أن تقترب من تراث أم كلثوم، فهذا ليس مجرّد تجربة غنائية، بل مواجهة مع المجد، ووقوف في حضرة قامة لا تتكرر، ورغم مرور خمسين عامًا على رحيل كوكب الشرق، لا يزال صوتها حيًا يتردّد في القلوب قبل الآذان، يلامس الوجدان العربي كما لو أنه خُلق ليبقى.
وفيما تواصل الأجيال الجديدة بحثها عن هوية فنية وسط عالم متسارع، تعود مطربات هذا الجيل إلى إرثها، بين من تحاكيه حبًا ومن تُعيد تقديمه برؤية معاصرة لا تفقده أصالته.
لم ينحصر الإرث الضخم لكوكب الشرق في شرائط الكاسيت والإسطوانات أو تسجيلات الحفلات القديمة فقط، بل يتجدد باستمرار ويتجلى من جديد عبر حناجر مطربات تجرأن على لمس هذا المجد الغنائي، فبعضهن سار على دربها بتقليد صوتها وأسلوبها، وأخريات حملن أغنياتها إلى أبعاد جديدة تمزج فيها بين الوفاء للأصل وروح فنية مبتكرة، لا تخشى التجريب ولا تتنازل عن الاحترام.
من آمال ماهر إلى مي فاروق، ومن شيرين عبد الوهاب إلى مروة ناجي وريهام عبد الحكيم، تجارب متعددة ومتنوعة حاولت استحضار روح "الست"، لا تقليدًا بل احتفاء، لا استنساخًا بل إعادة قراءة فنية، غير أن هذه المحاولات طرحت سؤالًا: هل الغناء لأم كلثوم تكريم لتاريخها أو مجازفة فنية لمطربات الجيل الجديد؟
يرى الناقد الموسيقي المصري أشرف عبد الرحمن أن إعادة تقديم أغنيات كوكب الشرق من قِبل مطربات الجيل الحالي لا تُعد مجازفة فنية كما يعتقد البعض، بل تمثل أحد أشكال الوفاء لهذا الإرث الخالد.
ويقول في تصريحاته لموقع "القاهرة الإخبارية": "أم كلثوم حالة فنية استثنائية لا تُقارن، وما نشهده اليوم ليس محاولة لمنافستها، بل محاولة مخلصة للحفاظ على هذا الفن الراقي في وجدان الأجيال الجديدة. حين تستمع أذن شابة إلى أغنية بصوت معاصر، وتُخبر بأنها لأم كلثوم، فهي تعود سريعًا للأصل وتكتشف عظمة الفن الذي غاب عن كثير من وسائل الإعلام اليوم".
بصمات معاصرة
ويُشيد عبد الرحمن بعدد من المطربات اللاتي قدمن أغنيات أم كلثوم باحترافية ملحوظة، مؤكدًا أن كل واحدة منهن أضافت لمستها الشخصية مع الحفاظ على روح العمل الأصلي.
وفي هذا السياق، ذكر أسماء مثل مي فاروق، وآمال ماهر، ومروة ناجي، وريهام عبد الحكيم، قائلًا: "هؤلاء الفنانات لم يكتفين بالتقليد، بل مزجن بين الاحترام الكامل للتراث وبين لمسات إبداعية خاصة، وهذا ما يخلق تجربة فنية حقيقية تستحق التقدير".
إحياء الهوية الفنية
من منظور أوسع، يربط الناقد المصري بين الغناء الكلاسيكي واستعادة الهوية الثقافية، إذ رأى أن هذه الأغاني تمثل نافذة لإعادة اكتشاف الذات الفنية المصرية.
ويوضح: "تقديم الأغاني الكلاسيكية من جديد ليس مجرد تكرار، بل إحياء لهويتنا الموسيقية التي تُشكل جوهر وجودنا، الأمر لا يقتصر على الصوت، بل على الإحساس بالمقام والطابع الشرقي، وهو ما نفتقده في ظل هيمنة الموسيقى الغربية التي تهدد بطمس الهوية".
عرض "صوت وصورة"
في هذا السياق، يتوقف عبد الرحمن عند تجربة المطربة مروة ناجي التي قدمت عرضًا مسرحيًا غنائيًا بعنوان "صوت وصورة" على مسرح قصر النيل، بمناسبة مرور خمسين عامًا على رحيل كوكب الشرق.
وقال:"مروة ناجي صوت قوي ومؤثر، ونجحت في تقديم هذا العرض برؤية فنية واعية، تؤكد قدرتها على إحياء التراث بشكل مبتكر. تجربتها تمثل نموذجًا يحتذى به للشباب المهتم بإرث بلده".
الهولوجرام
أما عن استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل تقنية "الهولوجرام" في إعادة تقديم أم كلثوم، فيراها عبد الرحمن خطوة إيجابية، شرط الحفاظ على الصوت الأصلي للفنانة.
وذكر:"نخاطب اليوم جيلًا بعقلية مختلفة وذائقة متطورة، لذا لا يمكن أن نقدم التراث بالشكل التقليدي فقط. استخدام الهولوجرام يتيح تقديم هذا الإرث في قالب عصري جذاب دون المساس بجوهره، أما الخطر الحقيقي فيكمن في استخدام الذكاء الاصطناعي لتعديل الأصوات، ما يُفقد العمل هويته الأصلية".
من جانبه، يصف الناقد الموسيقي إيهاب صبري إعادة تقديم أغنيات أم كلثوم من قِبل مطربات الجيل الحالي بأنها "مجازفة فنية محفوفة بالتحديات"، رغم اعترافه بأنها تنم عن حب وتقدير لتراث كوكب الشرق.
ويقول في حديثه لموقع "القاهرة الإخبارية": "هذا الاتجاه يحمل أبعادًا فنية معقدة، فالأغاني التي أدتها أم كلثوم ليست مجرد ألحان وكلمات، بل تجربة غنائية متكاملة تُجسد روح عصرها وصوتًا نادرًا يصعب تكراره".
تراث حي
ويضيف "صبري" أن هذه المحاولات، ورغم التحديات، تسهم في إبقاء إرث أم كلثوم حيًا ومتداولًا بين الجمهور، مؤكدًا أهمية الحفاظ على أصالة الألحان والكلمات.
وتابع: "هي محاولات نابعة من حب كبير واحترام عميق للفن الأصيل، وهي تفتح نافذة للأجيال الجديدة للتعرف على هذا التراث العظيم، رغم أنها تظل تذكرة بقمة فنية يصعب الوصول إليها".