الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

مسارات إدلب.. ما هو النموذج الاقتصادي المُحتمل تطبيقه في سوريا خلال الفترة المُقبلة؟

  • مشاركة :
post-title
الاقتصاد السوري- تعبيرية

القاهرة الإخبارية - رضوى محمد

أصبح مستقبل الاقتصاد السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد محط اهتمام كبير من قبل الأوساط الإقليمية والعالمية، إذ أنه بعد هذا السقوط انتقلت هيئة تحرير الشام من حكم إدلب فقط إلى حكم سوريا بالكامل، وهو الأمر الذي فتح تساؤلات عدة حول اتجاهات ومسارات الاقتصاد السوري خلال الفترة المُقبلة.

وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على المؤشرات العامة للنموذج الاقتصادي لهيئة تحرير الشام في إدلب، مع توضيح إمكانية تطبيقه على الدولة السورية بشكل عام، هذا بالإضافة إلى توضيح اتجاهات وسيناريوهات الاقتصاد السوري خلال الفترة المُقبلة.

ملامح النظام الاقتصادي لهيئة تحرير الشام في إدلب
مؤشرات النموذج

يُمكن توضيح مؤشرات النموذج الاقتصادي لهيئة تحرير الشام في إدلب من خلال النقاط التالية:

(-) إيرادات غير إنتاجية: انعكست ظروف نشأة هيئة تحرير الشام، كحركة تتبع تنظيم القاعدة تنظيميًا وفكريًا على نموذجها الاقتصادي المُتبع في إدلب، كسلطة حاكمة بحكم الأمر الواقع في شمال غرب سوريا، وهو ما تطلب منها البحث عن مصادر تمويل أخرى غير الطريقة المُتبعة في التنظيم الأم، فكما يوضح الشكل (1) استطاعت الهيئة الاستيلاء على غنائم بحوالي 149 مليون دولار من النظام السوري وفصائل المعارضة، بينما استولت على حوالي 94 مليون دولار من صفقات تبادل الأسرى مع عدة جهات، منها النظام وإيران والحكومة اللبنانية والحكومة الإيطالية.

الشكل (1) يوضح بعض مصادر الإيرادات لهيئة تحرير الشام في عام 2018

ومن ناحية أخرى تمثلت المصادر الرئيسية للإيرادات من الضرائب والرسوم، إذ فرضت الهيئة ضرائب على مختلف الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك التجارة والمهن، وبهذا قُدرت الضرائب التي جمعتها هيئة تحرير الشام سنويًا في مناطق نفوذها بناءًا على عامي 2020 و2021 بحوالي أكثر من 70 مليون دولار من الضرائب والرسوم الخدمية.

وبالإضافة إلى الضرائب فإن تحكُم الهيئة في معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، حقق لها إيرادات ضخمة من خلال الرسوم الجمركية والضرائب على البضائع الداخلة والخارجة، فضلًا عن الإيرادات من إدارة الموارد المحلية وتقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، ومن هنا يتضح أن معظم الإيرادات المُحققة داخل النموذج الاقتصادي في إدلب تتسم بأنها "ريعية غير إنتاجية"، أي أنها لم تأت من أنشطة إنتاجية استثمارية موسعة داخل المحافظة.

(-) نظام نقدي مُغاير: في عام 2017 أعلنت هيئة تحرير الشام عن تأسيس مؤسسة النقد العامة؛ لإدارة النقد وحماية المستهلك، وبينت أن هدفها هو " تنظيم عمليات الصرف ومنع الاحتكار والتلاعب بأسعار العملات في محافظة إدلب"، ويتضح من بنود قانون المؤسسة التي نشرتها الهيئة على قناتها على التليجرام، أنها مأخوذة حرفيًا من قانون النقد السعودي، وقد اقتصر دور المؤسسة على إجبار شركات الحوالة والصرافة على دفع رسوم غير محددة.

وبالإضافة إلى ذلك اتبعت هيئة تحرير الشام في إدلب نهج جديد؛ لمواجهة التدهور الكبير في قيمة الليرة السورية، إذ أعلنت حكومة الإنقاذ السورية في يونيو 2020 أنها ستستبدل الليرة السورية بالليرة التركية؛ من أجل استقرار الأسواق المُتضررة من الانخفاض في قيمة العملة السورية، وهو ما جعل كميات كبيرة من العملة التركية تدخل إدلب، خاصة من خلال فرع مؤسسة البريد والبرق التركية (PTT) في عفرين، وبدأت حكومة الإنقاذ السورية في دفع الرواتب وتحديد الأسعار بالليرة التركية، وهو الأمر الذي يوضح عدم استقلالية النظام الاقتصادي داخل محافظة إدلب.

