الوجه الآخر للفنان.. حين تروي الوثائقيات قصة الإنسان خلف الأضواء
في السنوات الأخيرة لجأ عدد من كبار النجوم إلى الوثائقيات الموسيقية لكشف الجوانب الخفية من حياتهم، في تجربة مختلفة تكسر الصورة النمطية التي رسمها الإعلام أو الجمهور عنهم. ومن عمرو دياب الذي وثّق رحلته الفنية والإنسانية في "الحلم"، إلى إليسا التي شاركت جمهورها تفاصيل معركتها مع السرطان، مرورًا بفضل شاكر في "يا غايب"، وجورج وسوف في "مسيرتي"، وصولًا إلى فرقة "مسار إجباري" التي احتفلت بعشرين عامًا من الموسيقى في فيلم "ما بقتش أخاف"، أصبح هذا النوع من الوثائقيات وسيلة فنية وإنسانية تسرد قصة الفنان بصدق وعفوية، وتضع المُشاهد وجهًا لوجه مع لحظات الضعف والانتصار، الإخفاق والنجاح.
الوثائقيات الموسيقية لم تعد مجرد أرشيف بصري لأعمال فنية، بل تحوّلت إلى وسائط سردية تكشف خيوط الإبداع وتسبر أغوار الفنان لتعيد تقديمه من منظور أكثر إنسانية وواقعية، يتجاوز ما يُقال عنه في الأخبار أو يُشاع على وسائل التواصل.
رحلة "مسار إجباري"
يُعد الفيلم الوثائقي "ما بقتش أخاف" للمخرج المصري أمير الشناوي، نموذجًا مميزًا لهذا النوع من التوثيق الفني، إذ يُسلط الضوء على مسيرة فرقة "مسار إجباري"، احتفالًا بمرور عشرين عامًا على انطلاقتها. يأخذ الفيلم المُشاهدين في رحلة بصرية ووجدانية عبر محطات الفرقة المختلفة، موثقًا التحديات التي خاضها أعضاؤها، وكواليس إنتاج أغانيهم، إضافة إلى لمحات من حياتهم الشخصية غير المعروفة.
وفي تصريحات لموقع "القاهرة الإخبارية"، أوضح "الشناوي" أن فكرة الفيلم جاءت بمبادرة من أعضاء الفرقة، نظرًا لعلاقة الصداقة التي تربطه بهم، وسعيهم الدائم للعمل سويًا على مشروع فني. ومع بداية التحضير لألبومهم الجديد "ما بقتش أخاف"، شعر الجميع بأن الوقت مناسب لتوثيق هذه المرحلة من رحلتهم الفنية عبر فيلم وثائقي.
تحديات التصوير
واجه "الشناوي" عدة تحديات في أثناء التصوير، أبرزها الحفاظ على عفوية الأعضاء ونقل روح الفرقة دون تدخل مفتعل من الكاميرا. يقول: "اعتمدت على أسلوب المعايشة، إذ رافقت الفريق في مواقع العمل وجلساتهم الموسيقية، ما أتاح لي التقاط لحظاتهم الطبيعية والبسيطة".
ورغم التحديات التقنية الناتجة عن محدودية الموارد، فإن العلاقة الوثيقة بينه وبين أعضاء "مسار إجباري" ساعدت على تجاوز الصعوبات، وأسهمت في خلق بيئة عمل مرنة ومليئة بالثقة، انعكست على صدق العمل وجودته.
وثائقيات الموسيقى
يرى "الشناوي" أن الوثائقيات الموسيقية أصبحت تلعب دورًا محوريًا في كشف الجوانب الخفية من حياة الفنانين، وتتيح للجمهور فرصة نادرة لرؤية ما يحدث خلف الكواليس. ففي فيلمه، يرى المشاهدون لأول مرة كيف تُنتج الأغاني ويتكون الألبوم، ما يُظهر الجهد الهائل وراء أعمال لا تتجاوز بضع دقائق.
ويضيف: "هذه الوثائقيات تُظهر الفنان كإنسان له مشاعره وتحدياته وتقربه من جمهوره، ما يخلق علاقة إنسانية تتجاوز حدود الإعجاب الفني التقليدي".
جورج وسوف
أما المخرج اللبناني دافيد أوريان، فيصف تجربته في إخراج المسلسل الوثائقي "مسيرتي" للفنان جورج وسوف، بأنها من التجارب الأقرب إلى قلبه، قائلًا: "لم تكن مجرد تجربة مهنية، بل كانت رحلة إنسانية صادقة، مليئة بالعفوية والمشاعر. لم أتعامل معها كعمل فني فقط، بل كحكاية رجل عاش المجد والألم والانكسار، وكان التحدي أن ننقل هذه الحالة إلى الشاشة بصدق وعمق".
