الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

تصدع النظام الدولي.. العالم يدخل عصر "المعارك الصامتة"

  • مشاركة :
post-title
العالم يدخل حروب ما وراء الشاشات

القاهرة الإخبارية - عبدالله علي عسكر

باتت شركات التكنولوجيا والطاقة والمؤسسات اللوجستية والمصارف تقف في قلب معركة لم تُعلن، ومع ذلك لا تتوقف، في صراع خفي، لكنه ضارٍ، تتشابك فيه المصالح الجيوسياسية والهجمات السيبرانية، ليجد الرؤساء التنفيذيون أنفسهم في موضع القادة العسكريين، تتربص بهم قوى معادية، ليس فقط لتقويض أنظمتهم، بل لإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي ذاته.

زمنٌ جديد، تُستخدم فيه شركات التكنولوجيا بيادق على رقعة صراع بين الأمم، دون أن يُطلب منها الإذن أو تُمنح خيار الانسحاب.

تهديدات لم تعد محلية

يعكس المشهد الأمني العالمي المعاصر واقعًا جديدًا، تماهت فيه الحدود بين الحروب التقليدية والهجمات السيبرانية، وبين الكوارث الطبيعية والهجمات المدبرة، لم تعد الحوادث معزولة أو محصورة بجغرافيا محددة، بل أصبح كل اضطراب، مهما صَغُرَ، كفيلًا بإحداث أثر متسلسل عبر القارات.

تفشي الأمراض في الصين أو الهجمات الإسرائيلية، وحتى التحولات السياسية في واشنطن، أصبحت كلها قادرة على زلزلة أسواق المال وهياكل سلاسل الإمداد.

صحيفة Fair Observer الأمريكية تنقل هذا الواقع في تقرير، أشارت خلاله إلى أن هذه "السلسلة من الأزمات المترابطة" نتجت عن تصدع النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عام 1945، والذي بات عاجزًا اليوم عن احتواء التحولات العنيفة في ميزان القوى الدولية.

من الاستعمار للفدية الرقمية

لطالما استُخدمت الشركات كأدوات للقوة الناعمة والصلبة، منذ احتكارات التجارة في الحقبة الاستعمارية إلى القيود التكنولوجية في الحرب الباردة، كانت المؤسسات الاقتصادية جزءًا من لعبة الأمم، لكن المعادلة اليوم أشد خطورة وتعقيدًا، فالهجمات لم تعد تقليدية ولا مقتصرة على الوسائل الاقتصادية، بل تشمل الحرق والتخريب والاغتيالات والقرصنة وهجمات الفدية.

وتورد الصحيفة، استنادًا إلى "تقييم التهديدات العالمية لعام 2025" الذي أعدته منظمة Global Guardian، أن دولًا معادية تستهدف القطاع الخاص بأساليب لا تخضع لقواعد الحرب التقليدية والسبب أن الشركات باتت تمثل اليوم العمود الفقري للقوة الاستراتيجية لأي دولة، فهي تشغل البنية التحتية، وتعالج الموارد، وتقود التطور في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الدقيقة مثل أشباه الموصلات.

في ظل تجاوز العالم لمرحلة النيوليبرالية وتفاقم الديون، لم تعد الكفاءة هي الفيصل، بل القوة الاقتصادية والمناورة المالية، وهكذا أصبحت استهدافات القطاع الخاص أدوات استراتيجية لتقويض قدرات الدول المنافسة.

محور الفوضى

بحسب Fair Observer، فإن روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية - التي وصفتهم بمحور الفوضى صعّدوا هجماتهم غير التقليدية ضد الشركات الغربية منذ الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، إذ لم تعد الهجمات تقتصر على القرصنة، بل امتدت إلى تخريب خطوط الاتصالات، وإشعال حرائق في المصانع ووحوادث طيران غامضة، بل واغتيالات مستهدفة لمديرين تنفيذيين في صناعات دفاعية.

في عام 2024، كشفت الصحيفة أن روسيا حاولت اغتيال عدد من كبار التنفيذيين الأوروبيين في قطاع الدفاع، ما رفع منسوب القلق لدى الحكومات الغربية حول خطورة استهداف البنية القيادية للقطاع الخاص.