وفي مجال الصرافة والحوالة، وضعت الهيئة مجموعة من الشروط التي تُقيد عمل الشركات التي تعمل في هذا المجال، إذ أجبرت الشركات التي تستهدف الحصول على ترخيص على إيداع 25% من رأس مالها التجاري في شام بنك طيلة مدة الترخيص، والتي يجب تجديدها كل ستة أشهر، وكان الهدف من ذلك هو حصر سوق النقد بمجموعة صغيرة من التجار ورجال الأعمال العاملين مع هيئة تحرير الشام.

(-) اتباع مبدأ الاحتكار: ففي مجال المُشتقات النفطية والغاز تمتعت شركة " وتد" بالعديد من الصلاحيات من قبل حكومة الإنقاذ في مجال النفط والغاز، إذ مُنحت حقوق حصرية؛ لاستيراد المشتقات النفطية والغاز من تركيا إلى شمال غرب سوريا، وبالإضافة إلى ذلك تضمنت العقود الموقعة بين شركة وتد والتجار الأصغر حجمًا الذين يبيعون واردتها، بنودًا تُهدد بغرامات وإلغاء تراخيص تجارتهم إذا قاموا بخرق بنود العقد والاتفاق، وهو ما يوضح أن الشركة تتمتع بشكل من أشكال السلطة التنفيذية، وفي نفس السياق رفضت هيئة تحرير الشام عشرات طلبات الترخيص من التجار المحليين الذي يسعون إلى استيراد وتوزيع المشتقات النفطية في شمال غرب سوريا.

وبالإضافة إلى ذلك احتكرت الهيئة خدمات الإنترنت والاتصالات، ففي عام 2019 أصدرت "حكومة الإنقاذ" أمرًا إداريًا يُطالب مزودي خدمات الإنترنت في إدلب بوقف أنشطتهم، حتى يتم التنسيق مع مكاتب "SYRConnect" التي تم تأسيسها من جهات مجهولة، وأصبحت الموزع الوحيد لخدمات الإنترنت في شمال غرب سوريا.

وفي هذا السياق يُمكن القول إن هيئة تحرير الشام لم تتبنى أي من النماذج الاقتصادية المُتعارف عليها في النظريات الاقتصادية بمحافظة إدلب، فلم تُطبق النظام الاقتصادي الموجه الذي تُسيطر فيه الحكومة أو القيادة على وسائل الإنتاج وجميع الموارد؛ لتحسين ظروف المعيشة للسكان، ولا نظام السوق الذي يكون للقطاع الخاص دور أكبر فيه وتتحدد الأسعار ومستويات الإنتاج خلاله من العرض والطلب، ولا النظام المختلط الذي يجمع بين النظام الموجه ونظام السوق، كما أنها لا تطبق النظام الاقتصادي الإسلامي وفق معناه الأساسي، فكل المؤشرات التي تم توضيحها تؤكد أن نظام الاقتصاد في إدلب يُمكن وصفه بأنه اقتصاد غير رسمي يقوم على مبدأ الاحتكار، وهو ما يتعارض مع مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يرفض الاحتكار بجميع أشكاله.

تحديات النموذج

واجه النموذج الاقتصادي لهيئة تحرير الشام في إدلب العديد من التحديات، كما سيتم التوضيح على النحو التالي:

(-) الأزمات الاقتصادية: تُعاني محافظة إدلب من أزمات اقتصادية مُتفاقمة في ظل النموذج الاقتصادي السائد، خاصة ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، ومن حيث معدلات التضخم، فقد ارتفعت بشكل كبير في محافظة إدلب، إذ تسبب تهريب الأبقار في رفع أسعار اللحوم، وكما ارتفعت أسعار السلع المستوردة من تركيا التي تضم قائمة طويلة من المنتجات، ويوضح الشكل ( 2) أن إدلب جاءت أعلى معدل تضخم بعد محافظة دمشق في عام 2022، إذ سجلت دمشق 101%، وبعدها إدلب بنسبة 92%، وفيما يتعلق بتضخم أسعار المواد الغذائية، سجلت محافظة إدلب أعلى رقم بنسبة 97%، تليها محافظة درعا، إذ بلغ تضخم أسعار المواد الغذائية 96%، كما أنه في عام 2021 بلغت معدلات البطالة في محافظة إدلب ما بين 78% إلى 80% من إجمالي سكان المحافظة؛ وهذا يرجع إلى انخفاض الاستثمارات داخل المحافظة.

