جاءت جولة الرئيس الصيني شي جين بينج في ثلاث دول بجنوب شرق آسيا هي: فيتنام وماليزيا وكمبوديا، في الفترة من 14- 18 أبريل 2025، لتعكس الرغبة الصينية في تعزيز علاقاتها الإقليمية أو ما وصفه "شي" بـ"العائلة الآسيوية" التي يعتقد بأنها قادرة على تعزيز شراكاتها الاقتصادية للحد من تأثيرات الحرب التجارية التي يوظفها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف صعود الاقتصاد الصيني بفرضه رسوم تجارية على الواردات الأمريكية من الصين وصلت إلى 145% اعتبرتها الصين تقويضًا لركائز النظام الاقتصادي القائم.
تنافس ممتد
جولة "شي" الآسيوية وبقدر ما سعت لتعميق الروابط الاقتصادية مع الدول الثلاث، بقدر ما عكست أبعاد التنافس الأمريكي الصيني ما بين قوة صاعدة اقتصاديًا تسعى لتحويله من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب من خلال دعم شراكاتها الاقتصادية الإقليمية فيما يعرف بـ"مجتمع المصير المشترك"، وأخرى تكافح من أجل استمرار هيمنتها على النظام الاقتصادي الدولي، وهو ما عكسته المؤشرات التالية:
(*) تعزيز الشراكات الاقتصادية الإقليمية: جاءت فيتنام المحطة الأولى لجولة الرئيس الصيني الآسيوية يومى 14، و15 أبريل 2025، حيث تعد هانوي أكبر شريك تجاري لبكين ضمن رابطة دول جنوب شرق آسيا، كما حافظت الصين على مكانة أكبر شريك تجاري لفيتنام لأكثر من 20 عامًا متتالية. وقد شهد الرئيس "شي" خلال الزيارة مراسم إطلاق آلية التعاون في مجال السكك الحديدية بين البلدين، كما تم توقيع 45 اتفاقية ومذكرة تعاون في مجالات التجارة والإنتاج وسلاسل التوريد. وفي الوقت الذي تمتلك فيه فيتنام علاقات بنّاءة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها تشاركها المخاوف من تمدد الصين في بحر الصين الجنوبي، وتعتبر أنشطة الصين في تلك المنطقة تهديدًا للاستقرار الإقليمي في جنوب شرق آسيا.
(*) التضامن الآسيوي: دعا الرئيس الصيني شي جين بينج خلال جولته الآسيوية دول المنطقة للوقوف ضد سياسات فرض النفوذ، ومواجهة التكتلات عارضًا الشراكة مع بلاده كبديل أفضل، وهو ما جعله يدعو للتضامن ما بين أعضاء "الأسرة الآسيوية"، وقد تجلى ذلك في خطابه خلال زيارة ماليزيا في 17 أبريل 2025 قائلًا: "ستقف الصين وماليزيا إلى جانب دول المنطقة لمواجهة التيارات الخفية للمواجهة الجيوسياسية ولسياسة التكتلات، معًا سنحمي الآفاق المشرقة لأسرتنا الآسيوية والتغلب على النزعات الأحادية وسياسات الحمائية، والدفاع عن الآفاق الواعدة للتنمية في وطننا الآسيوي المشترك"، لذلك تسعى بكين إلى خلق نظام آسيوي أقل اعتمادًا على الولايات المتحدة الأمريكية لا سيما في إطار تعزيز علاقاتها برابطة دول جنوب شرق آسيا.
وقد وافقت الصين وماليزيا على تعزيز التعاون في مجالات الصناعة، وسلاسل الإمداد، والبيانات والموارد البشرية، كما التزمت الدولتان بتنفيذ برنامج التعاون الاقتصادي والتجاري الخماسي، والعمل على بناء مجتمع ماليزي - صيني استراتيجي رفيع المستوى.
(*) رفض الهيمنة الأمريكية: طالب الرئيس الصيني شي جين بينج من دول المنطقة الوقوف ضد الهيمنة الأمريكية، حيث دعا "شي" في مقال نشرته وسائل إعلام كمبودية في إطار زيارته إلى بنوم بنه 18 أبريل 2025 إلى الوقوف ضد الهيمنة، وفرض النفوذ من أجل الدفاع عن المصالح المشتركة للبلدين والدول النامية الأخرى، وحض الرئيس الصيني كمبوديا على مقاومة سياسات الحمائية التجارية بشكل مشترك، والحفاظ على بيئة دولية منفتحة وتعاونية.
