وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب تنصيبه، على انسحاب بلاده من اتفاق باريس للمناخ للمرة الثانية، في رفض للجهود الدولية لمحاربة الاحترار المناخي، فيما تتزايد كوارث الطقس في العالم وفي الولايات المتحدة التي شهدت منذ أيام حرائق تم وصفها بأنه توازي انفجار قنبلة نووية.
ويعني انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ غياب أكبر مصدر على الإطلاق للانبعاثات في العالم عن الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ للمرة الثانية خلال عقد، والولايات المتحدة هي بالفعل أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي في العالم بفضل طفرة تنقيب مستمرة منذ سنوات في تكساس ونيو مكسيكو وأماكن أخرى، بدعم من تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي والأسعار العالمية القوية منذ الحرب الروسية الأوكرانية، فبعد إخطار الولايات المتحدة الأمين العام للأمم المتحدة رسميًا بهذا لانسحاب، سيدخل حيز التنفيذ بعد ذلك بعام بموجب شروط الاتفاقية.
ومن شأن ذلك الانسحاب الإخلال بتحقيق العدالة المناخية التي يشير مفهومها المطلق لدى الجميع إلى الإقرار بالآثار الاجتماعية والاقتصادية والصحية المُختلفة على المجتمعات التي تُسببها أزمة تغير المناخ، فهذه العدالة تؤكد على أن هذه الأزمة لا تؤثر على الجميع بالتساوي، فتدفع المجتمعات الضعيفة والمُهمشة الأقل مسؤولية عن الانبعاثات الفاتورة الأكبر لأزمة تغير المناخ لتنال النصيب الأكبر من تداعياتها المُدمّرة، الأمر الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تفاقم وتعميق أوجه عدم المساواة وحالات الظلم القائمة، فتكلفة الخسائر والأضرار، تُقدّر بين 290 و580 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2030، تتحمل البلدان النامية والأقل نموًا الفاتورة الأكبر، فهذه البلدان الضعيفة هي الخاسر الأكبر في هذه المعادلة.
في هذا السياق، تُثار عدة تساؤلات: كيف ينظر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العدالة المناخية؟ وما أبعاد رؤية ترامب للتغير المناخي؟ وإلى أي مدى انعكست هذه الرؤية على سياساته المناخية، وعلى خطابه السياسي تجاه التغير المناخي؟
في ضوء ما سبق، يأتي هذا التحليل للإجابة عن التساؤلات السابقة عبر استعراض النقاط الأساسية التالية:
كيف ينظر ترامب للتغير المناخي؟
تتعدد أبعاد رؤية دونالد ترامب للتغير المناخي، والتي في ضوئها يتحدد إدراكه لما تتضمنه العدالة المناخية. ويمكن تحديد أهم هذه الأبعاد فيما يلي:
(*) التغير المناخي كضرر اقتصادي غير عادل: يعتقد ترامب أن سياسات المناخ التي تدعو إلى خفض الانبعاثات الكربونية، وتطبيق إجراءات بيئية صارمة، هي في جوهرها تكتيك اقتصادي يضر بالصناعات الأمريكية، ويهدد بتقليص الوظائف في قطاعات الطاقة التقليدية مثل النفط والفحم، كما يرى أن هذه السياسات تهدف إلى السيطرة على الاقتصاد الأمريكي وتقليص حريته الاقتصادية، في حين يعتقد أن اتفاقية باريس للمناخ هي اتفاقية غير عادلة، إذ فرضت التزامات على الولايات المتحدة دون أن تضع نفس الضغوط على الدول الكبرى الملوثة للبيئة، مثل الصين والهند.
(*) التغير المناخي هو خدعة تضر بالاقتصاد: يقوم فكر ترامب على أن تغيّر المناخ هو مجرد خدعة تهدف إلى تعزيز الطاقة المتجددة على حساب الاقتصاد التقليدي، ما سيكلّف الولايات المتحدة مليارات الدولارات ويضر بالعمال الأمريكيين، فترامب وفي مجمل تصرفاته يرفض الاعتراف بتغير المناخ كأزمة بيئية حقيقية، ويفضل التركيز على استقلالية الطاقة للولايات المتحدة، وتعزيز الطاقة الأحفورية كمحرك رئيسي للاقتصاد، وأتبع ترامب انسحابه الجديد من اتفاق باريس بسلسلة من الأوامر التنفيذية التي تهدف إلى إلغاء سياسات بايدن، بما في ذلك إعلان حالة الطوارئ الوطنية للطاقة، التي قال ترامب إنها ستطلق العنان لما أسماه "الذهب السائل" لأمريكا، وقال ترامب في خطاب تنصيبه: "سنحفر، يا عزيزي، سنحفر، ولدينا شيء لن تمتلكه أي دولة صناعية أخرى على الإطلاق، وهو أكبر كمية من النفط والغاز من أي دولة على وجه الأرض".
(*) تغيّر المناخ ليس مشكلة كونية: من وجهة نظر دونالد ترامب، فإن تغيّر المناخ ليس بالضرورة أزمة بيئية تهدد كوكب الأرض بشكل قاطع، بل هو ظاهرة طبيعية أو دورة مناخية طبيعية قد تحدث عبر الزمن، فهو لا يقبل بالتحليل العلمي السائد حول تأثيرات النشاط البشري على المناخ، مثل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري. فالرئيس الأمريكي لطالما شكك في الأدلة العلمية حول تغير المناخ، ووصف التوقعات المستقبلية بهذا الشأن بـ"الهراء"، وانتقد بشدة الأبحاث والدراسات التي تربط النشاط البشري بتسارع التغير المناخي، فإجمالًا، يرى ترامب أن تغير المناخ ليس بالأمر الحتمي الذي يهدد الإنسانية بشكل كبير.