الشكل (2) يوضح متوسط التضخم السنوي لسوريا حسب المحافظات أثناء عام 2022-المصدر: المركز السوري لبحوث السياسات، مسح أسعار المستهلك الشهري 2022

(-) أزمة المحروقات: تفاقمت أزمة المحروقات في محافظة إدلب بشكل كبير، خاصة بعد إعلان شركة "وتد" التابعة لهيئة تحرير الشام في أكتوبر 2022، والتي احتكرت سوق المحروقات في شمال غرب سوريا لسنوات، عن توقف عملها بشكل كامل في مناطق سيطرة الهيئة، على الرغم من إعلان الهيئة عن أسماء خمس شركات أخرى، ولكن الإنتاج أصبح لا يكفي احتياجات المحافظة، فمحافظة إدلب تحتاج إلى حوالي 150 ألف لتر من البنزين المستورد يوميًا، إذ ارتفع سعر الوقود من 4.70 ليرة تركية في نوفمبر 2020 إلى 10 ليرة تركية في نوفمبر 2021، وهو الأمر الذي رفع تكلفة تشغيل المخابز، مما تسبب في ارتفاع حاد في سعر الخبز، وهو ما جعل حكومة الإنقاذ تُقدم دعمًا بقيمة 3 ملايين دولار للخبز في عام 2021، كما ارتفعت تكاليف النقل والأجور، إذ إنه بعد اعتماد الليرة التركية في محافظة إدلب انخفضت قيمتها بمقدار لا يقل عن النصف كما يوضح الشكل (3)، إذ انخفضت من 6.8 ليرة للدولار في عام 2020 إلى 12 ليرة للدولار في عام 2021، ومن هنا ترتب على عدم استقرار قيمة الليرة التركية إلى ارتفاع حاد في الأسعار كافة، خاصة أسعار المحروقات، وهو ما أدى إلى احتجاجات شعبية متكررة؛ للتعبير عن الاستياء من الأوضاع المعيشية.

الشكل (3) يوضح قيمة الليرة التركية أمام الدولار بين عامي 2020 إلى 2021

(-) الاعتماد على الضرائب: تعتمد الهيئة بشكل كبير في النموذج الاقتصادي الخاص بها على فرض الضرائب والرسوم كما أوضحنا، وهو ما مثل تحديًا كبيرًا أمام نجاح النموذج الاقتصادي، إذ أنه يُثقل كاهل السكان المحليين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي واجهوها، إذ إن دفع الضرائب كان مرتين في العام بدلاً من مرة واحدة.

اتجاهات مُستقبلية

في الأيام القليلة الماضية توضَحت مجموعة من المؤشرات حول النظام الاقتصادي المُحتمل في سوريا من القرارات الأخيرة، وذلك على النحو التالي:

(-) الاتجاه نحو الخصخصة: أشار وزير المالية "محمد أبا زيد" في حكومة تصريف الأعمال، أن الحكومة تدرس خصخصة الشركات الحكومية، إذ لاحظت أن 70% من شركات القطاع العام تعرضت للخسارة، خاصة التي تُقدم خدمات أساسية مثل شركة الكهرباء وشركات معامل الدفاع، فضلاً أنه أوضح أن الحكومة بصدد إصدار قوانين استثمار؛ لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى سوريا، خاصة في ظل الاتجاه المُحتمل نحو تخفيف العقوبات الغربية على سوريا.

(-) اقتصاد أكثر انفتاحًا: أظهرت حكومة تصريف الأعمال الحالية في سوريا أنها منفتحة على زيادة العلاقات مع الدول المختلفة من خلال اللقاءات المتعددة التي أجرتها، إذ التقى وزير الخارجية "أسعد الشيباني" وفدًا رفيع المستوى من وزارة الخارجية البريطانية، كما زار وفد أمريكي رفيع المستوى دمشق والتقى أحمد الشرع، وتأكد على التزام الجانب الأمريكي بدفع عجلة النمو الاقتصادي في سوريان خاصة بعدما ألغت الخارجية الأمريكية جائزة بقيمة 10 ملايين دولار؛ للإدلاء عن أحمد الشرع.