ويضيف: "أنا بطبعي أحب المزج بين التوثيق والدراما، لأنه يمنح القصة نبضًا إنسانيًا وبعدًا فنيًا. حاولنا ألا نجامل أو نبالغ، بل أردنا للناس أن يروا جورج وسوف كما هو، استخدمنا التمثيل لنقل المشاعر الحقيقية، والأرشيف ليمنحنا المصداقية، فكانت النتيجة عملًا يمزج بين الإحساس والواقع".
تحديات تجسيد السيرة
يتحدث "أوريان" عن التحديات التي واجهته، خصوصًا في تجسيد مراحل متقدمة من حياة جورج وسوف، قائلًا: "حياة أبو وديع لا يمكن اختصارها في عدد محدود من الحلقات. هي حياة استثنائية، من الطفولة إلى المرض والانكسار، ولكل مرحلة طابعها الخاص. حرصنا على أن نعيش كل مرحلة ونصورها بكامل تفاصيلها".
ويضيف: "من أصعب التحديات تجسيد شخصية وسوف في مرحلة المرض، إذ استعنا بشخص يُشبهه، لكنه ليس ممثلًا محترفًا. خضنا مغامرة أن يُمثل أمام الكاميرا، مع استخدام صوت آخر لأداء الحوار، وكانت تجربة جريئة منحت العمل واقعية مضاعفة".
ويروي "أوريان" عن تعاونه مع جورج وسوف، خلال مراحل إنتاج المسلسل: "كان التعاون مزيجًا من الرهبة والمتعة. هو شخصية فريدة، مليئة بالقصص، وكنا نستمع له ونسجل التفاصيل، ونعيد بناء النص انطلاقًا من رواياته، إلى جانب البحث ومراجعة أرشيف لقاءاته ومقالاته".
ويوضح: "جورج وسوف ليس مجرد نجم، بل قصة عربية متكاملة، وردود الفعل التي تلقيناها بعد عرض العمل كانت مؤثرة للغاية. الناس رأوا فيه الإنسان لا الفنان فقط، رأوا دموعه وصمته وعناده وقسوته على نفسه. هذه ليست فقط قصته، بل قصة كل من عرف الحلم والوجع والإصرار".
من عمرو دياب إلى فضل شاكر
في السياق ذاته، قدّم عدد من النجوم تجارب وثائقية شخصية مؤثرة. الفنان عمرو دياب استعرض مسيرته الفنية والشخصية في مسلسل "الحلم"، الذي وثّق محطات حياته بتفاصيلها المختلفة.
أما الفنانة اللبنانية إليسا، فخاضت تجربة وثائقية خاصة بعنوان "It’s OK"، سلطت من خلالها الضوء على معركتها مع مرض السرطان، إلى جانب التحديات المهنية والإنسانية التي واجهتها.
وتناول المسلسل الوثائقي "يا غايب" السيرة الذاتية للفنان اللبناني فضل شاكر، منذ نشأته في بيئة متواضعة، مرورًا ببداياته الفنية وصعوده، واعتزاله وما رافق ذلك من جدل، وصولًا إلى عودته للساحة الفنية مرة أخرى.
التوثيق وتشكيل الصورة
يرى الناقد الموسيقي أشرف عبدالرحمن، أن الوثائقيات الموسيقية أصبحت بمثابة مذكرات يُدوّنها الفنانون بأصواتهم لا بأقلام الكتّاب، يقول: "هي تمنح الجمهور فرصة للتعرف على الفنانين، من خلال مشاعرهم وأصواتهم، بدلًا من القراءة الجافة للسير الذاتية التقليدية".
ويضيف: "الوثائقيات تُعد أداة قوية لتشكيل صورة الفنان لدى الجمهور، لأنها تكشف عن صراعاته الشخصية والإنسانية، ما يُعزز الارتباط العاطفي معه".
ويؤكد عبدالرحمن، أن هذه الوثائقيات تُسهم في زيادة وعي الجمهور الموسيقي، قائلًا: "تتيح فهمًا أعمق لعملية إنتاج الأغاني واختيارات الفنانين. عندما يحب الجمهور فنًا معينًا، يسعون لاكتشاف الإنسان الذي يقف وراءه، وهذا ليس فضولًا بل تعبير عن الارتباط بالفن الصادق".
"الوثائقيات الموسيقية تفتح للجمهور نوافذ جديدة لرؤية الفن بعيون إنسانية".. بهذا الحديث عبّر عن رأيه، إذ كشف أن الفنان يتحول من رمز بعيد إلى شخصية حقيقية يعيش الناس معها رحلة الإبداع بكل تفاصيلها.