الأخطر من ذلك، كما يحذر التقرير، هو التواطؤ المتزامن بين أكثر من عضو في "محور الفوضى"، حيث تُنفذ هجمات متعددة في آنٍ واحد لتقويض الجهوزية الغربية.

وقد نبّه كريستوفر راي، المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، في شهادته أمام الكونجرس عام 2024، إلى وجود اختراقات صينية مستمرة للبنية التحتية الأمريكية، تُعدّ تمهيدًا لهجمات محتملة قد تتزامن مع غزو صيني لتايوان.

تآكل الردع

يشير تقرير Fair Observer إلى أن الخطر لم يعد نظريًا، بل يلوح في الأفق مع تصاعد التوتر حول البرنامج النووي الإيراني، وتزايد احتمالات تدخل صيني في تايوان، ووفق تقييم لجنة استراتيجية الدفاع الوطني في الكونجرس، فإن "التهديدات الحالية هي الأخطر منذ عام 1945"، مع احتمال نشوب حرب كبرى في المستقبل القريب.

في هذا السياق، تتحول الأسواق إلى ساحات معارك، وتصبح الشركات خطوطًا أمامية في حروب غير معلنة، وإن كانت الحكومات تُدرّب جيوشًا وتبني ترسانات، فإن على الشركات أن تُعدّ دفاعاتها السيبرانية، وأن تُحصّن بياناتها وتدرّب موظفيها على قراءة مؤشرات الهجمات كما لو أنهم جنود في جبهة إلكترونية.

تقول Fair Observer بوضوح، لم تعد الشركات الغربية أطرافًا محايدة، بل أصبحت بيادق رئيسية في لعبة صفرية لا تسمح بالانسحاب، وأصبح المطلوب منها الوعي ومراجعة بنيتها الأمنية دوريًا، من الأجهزة والبرمجيات إلى الاتصالات الداخلية ومواقع التنفيذيين، كما أن الكشف المبكر عن الثغرات يُمكّن من سدها قبل وقوع الكارثة، ويوصي التقرير بالاستعانة بطرف ثالث مستقل لتحليل المخاطر وتقييم القدرات الأمنية.

كما يبرز التقرير أهمية اتخاذ إجراءات فورية بعد اكتشاف نقاط الضعف، سواء عبر تحديث أدوات الحماية، أو فرض مصادقة متعددة العوامل، أو مراقبة المحتوى الرقمي لرصد التهديدات، كل ذلك يمكن أن يُجنّب المؤسسات الوقوع ضحية للهجمات المزدوجة أو الابتزاز السيبراني.

التدريب ضرورة وجودية

أحد أخطر التهديدات، وفق التقرير، يكمن في العنصر البشري، فالموظفون عن غير قصد قد يتحولون إلى بوابات للاختراق بسبب التسرع أو الجهل، ولهذا تُعدّ التدريبات الأمنية أمرًا لا غنى عنه.

ويوصي التقرير بإجراء تدريبات دورية تحاكي السيناريوهات الواقعية، تمامًا كما يُدرّب الناس على إخلاء المباني عند اندلاع الحريق، فكلما زادت الممارسة، تحسنت الاستجابة، وعلى المديرين التأكد من وعي جميع الموظفين بمؤشرات التهديدات، ومن تمكّنهم من الإبلاغ السريع عنها.

وفي ختام التقرير، تؤكد Fair Observer أن على القيادات العليا في الشركات تبنّي مبدأ "المرونة الاستراتيجية"، أي العمل المسبق على إعداد سيناريوهات بديلة لما قد يحدث، بدءًا من الهجمات السيبرانية واسعة النطاق، إلى تعطيل سلاسل التوريد، وحتى استهداف المديرين أنفسهم.

وتُعدّ المحاكاة الافتراضية والتمارين المكتبية أدوات فعالة لصناعة قرارات مستنيرة، تساعد الشركات في تخصيص الموارد، وتنويع الشركاء، وخلق خطط طوارئ واقعية تتناسب مع المناخ الجيوسياسي المتقلب باستمرار.

لم تعد الحروب اليوم تُخاض بالسيوف والمدافع وحدها، بل تُدار أيضًا من خلف شاشات الكمبيوتر، وفي تقارير السوق، ووسط اجتماعات المديرين، وبينما تُمارس الدول خصوماتها فوق رقعة الاقتصاد العالمي، تظل الشركات، الكبيرة والصغيرة، في مرمى النيران.