(-) اعتماد موازنة اثنى عشرية: أعلنت حكومة تصريف الأعمال اعتماد مبدأ الموازنة "الاثنى عشرية" للسنة المالية 2025، استنادًا إلى جزء من اثني عشر جزءًا من اعتمادات السنة المالية لعام 2024، ومن المُفضل أن يكون هذا القرار استثنائيًا، إذ أنه يُعرض الدولة إلى عجز كبير في الموازنة العامة، خاصة في ظل قرارها بزيادة مرتبات القطاع العام بنسبة 400%، فضلاً عن أنه يحد القدرة على إنشاء مشروعات جديدة؛ لأنها تعتمد على موازنة العام السابق.

سيناريوهان مُحتملان

يُمكن بلورة مستقبل الاقتصاد السوري في السنوات المُقبلة من خلال سيناريوهين لا ثالث لهما، كما سيتم التوضيح على النحو التالي:

سيناريوهات النظام الاقتصادي في سوريا الفترة المُقبلة

(-) تبني النظام الاقتصادي المُختلط: يأتي السيناريو الأول في أن حكومة تصريف الأعمال السورية ستعمل على تبني النظام الاقتصادي المختلط الذي يجمع بين النظام الموجه ونظام السوق، وهذا هو النظام المُعلن حاليًا، والسبب وراء ذلك أنها ستحتاج إلى تمويلات خارجية؛ لإعادة إنعاش خزائن الدولة، وهو ما سيُحتم عليها فتح الباب أمام القطاع الخاص بشكل أكبر ولكن مع الاحتفاظ بملكيتها لبعض القطاعات والموارد، وسلطتها في تحديد أسعار السوق.

(-) تطوير نموذج إدلب: هذا هو السيناريو الثاني لمستقبل الاقتصاد السوري، إذ إن الأيدلوجية الاقتصادية لهيئة تحرير الشام تعتمد على احتكار الموارد في أيدي قلة من المنتجين والموزعين، كما أن وزراء الاقتصاد والتنمية في حكومة تصريف الأعمال تم اختيارهم من دورات حكومة الإنقاذ السابقة، ولكن مع الإشارة هنا أن الهيئة في ظل هذا السيناريو ستعمل على تطوير النموذج الاقتصادي الذي طُبق في إدلب، بأن تعمل على ضخ بعض الاستثمارات وتزيد من العلاقات الدولية.

ويُعتبر هذا السيناريو غير مُفضل بالنسبة لوضع الاقتصاد السوري في الوقت الراهن، إذ إن معدلات التضخم سجلت 120.4% في أبريل 2024، بالمُقارنة بـ 76.7% في أبريل 2023، كما يُحقق الاقتصاد معدل نمو منخفض قدره 2.2% في عام 2024، كما تُعاني الليرة السورية من الانخفاض الشديد أمام الدولار، فالدولار عادل 12500 ليرة في 6 يناير 2025، وهو الأمر الذي يوضح أن النموذج الاقتصادي المُطبق من قبل هيئة تحرير الشام في إدلب لا يُمكن تعميمه على الاقتصاد السوري؛ لأنه سيُفاقم من الأزمات الاقتصادية في سوريا.

وختامًا يُمكن القول إن مستقبل الاقتصاد السوري مرهون باتباع سياسات وإجراءات تستهدف إنعاش القطاعات الاقتصادية المختلفة مثل الزراعة والصناعة والتجارة، وهو ما يُنتظر بشكل فعلي من حكومة تصريف الأعمال الحالية، على أن تكون سياساتها تخدم الصالح العام للدولة، ولا تعمل على شخصنة الأمور اتجاه فئة معينة في المجتمع، وفي هذا الإطار من أهم العوامل التي ستتسبب في زيادة معاناة الاقتصاد السوري هو خلط السياسة مع الدين؛ ولذلك لابد أن يتمتع جميع من بيده حكم سوريا بالرشادة السياسية والاقتصادية؛ حتى نرى الدولة السورية في مجدها بين الأمم.