بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف إطلاق النار في الحرب التي نشبت بين إسرائيل وإيران وامتدت لاثنى عشر يومًا، في الفترة من 13 حتى 24 يونيو 2025، باستهداف إسرائيل المنشآت الإيرانية الإستراتيجية، منها النووية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك استهداف عدد من علماء الذرة والقيادات العسكرية، وفي المقابل ردَّت إيران باستهداف العديد من المدن الإسرائيلية والمواقع الإستراتيجية في تل أبيب وحيفا وبئر السبع وغيرها.
ومع إعلان طرفي الصراع انتصار كل منهما فى تلك الحرب، بدا التساؤل المركزي يدور حول ما إذا كانت نتائج تلك الحرب ستؤدى إلى تغير موازين القوى فى إقليم الشرق الأوسط، أم إن نتائج المواجهات بين الطرفين -وحتى بعد دخول الولايات المتحدة لمساندة إسرائيل واستهداف ثلاث منشآت نووية إيرانية هى: فوردو ونطنز وأصفهان- لا تزال قيد التقييم، وأن تغيير موازين القوى في إقليم الشرق الأوسط يحتاج لعقود متتالية فى ظل التداخل الإقليمي والدولي مع تفاعلات المشهد المعقد بمفرداته المتعددة.
تفاعلات ممتدة
يمكن الإشارة إلى التفاعلات الممتدة للأطراف المعنية بالصراع الإسرائيلي الإيراني على النحو التالي:
(*) الولايات المتحدة الأمريكية: أدت الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى سقوط نظرية الردع بين إسرائيل وإيران، بعد أن أصبحت المواجهات مباشرة بينهما وبعيدًا عن الوكلاء الذين تم توظيفهم لإدارة الصراع الإسرائيلي الإيراني، وبدا أن المتغير الجوهري فى مسار ذلك الصراع هو دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب في 22 يونيو 2025، وقبل إعلان ترامب توقفها بيومين، وهو ما سيكون له تأثيره المباشر على مجمل تفاعلات الإقليم، بعد أن عكست الحرب الانخراط الأمريكي في تفاعلات الإقليم لضمان أمن إسرائيل حليفها الإستراتيجى، وأن الولايات المتحدة لا تزال هي القوة القادرة على حسم صراعات الإقليم برغم تبنيها لمبدأ التوجه شرقًا لمحاصرة النفوذ الصيني.
لذلك من المحتمل أن تسعى الولايات المتحدة للضغط على إيران لوقف برنامجها النووي، وذلك من خلال تقديم حزمة من الحوافز الاقتصادية والمالية فى حال استئناف المفاوضات بين الطرفين.
(*) إسرائيل: أفرزت حرب إسرائيل وإيران حقيقة مؤكدة وهي عدم قدرة إسرائيل على حسم أي من الصراعات التي تكون طرف فيها في إقليم الشرق الأوسط من دون مساندة أمريكية، وهو الأمر الذي كشفته بجلاء مواجهاتها مع إيران، كما عكست تلك الحرب أيضًا ترجمة ما يدعيه رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وهو سعيه لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل بعد أن شن العديد من المواجهات على جبهات متعددة في غزة واليمن ولبنان وسوريا. وهي المواجهات التى كشفت أيضًاعن عدم تخلي إسرائيل عن ميولها التوسعية في الإقليم، بما جعل شعوب الإقليم تشكك فى جدوى المقاربات السلمية التى تطرحها.
(*) إيران: نجحت إيران في الصمود أمام الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت العديد من المواقع الإستراتيجية الإيرانية، وامتلكت القدرات الذاتية على استهداف عمق إسرائيل عبر صواريخها الباليستية، وربما كانت الضربات النوعية الإيرانية ضد إسرائيل أحد العوامل التي أسهمت فى الانخراط الأمريكي في الحرب، للوصول إلى نقطة توازن تقنع طرفي الصراع بضرورة إنهائه.
