تنعكس السياسات الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية على سوق البورصات، فالهجوم الذي قام به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول والتهديد بإقالته، فضلًا عن الحرب التجارية التي يشهدها العالم، أحدثت صدمة كبيرة في السوق، إذ إنه من الأسواق شديدة الحساسية لأي تغيرات، وهو ما يجعلها متذبذبة بين الارتفاع والانخفاض، فتذهب التقديرات إلى أن خسائر الأسواق العالمية تبلغ 15 تريليون دولار مع بداية عام 2025.
ومن الجدير بالذكر أن ترامب تراجع عن إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي من منصبه، وهو ما أثر إيجابيًا على سوق الأسهم، بعد انخفاض السوق؛ بسبب تصريحاته السابقة التي وصف فيها "باول" بالخاسر الكبير، ومن ناحية أخرى صرّح ترامب بأن "الرسوم على الصين لن تصل إلى 145%".
تأسيسًا على ما سبق؛ يناقش هذا التحليل وضع البورصات العالمية، ومستقبل الأسواق المالية في ظل الأوضاع العالمية الحالية.
دلائل مهمة
يُمكن التعرف على وضع سوق البورصات العالمية، خلال هذه الفترة من خلال النقاط التالية:
(-) الأسهم الأمريكية: تُعتبر أسواق المال الأمريكية من أهم الأسواق العالمية، ويُعد كل من مؤشر داو جونز الصناعي ومؤشر S&P 500 ومؤشر ناسداك المركب من أهم المؤشرات المالية في هذه الأسواق، فحركة هذه المؤشرات تعكس قوة السوق المالية الأمريكية بشكل كبير.
ومن هنا يُمكن قياس تحركاتها في ظل انتقادات ترامب لرئيس الاحتياطي الفيدرالي ولهجته المتشددة في السياسة التجارية، وتحركاتها بعد التراجع عن هذه الأمور، فمن شكل (1) يتضح أن مؤشر داو جونز سجل قيمة مرتفعة في 13 فبراير 2025 بلغت 44.71 ألفًا، لكن تأثير قرارات ترامب التجارية عملت على انخفاض قيمتها إلى 42.58 ألفًا، 24 مارس الماضي، كما استمر في الانخفاض مع التهديدات بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي إلى 38.17 ألفًا، 21 أبريل، إذ انخفض هذا المؤشر بأكثر من 970 نقطة، أي بنسبة 2.47%، ولكن مع تراجع ترامب عن هذه القرارات، انتعش مؤشر داو جونز، 23 أبريل الجاري، إذ سجل 39.60 ألفًا.
وإضافة إلى ذلك ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 1.7%، 23 أبريل الجاري، بعد أن سجل انخفاضًا كبيرًا، 21 أبريل، بنسبة 8.98% مقارنة بـ21 مارس الماضي، فضلًا عن ذلك ارتفع مؤشر ناسداك المركب بنسبة 2.5%، بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها، 21 أبريل الجاري، إذ انخفض بنسبة 2.36%، وانخفض كل من مؤشر ستاندرد آند بورز 500 وناسداك بأكثر من 4%.
وبشكل عام يُمكن القول إن الأسهم الأمريكية سجلت أسوأ أداء لها في أول 3 أشهر من بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بمعنى أنه لو تم استثمار 10 آلاف دولار بداية العام في مؤشر ستاندرد آند بورز، ستبلغ الخسائر اليومية نحو 1000 دولار.
(-) سوق الأسهم الآسيوية: تباينت تداولات الأسهم الآسيوية، نهاية الأسبوع الثالث في أبريل، بسبب حالة عدم اليقين المنتشرة في السوق، إذ وصف "تان جينج يي" من إدارة الخزانة الأمريكية لآسيا وأوقيانوسيا في بنك ميزوهو، تصريحات ترامب بـ"الاضطرابات الرئيسية"، وهو الأمر الذي يوضح مدى تأثيرها على معنويات السوق.
وفي اليابان اصطدم سوق الأسهم بقرارات ترامب التجارية، إذ شهدت البورصة اليابانية موجات بيع واسعة النطاق، في ظل تقييم المتداولين مخاوف بشأن تباطؤ اقتصادي محتمل، في ظل تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فقد انخفض مؤشر نيكي بنسبة 4%، 9 أبريل 2025، كما انخفض مؤشر توبكس الأوسع نطاقًا "TOPX" بنسبة 3.4%.
ووفقًا لشكل (2) يتضح أن المؤشر انخفض عن مستواه، 21 مارس الماضي، الذي سجل فيه 37.68 ألفًا، إذ نخفض إلى 31.14 ألفًا، 7 أبريل الجاري، لكنه بدأ في التعافي حتى سجل 35.29 ألفًا، 23 أبريل 2025، والخميس 24 أبريل، ارتفع المؤشر بنسبة 0.9%، كما ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز/إيه إس إكس 200 الأسترالي بنسبة 0.6%، وارتفع مؤشر شنجهاي المركب بنسبة 0.4%، وعلى النقيض خسر مؤشر كوسبي الكوري الجنوبي 0.5%، وانخفض مؤشر هانج سنج في هونج كونج بنسبة 0.3%.