ما رؤية ترامب للعدالة المناخية؟
تتمثل فكرة العدالة المناخية لدى دونالد ترامب، بشكل أساسي في تحسين اقتصاد الولايات المتحدة، وتحقيق وظائف جديدة في القطاعات التقليدية مثل النفط والفحم، فترامب لم يتبنَ بشكل جاد فكرة أن التغير المناخي يمثل تهديدًا غير متساوٍ لبعض الفئات الاجتماعية والاقتصادية مثل الفقراء والشعوب النامية. ويمكن تفسير هذه الرؤية لدى ترامب في ظل نظرته لقضايا البيئية والتغير المناخي في إطار المصالح الاقتصادية الوطنية، فهو يرى أن السياسات البيئية التي تركز على العدالة المناخية على أنها تهديد لنمو الاقتصاد الأمريكي.
ويعكس توقيع ترامب على الأمر التنفيذي بالانسحاب من اتفاق باريس أمام أنصار له في قاعة "كابيتال وان أرينا" في واشنطن، هذه الرؤية التي تنطلق من تشككه في الاحتباس الحراري العالمي الذي وصفه بأنه خدعة، كما تتناسب مع أهدافه لتحرير منصات التنقيب عن النفط والغاز الأمريكية من القيود التنظيمية حتى تتمكن من زيادة الإنتاج بأقصى معدل، وقال قبيل التوقيع على هذا الأمر "سأنسحب على الفور من خدعة اتفاق باريس للمناخ غير العادلة والمنحازة"، وأضاف ترامب "لن تخرب الولايات المتحدة صناعاتنا بينما تطلق الصين التلوث مع الإفلات من العقاب".
ويتبين مما سبق، أن إدراك ترامب للعدالة المناخية ينطلق من ربطها بتحقيق المصالح الأمريكية فقط. فهذا الإدراك لا يتضمن رؤية العدالة المناخية بمفهومها العالمي المطلق كما يدركها الكافة، والتي تعد مزيجًا بين حقوق الإنسان وتغير المناخ، إذ تهدف في المقام الأول إلى حماية حقوق الإنسان التي قد تتأثر من جراء التغيرات المناخية، ولذا فإن العدالة المناخية تعد أفضل وسيلة لتحقيق توزيع عادل في الأعباء والتکاليف بين الدول المتقدمة والصناعية، والدول الفقيرة.
أهم انعكاسات الرؤية
يمثل ترامب فكر وسياسات قادة اليمين الشعبوي تجاه تغير المناخ، والتي تبدأ بإنكار وجود تغير المناخ والتقليل من مخاطره، وتبني مواقف وسياسات قومية متشددة تظهر من خلال رفضهم للتعاون الدولي المتعلق بتغير المناخ. فالخطاب السياسي والإجراءات والسياسات التي تبناها الرئيس الأمريكي منذ ولايته الأولى وحتى اليوم، تعكس توجهاته اليمينية الشعبوية تجاه العدالة المناخية بمفهومها المطلق الذي يدركه الكافة، بما يصعب معه أو يستحيل تحقيقها على أرض الواقع، ويتأكد ذلك في ضوء ما يلي:
(&) الخطاب السياسي لترامب بشأن تغير المناخ: اتسم الخطاب السياسي لترامب بإنكار تغير المناخ واعتمد هذا الخطاب على المعتقدات والمشاعر بدلًا من الاعتماد على الحقائق العلمية. وبصفة عامة، ابتعدت الخطابات الرسمية لترامب عن الاهتمام بموضوع تغير المناخ.
(&) سياسات ترامب تجاه تغير المناخ: تدرجت هذه السياسات من محاولة التأثير على الوعي العام بقضية تغير المناخ، ثم محاولة إلغاء التشريعات والإجراءات التي اتخذتها إدارة أوباما قبل إدارته الأولى والتي اتخذتها إدارة بايدن قبل إدارته الثانية، إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بالجوانب المؤسسية مثل تخفيض عدد العاملين في وكالة حماية البيئة فضلًا عن تعيين مسؤولين متشككين في تغير المناخ في مواقع حكومية مهمة، مع تخفيض التمويل المتعلق بتغير المناخ، ثم تُوِّجت هذه السياسات بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ مرتين خلال أقل من عقد.
في النهاية، يمكن القول إنه في ضوء فكر ورؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للعدالة المناخية لن يكون الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ هو الخطوة الأخيرة من جانب إدارته في غير صالح مجال البيئة والتغير المناخي. ويتأكد ذلك في ضوء الأوامر التنفيذية الأخرى التي أقرها ترامب غير الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. وتشمل هذه الأوامر التفيذية: تقليص بعض الضوابط الوطنية للسماح بمزيد من أعمال التنقيب والتعدين، وهناك مناقشات حول إمكانية نقل مقر وكالة حماية البيئة خارج واشنطن. وسيظل ترامب بعيدًا عن العدالة المناخية كما يدركها الكافة، والتي تبدأ بمحاسبة الدول والشركات الملوثة، أي المتسببين التاريخيين للانبعاثات وإلزامهم بدفع الثمن وتعويض الخسائر والأضرار الناجمة عن تغيّر المناخ التي تسببوا ولا يزالون يتسببون بها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية.