إرث الرحابنة مسؤولية ثقيلة لكنني أعمل بثقة وخطوات مدروسة
مفاجآت كثيرة مع هبة طوجي في مهرجان بعلبك
هبة طوجي ليست مطربة فقط بل مشروع فني متكامل
نحضّر لألبوم فرنسي جديد وهوية العمل لبنانية عالمية
علاقتي بمصر وجدانية وشعبها متذوق استثنائي للفن
في عالم تزداد فيه الإيقاعات تسارعًا وتتنافس الأصوات على الانتشار السريع، يظل الموسيقار اللبناني أسامة الرحباني حالة فنية خاصة، يحمل الموسيقى على كتفيه كما يحمل الفكر، ويصر على أن تكون الكلمة بوصلة واللحن رسالة والمسرح حياة، فهو ابن مدرسة الرحابنة، لكنه لم يقف عند حدود الإرث، بل وسّع أفقه ليبني مشروعًا فنيًا متفردًا، يمزج بين الأصالة والتجديد، ويقدم فنًا يعانق الروح ويحاكي العقل.
وفي حواره لموقع "القاهرة الإخبارية"، يفتح لنا أبواب رؤيته ويتحدث عن الفن والموسيقى والإرث والهوية، كما يتطرق إلى تعاونه الطويل والمستمر مع الفنانة اللبنانية هبة طوجي، ومشروعاتهم الجديدة سويًا، وعلاقته بالشعب المصري، وأمور أخرى كثيرة نقرأها في هذه السطور:
التمرد جزء من تكويني
في بداية حديثه يتأمل اللبناني أسامة الرحباني مسيرته الفنية بعد مرور أربعة عقود، قائلًا: "الإنسان يمر بمراحل متعددة في حياته، ففي البدايات يكون متلقيًا للمعرفة والثقافة، مكتشفًا موهبته، ثم يعمل على صقلها وتطويرها، ولقد نشأت في بيئة موسيقية استثنائية، مناخها الفني مغاير، وتربيتنا الجمالية كانت محاطة بأنواع متعددة من الموسيقى، ما شكّل لدينا ذوقًا خاصًا وثقافة واسعة، وأعطانا بُعدًا مختلفًا في مقاربة الفن والجمال".
ويضيف:" منذ صغري، كان التمرد جزءًا من تكويني، تمردت على القوالب الجاهزة في الموسيقى، وعلى الطرق التقليدية في استخدام الصوت، وانفتاح دائم على كل ما هو جديد ومغاير، وعلى الرغم أن الأسلوب قد يتطور، وقد تُضاف إليه طبقات وتجارب، لكن الجوهر يبقى هو ذاته، لقد حرصت على مواكبة العصر، ولكن دون أن أفقد هويتي".
وتابع: "الموسيقى ابنة بيئتها، تشبه الشعوب التي تنبع منها. ومع تطور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تحولت الموسيقى إلى صناعة قائمة بذاتها، بين ما هو سطحي وما هو عميق. قد يكون ذلك التطور مفيدا أو مضرا، لكنني بقيت وفيا لأسلوبي، حتى بات الناس يعرفونني من خلاله، رغم أنني لا أكف عن التجديد ومجاراة العصر".
الانتشار
يرى أسامة الرحباني أن اختلاف الأذواق أمر طبيعي، يتأثر بعوامل عديدة كالتربية، والثقافة، والمدارس الفكرية، وحتى تركيبة العائلات والمجتمعات، فلكل بيئة خصوصيتها، ولكل مجتمع توجهه الفني والثقافي.
ويؤكد أنه رغم هذا التنوع لم يسع يومًا إلى تقديم تنازلات في فنه من أجل تحقيق تفاعل أكبر أو انتشار أوسع، حتى في زمن السوشيال ميديا، حيث باتت المعايير أكثر سطحية وسرعة، قائلًا: "أقدم الموسيقى كما أحبها، كما أراها، وكما تعبّر عني، والفرق الوحيد هو أنني أراقب توجهات الذوق العام، لا لأتبعها، بل لأُجري مقاربة جديدة تتيح لي مخاطبة هذا الذوق بلغة فنية تظل وفية لهويتي، وتجمع بين الأصالة والتجديد".
الإرث مسؤولية
يشير أسامة الرحباني إلى أن ما قدمه الأخوان عاصي ومنصور الرحباني لا مثيل له في العالم العربي، قائلًا: "كان مشروعهما شاملًا على جميع المستويات، إذ جمعا بين الفكر والفن، بين الموسيقى والشعر، وبين الإبداع والمسرح، لقد أدخلا الأوركسترا إلى الموسيقى العربية، وأعادا توزيع الموسيقى الشرقية بأسلوب مبتكر، وأخذاها إلى آفاق جديدة. لكن الأهم من كل ذلك هو الفكر العميق الذي حملاه في كل عمل، سواء شعرًا أو لحنًا أو عرضًا مسرحيًا".
ويضيف: "كان لهما تأثير يتجاوز الفن، إذ أثرا في ساسة، وأحزاب، وشرائح واسعة من الناس. هذا إرث عظيم، وأنا فخور بانتمائي إلى هذه العائلة التي نشأت في حضنها، وأقدر عاصي ومنصور وفيروز تقديرا لا يُقاس. أو أنتمي إلى هذه المدرسة سواء كنت ابنهم بالدم أو بالنهج، وقد غرسوا فينا الضمير، والمهنية، والاحترام العميق للفن والإنسان".