(*) مواجهة الحرب التجارية الأمريكية: سعى الرئيس الصيني شي جين بينج خلال جولته الآسيوية لإظهار الصين كشريك اقتصادي موثوق، ورافض للسياسات الحمائية التجارية التى يفرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فالدول الثلاث تعرضت لفرض رسوم جمركية أمريكية، 49% على كمبوديا، و46% على فيتنام، و24% على ماليزيا، لذلك دعا "شى" إلى دعم النظام الدولي المرتكز على الأمم المتحدة والتجارة وسيادة القانون، وذلك لتعزيز حوكمة عالمية أكثر عدلًا ومساواة.
مساران محتملان
على خلفية محاولات الصين مواجهة الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، انطلاقًا من تدعيم علاقات الصين في إطار ما وصفه شي بـ"الأسرة الأسيوية" وتضامنها، فإن ثمة مسارين محتملين للعلاقات الأمريكية الصينية:
(&) المسار الصراعي ما بين أكبر اقتصادين عالميين: وهو التوجه الذي بدأته الولايات المتحدة باستراتيجية التوجه شرقًا لمحاصرة الصعود الصيني في آسيا، وذلك من خلال تشكيل تحالفات في منطقة الإندوباسيفيك وفي مقدمتها تحالف "كواد" الأمني الرباعي الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، واليابان والهند والذي أنشئ عام 2007 وأعيد تفعيله عام 2021 لاحتواء الصين والوقوف أمام صعودها العسكري والاقتصادي. كما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فى منتصف سبتمبر 2021 عن تحالف أوكوس يضم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية كل من أستراليا وبريطانيا ويهدف التحالف إلى إمداد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية في محاولة لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي.
كما شكّلت حرب الرقائق بين أمريكا والصين مؤشرًا على ذلك النهج، حيث نجحت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في التوصل لاتفاق مع هولندا واليابان، في 27 يناير 2023 يهدف إلى تقييد تصدير بعض آلات إنتاج الرقائق الإلكترونية المتقدمة للصين لتنضم الدولتان لمساعي واشنطن الرامية لتقويض الصين تكنولوجيًا، ومن ثم إبطاء تطورها العسكري والتقني المرتبط بالذكاء الاصطناعي.
ثم جاءت التعريفات الجمركية، حيث كتب الرئيس الأمريكي ترامب على حسابه في منصة تروث سوشيال "أنه نظرًا إلى نقص الاحترام الذي أظهرته الصين تجاه أسواق العالم، أعلن رفع التعريفة الجمركية المفروضة على الصين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بصورة متوالية إلى 125%، مضيفًا أن هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ فورًا"، قبل أن يرفعها لاحقًا إلى 145%. وفي المقابل تعهدت الصين بالقتال حتى النهاية في الحرب التجارية وردت على رفع رسومها الجمركية على الواردات الأمريكية، وأصدرت تحذيرًا للسياح من مخاطر السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما أعلنت عن فرض قيود على عمليات استيراد أفلام هوليوود، لاسيما وأن الصين تعد ثاني أكبر سوق سينمائي في العالم.
(&) المسار التعاوني: يقوم هذا السيناريو وهو الأضعف على فرضية أن استمرار الصراع ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين سيؤدي من الناحية الاقتصادية إلى حالة من الركود العالمي سيكون له تأثيره على كافة الاقتصادات بما فيها الاقتصادين الأمريكي والصيني، في ظل حالة التشبيك والتداخل ما بينهما، لذلك فإن إعلاء مبدأ التعاون التنافسي، وصعوبة فك الارتباط بين الاقتصادات الكبرى ربما يؤدي وفق بعض الخبراء إلى تراجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض الرسوم الجمركية الحمائية أو تخفيضها.
مجمل القول؛ تشكّل جولة الرئيس الصيني الآسيوية في أحد جوانبها انعكاسًا للتنافس الأمريكي الصيني في ظل الحرب التجارية بفرض رسوم جمركية متبادلة بين الدولتين، ومحاولة بكين تعزيز شراكاتها الاقتصادية في إطار التضامن الآسيوى الذي يشكل أحد مرتكزات القوة الصينية، التي تسعى الولايات المتحدة للحد من صعودها، والحفاظ على هيمنتها الاقتصادية على النظام الدولي.