أثارت العودة القوية لعملاق التكنولوجيا الصيني هواوي، سبتمبر العام الماضي، واتجاه أنظار المستثمرين والساسة لشركات التكنولوجيا، التي تتربع على قائمة أعلى القيم السوقية، المخاوف من تصاعد موجة جديدة من الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين على المسرح الدولي، مع اتجاه واشنطن لتقييد وصول بكين لعدد من التقنيات الناشئة، التي تمثل مركز الصراع العالمي بين الجانبين على قمة هرم النظام العالمي، خلال الفترة المقبلة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.
وفي مواجهة الاختراقات المهمة التي أعلنت عنها هواوي، سبتمبر، بالتعاون مع مصنع الرقائق الوطني "SMIC"، دخلت المنافسة الأمريكية الصينية في مجال التكنولوجيا مرحلة جديدة مع إعلان "إنفيديا" التي بلغت قيمتها السوقية 3.3 تريليون دولار، أن هواوي هي المنافس الرئيسي للشركة الأمريكية في مجال تطوير رقاقات الذكاء الاصطناعي. وفي ذات السياق تسعى وزارة التجارة الأمريكية بالتعاون مع اليابان وهولندا لتقييد وصول المطورين من الصين لمنتجات ومعدات إنتاج الرقائق المتطورة وكذلك تقييد وصول العديد من المناطق والبلدان، التي توصف بأنها بوابات خلفية لتطوير التكنولوجيا الصينية وسرقة الأسرار العلمية، وصولًا لتقييد التعاون بين مؤسسات البحث والتطوير داخل البلدين في تلك المجالات الحرجة وعلى رأسها الرقائق الإلكترونية، خاصة في قائمة الكيانات والتي تعتقد واشنطن أنها على صلة بتطوير أسلحة لجيش التحرير الشعبي الصيني بفروعه.
وتأسيسًا على ما تقدم؛ يتناول التحليل التالي حدود توظيف التكنولوجيا في التنافس بين الولايات المتحدة والصين، وانعكاسات ذلك على الاستقرار الاستراتيجي.
قيود متزايدة
مثل إعلان هاتف هواوي ميت 60 برقاقة "Kirin 9000s" بدقة 7 نانوميتر، بالتعاون مع عملاق صناعة الرقائق الصيني "SMIC" في سبتمبر 2023 اختراقًا صينيًا مهمًا لقيود وضوابط التصدير التكنولوجية الأمريكية إلى الصين، ما أزاح الستار عن المزيد من القيود الأمريكية ومحاولة سد ثغرات التصدير المحتملة لتقليص قدرات بكين على تحقيق اختراقات في مجالات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وصناعة الرقائق الإلكترونية، التي تدعم تحول الصين إلى قوة ابتكار عالمية رائدة والتغلب على القوى الغربية في تلك المجالات بحلول 2030، إلا أن الكشف عن مجموعة هواتف بورا الجديدة، أبريل 2024، بمعالج كيرين 9010 بدقة 7 نانومتر عزز من مخاوف واشنطن بشأن قدرات قطاع التكنولوجيا الصيني في التغلب على تلك القيود، وتمثلت المواجهة التكنولوجية الأمريكية الصينية في التالي:
(*) ملاحقة قطاع التكنولوجيا الصينية: منذ 2015، تواصلت الضربات والقيود الأمريكية على قطاع التكنولوجيا الصينية الذي تتهمه واشنطن بتسريب أسرار التكنولوجيا الأمريكية، في إطار الاستخدام المزدوج للتكنولوجيا والاستفادة منها في تطوير أسلحة والتواؤم مع أهداف جيش التحرير الشعبي الصيني، منها بناء جيش ذكي عبر دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية وتطوير التقنيات الناشئة والمدمرة وتعزيز قدرات المنظومات التسليحية على مختلف الأفرع، خاصة تلك التي تواجه فيها بعض التحديات للتغلب على الجيش الأمريكي وعلى رأسها صناعة الطيران السفن الحربية، حسب تقرير قوة الصين العسكرية 2023 الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية.