وتابع: "لا شك أن حمل هذا الإرث مسؤولية كبيرة، لكنني أعمل بثقة، بخطى مدروسة، وبحذر عميق وأبني هذا الصرح حجرًا حجرًا، ودائمًا بعين على الاحترام الكامل لتلك القامات التي سبقتني".
أما عن التحديات التي تواجهه في هذه المسؤولية، قال: "أكبر التحديات اليوم هي مسألة الحقوق الفكرية، فالعالم العربي، ولبنان بشكل خاص، لا يزال يعاني من غياب ثقافة احترام الملكية الفكرية، رغم أن أوروبا شهدت ثورة تشريعية أخيرًا بسبب تأثيرات السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي والتحدي الأكبر الآن هو كيف نحفظ هذا التراث الرحباني ونصونه، ونعيده إلى مكانته التي يستحقها".
مشروع فني كبير
وعن علاقته القوية والمستمرة مع الفنانة اللبنانية هبة طوجي على مدار سنوات طويلة، يقول: "لا شيء أجمل من أن يلتقي الإنسان بشخص يفهمه بعمق، يكون صدى لأفكاره، وروحًا تحمل رسالته، وتجسد موسيقاه، والفنانة هبة طوجي هي هذا الشخص بالنسبة لي، بكل ما تحمله من تميز واختلاف، في حضورها، في صوتها، في التزامها، وفي شغفها الدائم بتطوير الأفكار".
ويضيف: "أهم ما يميز الفنان الحقيقي هو قدرته على التضحية، لأن الفن يتطلب صمودًا أمام الإغراءات التي قد تُعرض عليه باسم الانتشار السريع أو الشهرة المؤقتة، وهبة اختارت الطريق الأصعب، أن تبقى وفية لما تؤمن به، دون أن تتنازل عن جوهرها. وهذا ما يجعلها، في نظري، مشروعًا فنيًا متكاملًا، لا مجرد مطربة".
وتابع:" لقد أحدثت هبة طوجي نقلة نوعية في طريقة استخدام الصوت، وقد تأثر بها العديد من المطربين، من المخضرمين والجدد على حد سواء. هي ليست فقط صوتًا جميلًا، بل حالة فنية راقية وخطواتها الفنية وصلت إلى العالمية، دون أن تفقد خصوصيتها ورقيها".
مفاجآت كثيرة
وحول مشروعاته الفنية المقبلة، يقول الرحباني: "نحن في صدد التحضير للعديد من الحفلات المقبلة، ولكن من أبرزها بلا شك مشاركتنا المنتظرة في مهرجان بعلبك، هذا المهرجان العريق الذي يُعد من أقدم وأهم التظاهرات الثقافية في الوطن العربي، وبهذه المناسبة، أعد أنا وهبة طوجي مفاجآت مميزة للجمهور، لأننا نحب دائماً أن نتحدى أنفسنا، ونتجاوز ما قدمناه سابقا، وسيكون لهذا الحفل رؤية فنية خاصة ومختلفة".
ويضيف: "ونستعد أيضًا لحفلات قادمة في الأردن ودبي، إلى جانب تحضير لحدث فني ضخم ومؤثر يتمحور حول الشاعر الكبير والمؤلف الموسيقي الراحل منصور الرحباني. ويعتمد على ديوان أسافر وحدي ملكا، والذي يضم 34 قصيدة كتبها عن بيروت، كما نحضّر حاليًا لألبومين جديدين للفنانة هبة طوجي، أحدهما باللغة الفرنسية، وهو مشروع يعكس البُعد العالمي الذي نسعى إلى ترسيخه في أعمالنا، دون أن نفقد الخصوصية والهوية التي ننتمي إليها".
متذوق للفنون
علاقة وطيدة تربط الموسيقار اللبناني بمصر وشعبها وفنها، وحول ذلك يقول: "العلاقة بين الشعوب العربية عميقة ومتداخلة، والإنسان العربي يتشرب الوجدان المشترك عبر السينما، أو التلفزيون، أو الأغاني، واللهجة المصرية كانت دائمًا قريبة من القلب، منتشرة في كل بيت، ومحاطة بثقافة محببة".
ويضيف: "الشعبان اللبناني والمصري يتشاركان صفات كثيرة، من الطيبة وخفة الظل إلى الغنى الثقافي والتاريخي، وهذا القرب الإنساني يظهر في الفن، في العلاقات، وحتى في الحياة اليومية، وأعتز للغاية بمصر، بحضارتها العريقة، بتاريخها الممتد من الفراعنة إلى الأهرامات، وبالشعب المصري الذي يحمل في داخله عمقًا إنسانيًا وثقافيًا".
ويختتم حديثه قائلًا: "الشعب المصري متذوّق للفن، ولديه قدرة هائلة على استيعاب مختلف الأشكال الفنية، ولهذا نرى في مصر تطوراً دائما ومواهب متجددة، وأنا أؤمن بالانفتاح، وبضرورة تجديد الأفكار، ويسعدني كثيرًا أن هناك جمهورًا واسعًا في مصر يتابع أعمالي ويحب الأغاني التي أقدمها مع هبة طوجي، وأتمنى أن تستمر هذه العلاقة وتتعمق أكثر في المستقبل".