(-) سوق الأسهم الأوروبية: تواجه الأسواق الأوروبية حالة من التباين في أدائها، فقد انتعشت الأسواق، 23 أبريل 2025، مع استعادة المستثمرين شهيتهم للمخاطرة؛ بسبب إبداء ترامب تراجعًا عن الحرب التجارية الشرسة مع الصين، إذ ارتفع مؤشر ستوكس 600 الإقليمي بنسبة 1.78%، وتصدرت أسهم التكنولوجيا السوق الأوروبية بارتفاعها بنسبة 3.96%.
ولكن سرعان ما انخفضت مؤشرات السوق في اليوم التالي، إذ انخفض مؤشر ستوكس 600 الأوروبي بنسبة 0.5%، كما انخفض مؤشر داكس الألماني ومؤشر كاك 40 الفرنسي بنسبة 0.7%، وهو الأمر الذي يوضح استمرار عدم وضوح الرؤية للمستثمرين.
نظرة مستقبلية
يُمكن توضيح مسار الأسواق المالية في المستقبل القريب من خلال الآتي:
(*) تخارُج المستثمرين من السوق الأمريكية: ترتفع درجة عدم اليقين في السوق الأمريكية بشكل كبير، خاصة مع التراجع الذي يشهده الدولار، ومع احتمالات الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية، يُمكن القول إن المستثمرين سيرغبون في الخروج من السوق الأمريكية وسوق السندات الأمريكية، فبالفعل باع المستثمرون الأجانب 6.5 مليار دولار من الأسهم الأمريكية في أسبوع واحد فقط من أبريل الجاري، كما أوضح "بنك أوف أمريكا" أن المستثمرين سحبوا 21.3 مليار دولار من صناديق الأسهم النشطة و15.9 مليار دولار من صناديق السندات المرتفعة.
وفي السياق ذاته؛ سيؤثر قرار الفيدرالي في اجتماعه المُقبل 7 مايو 2025، على سوق الأسهم الأمريكية، فإذا اتخذ قرار تثبيت سعر الفائدة وهو القرار المُحتمل بدرجة كبيرة، سيُصاب سوق الأسهم الأمريكية بالإحباط، لكن إذا خفض سعر الفائدة سينتعش سوق الأسهم الأمريكية.
(*) تذبذبات مستمرة: من المتوقع أن تشهد البورصات العالمية موجات ارتفاع وانخفاض مستمرة على المدى القريب، على أن تكون موجات الانخفاض هي الأقرب في ظل ارتفاع درجة عدم اليقين بالاقتصاد العالمي، فسوق البورصات ما زالت تشهد حالة من عدم الاستقرار، بسبب النظرة المستقبلية الضبابية.
(*) توزيع كبير في استثمارات الأسهم: سيترتب على احتمالات تحول المستثمرين نسبيًا من السوق الأمريكية إلى الأسواق الأخرى، أن سوق البورصات العالمية ستشهد تنوعًا في المحافظ الاستثمارية بدول مختلفة، بشكل يستبعد تركزها في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يُمكن توضيحه من استراتيجية بنك "سوسيتيه جنرال" الذي ينوي زيادة الاستثمار في الأسهم الأمريكية، لكن بنسبة طفيفة لتصبح 30%، مع تجنب الأسهم الأمريكية عند عوائد أقل من 3%، لحماية توزيع استثمارات الأسهم من الحرب التجارية.
وأوضح البنك أنه ينوي توزيع استثماراته في مناطق مختلفة، بأن تنخفض في أوروبا بمقدار 3 نقاط مئوية، وفي الصين بمقدار نقطتين مئويتين، على أن ترتفع في اليابان بنقطتين مئويتين والمملكة المتحدة بمقدار 3 نقاط مئوية، وهو الأمر الذي يوضح أن المستثمرين يتجهون إلى تقليل الوزن النسبي للمخاطر، بشكل يعمل على زيادة أرباحهم.
ختامًا؛ يُمكن القول إن أسواق البورصات تتجه عكسيًا مع ازدياد حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي يدل على أن هذه الأسواق ستشهد استمرار حالة من عدم الاستقرار على المدى القصير، وهو الأمر الذي سيؤثر على الاقتصاديات المختلفة، فأسواق المال هي بوابة الاستثمارات للدول، ومن هنا يتضح أهمية سعي الدول الكبرى على تحقيق الاستقرار العالمي، ونشر حالة من اليقين المستقبلي حول مؤشراته الاقتصادية حتى تنتعش أسواق المال.