ومع احتدام التنافس الاستراتيجي الصيني الأمريكي تتزايد القيود على شركات التكنولوجيا الصينية، من خلال التحديثات الدائمة لقائمة الكيانات، التي تضم نحو 5 شركات لصناعة الرقائق، آخرها ما كشفته رويترز، 19 يونيو 2024، أن الولايات المتحدة تتطلع للتعاون مع حلفائها في إضافة نحو 11 كيانًا صينيًا آخر في مجال الرقائق لحظر التصدير، في إطار زيارة لنائب وزير التجارة لشؤون الأمن والصناعة آلان ستيفيز إلى هولندا واليابان.
(*) تقييد الوصول للتكنولوجيا المتطورة: تفرض الولايات المتحدة قيودًا على تصدير رقائق انفيديا الأكثر تطورًا "A 100, H 100, B 200" إلى السوق الصينية، بينما عززت القيود على تصدير معدات إنتاج الرقائق إلى الصين باتفاق ثلاثي مع هولندا واليابان منذ يناير 2023، إلا أن الكشف عن رقاقة "SMIC" قاد للعديد من التكهنات بشأن قدرة الصين على تطوير صناعة الرقائق الدقيقة دون التحايل على القيود الأمريكية، وفي أحد المسارات المطروحة هو الوصول لأسرار معدات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية لشركة "ASML" الهولندية، التي كشفت في 2023 عن تعرضها لسرقة أسرار صناعية من بيانات النظام البرمجي لوحدتها في الصين على يد أحد موظفي الشركة.
ومن المرجح كذلك أن الشركات الصينية استعانت بمكونات أجنبية في المعالجات الجديدة خاصة من كوريا الجنوبية، إذ كشفت "رويترز"، 25 مايو 2024، أن شركة "أبلايد ماتريالز Applied Materials" الأمريكية تتعرض لمساءلة من وزارة التجارة الأمريكية بشأن انتهاك قيود على تصدير معدات إنتاج الرقائق الإلكترونية إلى الصين عبر كوريا الجنوبية.
كما ألغت واشنطن، مايو 2024، تراخيص تصدير رقائق إلكترونية من شركتي كوالكوم وإنتل لصالح شركة هواوي الصينية، بحسب وكالة بلومبيرج الأمريكية.
(*) معاقبة المطورين الصينيين: تستهدف الولايات المتحدة حرمان قطاع التكنولوجيا الصيني من الوسائل التي تمكنه من تطوير قدراته في مجال الذكاء الاصطناعي، عبر حرمان المطورين الصينيين في البر الرئيسي من الوصول لواجهات تطوير التطبيقات، إذ أعلنت مؤخرًا شركة "أوبن إيه آي OpenAI" أنها ستمنع بحلول 9 يوليو الجاري، أي شخص من البر الرئيسي وكونج كونج وماكاو وغيرها من المناطق من الدخول على أداتها لتطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي "GAI".
(*) وقف تصدير معادن رئيسية: في مواجهة القيود الأمريكية استخدمت الصين أحد أهم أدواتها في مجالات صناعة الرقائق والبطاريات الكهربائية، إذ فرضت أكتوبر الماضي، قيودًا على تصدير معدن الجرافيت المستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية وبطاريات أيون الليثيوم للهواتف المحمولة، بعد أشهر من قيود مماثلة على صادرات معدني الجاليوم والجيرمانيوم المستخدمين في صناعة الرقائق.
(*) البحث والتطوير: تظل أنشطة البحث والتطوير في مجالات الحوسبة والذكاء الاصطناعي أحد أبرز أوجه التنافس على السيادة التكنولوجية العالمي، وفيما تسعى الولايات المتحدة لتعزيز قبضتها على مجال صناعة الرقائق المتطورة وجذب الشركات العالمية للسوق الأمريكية في إطار تسهيلات قانون الرقائق والعلوم، تتطلع في الوقت ذاته لكبح جماح التقدم الصيني في هذا المجال بمؤسساتها الخاصة والتابعة للدولة وكذلك المؤسسات البحثية الأكاديمية، وفي يناير 2024 كشف معهد جورجيا للتكنولوجيا عن أول نموذج قابل للتشغيل من أشباه الموصلات بمواد فائقة الدقة (نانوية) من الجرافين، بالتعاون مع معهد شينزين بجامعة تيانجن شمال شرقي الصين، وأشار الفريق العلمي إلى أن الرقاقة الجديدة تحدث طفرة في مجال صناعة الإلكترونيات والحوسبة السحابية بقدرة أسرع بنحو 10 مرات من رقائق السيليكون.
