صوت ذهبي وملامح أوروبية وأصول مصرية، كانت تلك هي المقومات التي شكّلت عناصر نجاح المغنية العالمية يولاندا كريستينا جيجليوتي التي اشتهرت باسم "داليدا"، فصوتها الذي لا تخطئه أذن، وأداؤها السلس وسحر جمالها الجذاب، وامتلاكها القدرة على الغناء بلغات عدة ساعد في نجاحها ووصولها للعالمية.
حظيت "داليدا" التي ولدت في مثل هذا اليوم عام 1933 بشهرة واسعة، بعد أن استطاعت أن تجمع بين ثقافات عدة (مصرية وفرنسية وإيطالية) حيث ولدت لأبوين من المهاجرين عاشا في مصر بحي شبرا بمدينة القاهرة، ومنها انطلقت إلى العالمية بعد أن ذهبت إلى فرنسا وعاشت فيها، وهو ما يفسر ارتباط الفرنسيون بها وحرصهم الدائم على تخليد ذكراها.
"كلمة حلوة وكلمتين حلوة يا بلدي" لم تكن مجرد كلمات تغنت بها المطربة داليدا في أغنيتها العربية الأشهر "حلوة يا بلدي"، لكنها كانت تعبيرًا عن حالة عشقها لمصر التي تربت ونشأت فيها، وتحديدًا بحي شبرا بمدينة القاهرة، فلم تنس أفضالها عليها، كما تضمنت الأغنية التعبير عن حبها الأول الذي جمعها بشاب يعيش بمصر من أصول إيطالية، الذي أهدت له جزءًا من الأغنية من خلال كلمات الأغنية التي تقول فيها: "أول حب كان في بلدي، مش ممكن أنساه يا بلدي.. فين أيام زمان قبل الوداع".
أيضًا أغنية "سالمة يا سلامة" التي كانت من بين أكثر الأغنيات التي حرصت داليدا على إهدائها لجمهورها المصري، التي كتب كلماتها الموسيقار سيد درويش.
تنوعت موهبة داليدا ليس فقط في الغناء، لكنها دخلت مجال التمثيل، وبدأت كدوبليرة للممثلة الأمريكية جوان كولينز، أثناء تصوير فيلم بمحافظة الأقصر جنوب مصر حمل اسم "قصة يوسف وإخوته"، وجاء اختيار مخرج العمل لداليدا بعد أن رأها الأنسب لتكون بديلة لـ"جوان".
شاركت "داليدا" في التمثيل بالسينما المصرية من بينها "سيجارة وكأس" الذي ظهرت فيه باسم "دليلة" قبل أن تستقر على اسمها الشهير داليدا، وشاركها التمثيل الفنانتين سامية جمال وكوكا، كما تعاونت مع المخرج يوسف شاهين وظهرت بدور سيدة تدعى "صدّيقة" في فيلم "اليوم السادس" وظهرت فيه وهي ترتدي الحجاب.
كانت مصر حاضرة في قلب وعقل داليدا رغم سفرها لفرنسا ففي لقاء نادر لها عام ١٩٨٥ أثناء الاحتفال برأس السنة في باريس استرجعت ذكرياتها بداية من نشأتها بمصر والحنين إليها، وقالت: "لا أنسي مصر التي نشأت وعشت فيها فترة من حياتي في بداياتي وأتذكر اجتماع أسرتي للاحتفال برأس العام، واستحضر رائحة الحلويات التي أشعر بأنني لا أزال أشمها، وعلاقتنا الحلوة مع الجيران، وأتمنى لمصر السلام والمحبة وكل الخير".
وعن سبب غيابها عن التمثيل في فرنسا بعد تقديمها فيلمها المصري "سيجارة وكأس"، رغم إشادة الصحافة الفرنسية بأدائها التمثيلي قالت: "في فرنسا هناك فرق بين المطرب والممثل، وأنا اشتهرت بأنني مغنية ولست ممثلة، كما أنني أقوم بأداء وحركات تمثيلية أثناء الغناء، إذ أقوم بسرد قصة من خلال الغناء في مدة الأغنية التي لا تزيد عن 3 دقائق".
مرت داليدا بمرحلة نضج فني وخاصة مع سفرها إلى فرنسا، بعدما أخذت بنصيحة أحد مدربي الطرب الذي طلب منها أن تهتم بالغناء أكثر من التمثيل، وبالفعل أصبحت شهرة داليدا في العالم كمغنية أكثر من كونها ممثلة، خاصة أنها تغني بثمان لغات بجانب العربية، كما قدمت أكثر من 700 أغنية بهذه اللغات، ما يعكس ذكاءها في الوصول للشعوب بلهجاتهم.
رغم شهرة داليدا الواسعة، لكنها عانت في حياتها، بداية من الظروف الصعبة التي تعرضت لها هي وأسرتها بعد وفاة والدها ما دفعها للعمل كسكرتيرة بإحدى الشركات، فضلًا عن تغلبها على تحديات أسرتها المحافظة التي رفضت الكثير من خطواتها في بداية مشوارها بداية من تقدمها لمسابقة ملكة جمال مصر بعدما فوجئت والدتها بفوزها وتصدرها صفحات الجرائد وهي مرتدية المايوه بعد أن اشتركت في المسابقة بدون علمها، مرورًا برفض عائلتها المحافظة دخولها مجال التمثيل، لكنها أصرت على ذلك، ورغم ما حققته من نجاح لكن اليأس تملكها لتنهي حياتها.
يبدو أن اللعنة أصابت كل من يعرف داليدا، إذ أن ثمة قاسم مشترك بين كل من جمعتهم علاقة حب بها، ألا وهو "الانتحار"، بداية من طليقها لوسيان موريس الذي مات منتحرًا، ثم انتحار حبيبها الثاني الرسام جان سوبيسكي، ثم انتحار المطرب الشاب لوجي تينكو، فلم تنجح محاولات داليدا في إخراجه من حالة الاكتئاب ليُنهي حياته منتحرًا، ربما هذه الأحداث التي واجهتها كانت سببًا في إصابتها بحالة من الاكتئاب واليأس لتنهي حياتها بجرعة زائدة من أقراص المهدئ، لتترك خطابًا بعد رحيلها يوضح المعاناة التي عاشتها بمفردها بعيدًا عن أضواء الشهرة والنجومية.
رغم رحيل داليدا عن عالمنا لكن يظل الاحتفاء بها حاضرًا حتى يومنا هذا، فمازال الجمهور يستمع ويردد أغانيها، كما احتفلت السفارة الفرنسية اليوم بإحياء الذكرى التسعين لمطربة هي الأشهر من بين أبناء جيلها، كما سبق أن وضعت فرنسا صورتها على طابع البريد، لترحل النجمة الأشهر بعد أن جابت الشرق والغرب، ويتناقل الأجيال المختلفة أعمالها الفنية.