة كبيرة من الاقتصاديات الصاعدة وأصبح يستقطب العديد من الدول الأخرى، التي لها تأثير كبير في النظام الاقتصادي العالمي، وهو ما دفعه لاستهدافه بهذه التهديدات القوية، ولكن على الرغم من أن التكتل من المُرجح ألا يستطيع إصدار عملة بديلة للدولار، فإنه سينمو بشكل كبير في الأيام المُقبلة، وسيُحقق تغييرًا ملموسًا في الاقتصاد العالمي.