ورغم أهمية المشروع وقابلية تطبيقه، إلا أن خضوع المؤسسة الصينية لقيود تصدير أمريكية 2020 لصلاتها المزعومة بجيش التحرير الشعبي الصيني دفع لفتح تحقيق برلماني أمريكي، خاصة وأن وزارة الدفاع الأمريكية تمثل عميلًا وممولًا رئيسيًا لمعهد أبحاث جورجيا للتكنولوجيا، ما يحد من قدرات التعاون البحثي بين الجانبين في إطار التنافس الاستراتيجي.
انعكاسات محتملة
مع القيود الأمريكية التي تهدف للحد من قدرة الصين على تحقيق الاعتماد على الذات في مجالات العلوم والتكنولوجيا، آخرها تدشين صندوق استثماري بقيمة 47.5 مليار دولار، مايو الماضي، في صناعة الرقائق، إلى جانب القيود المضادة التي تفرضها بكين على صادراتها مع العناصر والمعادن الضرورية في مجالات اقتصاد المستقبل، تفرض مزيجًا من التداعيات الممتدة للأسوق الحالية من جهة ولتشكيل النظام العالمي في طوره المقبل على النحو التالي:
(&) فك الارتباط: تمثل موجة الصراع التكنولوجي الحالي مرحلة فارقة في العلاقات الغربية الصينية، إذ تتمثل مساعي واشنطن في تعظيم نفوذها على مجال تصميم وصناعة الرقائق الإلكترونية والسيطرة على سلاسل توريدها للسوق الأمريكية، فضلًا عن مد شبكة أمان لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا لتوسيع الحظر على الجانبين الصيني والروسي في الوصول للتقنيات المتطورة بما يشمل كوريا الجنوبية وألمانيا وتتبع ما تعتبره بوابات خلفية تحصل من خلالها بكين على ما تحتاجه تطوير قدراته.
وفي المقابل يعترف الجانب الصيني بتأخره عن المستوى الدولي في مجال صناعة الرقائق سواء رقاقات الذاكرة "Memory Chips" التي تستحوذ الصين على ما يتراوح بين 30 إلى 35% من إجمالي الاستهلاك العالمي منها ويحتاج على الأقل لأربع سنوات، أو في الرقاقات المنطقية "Logic Chips"، حسب مداخلة صن نينجوي، مدير المركز الوطني لأبحاث وتطوير الحوسبة الذكية أمام اللجنة الدائمة للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني، 20 مايو الماضي، ويتضمن قصور قطاع التكنولوجيا الصيني في الاستثمار غير الكفء وغير الكافي على أنشطة البحث والتطوير ونقص الكوادر البشرية المؤهلة لتحقيق الأهداف الوطني في الاعتماد على الذات، معتبرًا أن انفيديا الأمريكية وحدها تمتلك 20 ألف مطور وهو ما يمثل 20 ضعف ما تمتلكه كل شركات صناعة الرقائق الصينية، فضلًا عن ضعف أدوات تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من ذلك فإن مواصلة الصين اعتمادها على الذات عبر تعزيز الإنفاق والاستثمار في مجالات البحث والتطوير، واستمرارها في الوقت ذاته باكتساب الأسرار العلمية والتكنولوجية عبر أنشطة التجسس حسب اتهامات الجيش الأمريكي، إلى جانب امتلاكها قدرات تصنيعية فائضة في العديد من المجالات وعلى رأسها السيارات الكهربائية يدفع لحرب تجارية تكنولوجية أكثر عمقًا، ما يدفع إلى محاولات كلا الجانبين لخلق استقطابات دولية أعمق على صعيد التجارة الاستثمار، وهو ما تشهده بصورة أكبر القارة الأوروبية في ظل التوجه لزيادة الرسوم على صادرات السيارات الكهربائية الصينية.