(*) الدول العربية: مرَّ الموقف العربي بمحطتين مفصليتين خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية، الأولى، هي إدانة الاعتداء الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية والمطالبة باحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، ورفض أى ممارسات تمثل خرقًا للقانون الدولي ومبادىء ومقاصد الأمم المتحدة، وتسوية النزاعات بالسبل السلمية. أما المحطة الثانية فإنها ارتبطت بإدانة الدول العربية للعدوان الإيراني على قطر بعد أن شنت إيران هجومًا على قاعدة العديد في قطر ردًا على هجوم الولايات المتحدة على منشآت إيران النووية، إذ أعربت الدول العربية عن استنكارها للهجوم الإيراني واعتبرته انتهاكًا لسيادتها وتهديدًا لسلامة أراضيها وخرقًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
(*) روسيا والصين: اعتقدت العديد من التحليلات أن الحرب الإسرائيلية الإيرانية، والتى شهدت دعمًا أمريكيًا منقطع النظير للحليف الإستراتيجى لها إسرائيل، ربما تمثل فرصة ملائمة للصين وروسيا لمساندة إيران، باعتبارهما تمتلكان شراكة إستراتيجية معها، وبما يتماشى مع تبنيهما لمبدأ التحول نحو التعددية القطبية بدلًا من وجود نظام أحادى القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي لم يتحقق، فالموقفين الصيني والروسي جسدا التوازن إزاء تطورات الحرب دون الانحياز لأي من طرفي الصراع، بما عكس التوجه الصيني البعيد عن الانخراط فى الصراعات والأزمات الإقليمية والدولية والتركيز على الصعود الاقتصادي برغم تبنيها للوساطة في الشرق الأوسط ما بين السعودية وإيران بما أدى لاستئناف العلاقات بينهما. هذا الموقف الحذِر للصين إزاء حرب إسرائيل وإيران جعل البعض يشير إلى أن ثمة تقويض للجهود الدبلوماسية التى تبذلها الصين منذ سنوات سعيًا لترسيخ مكانتها كوسيط في الشرق الأوسط.
(*) الدول الأوروبية: على الرغم من أن الأوروبيين يعتقدون بتهميش ترامب لدورهم سواء في أوكرانيا أو تفاعلات الشرق الأوسط، وهو ما جسده إعلان وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو بأن فرنسا لم تشارك فى الضربات الأمريكية ضد إيران، ولم تكن على علم مسبق بها، إلا أن ثمة تأييد ضمنى لتلك الضربات فالمستشار الألماني فريدريش ميرز لم يتردد في القول بأن إسرائيل تقوم بالعمل القذر بالنيابة عن الأوربيين، كما أكد الرئيس الفرنسي أن نتائج الضربات الاسرائيلية والأمريكية تصب في خانة الأهداف التي يسعى الأوروبيون لتحقيقها في ما يتعلق بالنووى الإيراني.
مستقبل الإقليم
يبدو أن ما انتجته الحرب الإسرائيلية هو تزايد المخاوف من مزيد من الفوضي التى يعاني منها إقليم الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يجسده وجود مشروعات إقليمية لا تزال مستمرة في التنافس على تغيير موازين القوى فى الإقليم، وبما يتماشى مع مصالح تلك القوى التي تسعى لتوظيف تحالفها الإستراتيجي مع القوى الكبرى للهيمنة والسيطرة وتعزيز نفوذها في إقليم الشرق الأوسط. فإذا كانت الدول الغربية تتبنى موقفًا واضحًا إزاء المطلوب من إيران، وهو رفض تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية، ومنع إيران من امتلاك قنبلة نووية، وضرورة الحد من القدرات الصاروخية والباليستية الإيرانية، إلا أن الدول الغربية أيضًا تؤيد معظم الممارسات الإسرائيلية في الإقليم، حتى إنها لم تنجح حتى الآن في الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على غزة.
لذلك، فإن مستقبل الإقليم لن يتوقف فقط على نتائج المواجهات بين القوى الراغبة في تغيير موازين القوى لصالحها، وإنما بمدى قدرة الأطراف المعنية بتفاعلات الإقليم على وقف التصعيد بين مكوناته، وهو ما يتطلب إعادة تبني مبدأ حظر انتشار الأسلحة النووية في الإقليم وإخضاع كل دول الإقليم لذلك التوجه.
مجمل القول، سترتبط تفاعلات إقليم الشرق الأوسط ومدى تغيير موازين القوى الإقليمية بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية بتقييم نتائج تلك الحرب، وحدود تحقيق كل طرف لأهدافه، ومدى خسائر كل طرف من تلك المواجهات التي تمت بعد الانخراط الأمريكي فى مسار الحرب، ومع إعلان طرفي الصراع إسرائيل وإيران عن احتفال كل منهما بتحقيق النصر، فإن فصول المواجهات لا تزال مفتوحة ما لم يتم تسوية موثوقة وطويلة الأمد بين الجانبين، وبما يحول دون تقويض الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.