(&) حروب تجارية: ما يدعم ذلك التوجه أن الصين تمتلك قدرات لشن حرب تجارية واسعة بالاعتماد على ما تملكه من استراتيجيات واستنادًا لقاعدة صناعية متنامية وذات طاقة إنتاجية فائضة في مجالات الطاقة الخضراء والمركبات الكهربائية إلى جانب الدعم الحكومي السخي وهو ما يثير المخاوف من الميزة التنافسية للمنتجات التكنولوجية الصينية بخنق المنافسين الدوليين داخل السوق الصينية وفي الأسواق الدولية.
وتمثل الحرب التجارية المفترضة خطوة نحو تعايش قطاع التكنولوجيا الصيني مع العقوبات والقيود، إلا أن إطباق الحصار على هذا القطاع يظل محط تساؤل في ظل عدم رغبة العديد من القوى الآسيوية لفتح جبهة عداء مع بكين، ليس فقط على صعيد الحكومات، ولكن كذلك على صعيد الشركات التي تتطلع للحفاظ على حصصها السوقية وتسعى لتجنب حرب أسعار مع نظرائها الصينيين على غرار الصراع بين هواوي وإنفيديا، خاصة أن السوق الصينية تمثل نحو 17% من إيرادات الأخيرة في 2024.
وإجمالًا؛ يمثل مشهد التنافس التكنولوجي أبرز كوابح التعاون بين الصين والولايات المتحدة في قضايا الاستقرار الاستراتيجي على الساحة الدولية، نظرًا لوقوع تايوان في قلب ذلك الصراع بامتلاكها أهم شركة لصناعة الرقائق الإلكترونية المتطورة، ويظل مصير جزيرة تايوان مرهونًا إلى حد كبير بنتائج الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، إذ قد يؤخر ذلك الصراع إنجاز أهم أهداف القيادة الصينية وجيش التحرير الشعبي الصيني في 2027 وهو موعد غزو تايوان، حسب التقديرات الأمريكية ويمثل الذكرى المئوية لتأسيس الجيش وتهدف فيه بكين إلى أن يتحول بشكل كامل لجيش ذكي قادر على إدماج الذكاء الاصطناعي في عملياته العسكرية وتعزيز تكامل قاعدة التصنيع الدفاعي الوطني في الأفرع والأسلحة، التي لا تزال غير قادرة على التغلب على الجيش الأمريكي في مواجهة مفترضة حول جزيرة تايوان خاصة القطع البحرية والطيران الحربي.
ويظل حاضرًا في هذا المشهد التغيرات الجيوسياسية بآسيا والتحولات الجارية في السياسة الأوروبية، التي قد تتمخض عن خروقات في جدار القيود الأمريكية خاصة في حالة تغيير حكومات أقصى اليمين سياساتها في التعامل مع روسيا والصين أو في المقابل انضمام الدول والشركات المؤثرة في صناعة أو تصميم الرقائق إلى القيود الأمريكية، التي قد تنتقل في حالة تغير الوضع الراهن حول المضيق أو تغير نهج الإدارة الأمريكية بانتخاب ترامب من القيود التعطيلية إلى الإجراءات المدمرة وهو ما لن يتحقق إذا التزمت الصين نهج الصعود السلمي وخففت من تحفظات ومخاوف شراكائها الأوروبيين والآسيويين، خاصة ألمانيا وكوريا الجنوبية اللتان تسهمان بشكل رئيسي في صناعة الرقائق.
وتطرح البيئة الجيوسياسية والاقتصادية الجديدة التي يخليها الصراع على التقنيات الناشئة تعزيز فرص العديد من القوى المتوسطة في مساعي استقطاب الاستثمارات التكنولوجية من مختلف أطراف المعادلة.