جاءت المفاوضات التي انطلقت بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في العاصمة السعودية الرياض في 18 فبراير 2024، حيث مثّل الوفد الروسي وزير الخارجية سيرجي لافروف ومساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف والرئيس التنفيذي للصندوق الروسي للاستثمار المباشر كيريل دميترييف، فيما مثّل الجانب الأمريكي وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي الأمريكي مايك والتز، والمبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
وكان من أبرز نتائج المفاوضات بين الجانبين الاتفاق على استئناف عمل البعثات الدبلوماسية بشكل طبيعى، لتثير العديد من التساؤلات حول مدى تأثير نتائج تلك المفاوضات على الاستقرار العالمي بعد أن أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 19 فبراير 2025 بأن الهدف من تلك المفاوضات إطلاق مسار استعادة الثقة بين موسكو وواشنطن، وأن روسيا والولايات المتحدة تعملان على مناقشة القضايا الاقتصادية وأسواق الطاقة والفضاء وغيرها من المجالات، الأمر الذي دفع أيضًا للتساؤل حول تأثير ذلك التقارب على مسار التعددية القطبية الذي يتبناه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتدعو إليه الصين على أساس أن النظام العالمي الحالي أضحى غير قادر على تحقيق الاستقرار، وكان من أبرز تجلياته اندلاع الصراعات في العديد من مناطق العالم، وهو ما أكدته مناقشات مؤتمر ميونخ للأمن 2025 بأن النظام الحالى يشهد إرهاصات ميلاد نظام التعددية القطبية كبديل للأحادية القطبية.
أفول الأحادية القطبية
هناك العديد من المؤشرات التي تعكس أفول الأحادية القطبية، التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) الانقسام الأمريكي الأوروبي: اعتبر بعض المحللين أن التقارب الأمريكي الروسي يعد خصمًا من رصيد التفاعلات الأمريكية الأوروبية التي شكلت الإطار الداعم للهيمنة الأمريكية منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عام 1991 عن ميلاد نظام عالمى جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية بدت أوروبا في إدراك ترامب تشكل عبئًا على السياسة الأمريكية، وهو ما دفعه للاتجاه نحو فرض تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية من أوروبا، وكذلك مطالبة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي" الناتو" لزيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 5% من الناتج المحلي لكل دولة عضو، فضلًا عن دعم إدارة ترامب للأحزاب اليمينية المناهضة للوحدة الأوروبية، ويميل معظمها لتأييد روسيا والصين.
(*) هشاشة الأمن الأوروبي: على الرغم من أن أوروبا شكّلت جزءًا من الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التى تكفلت بالدفاع عن الأمن الأوروبي وحمايته ضد مصادر التهديدات المختلفة، إلا أن الصراع الروسي الأوكراني جسّد الخلاف المركزي بين الدول الأوروبية من ناحية والولايات المتحدة الأمريكية منذ وصول ترامب من ناحية أخرى، وهو ما أدى بالدول الأوروبية للتحفظ على خطة السلام الأمريكية في أوكرانيا.
وأشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أن الولايات المتحدة لا تمتلك خطة للسلام في أوكرانيا، وكذلك تأكيد المستشار الألماني المنتهية ولايته أولاف شولتس بأن الحدود لا ينبغي أن تتغير بالقوة، وأن أوروبا لن تدعم السلام المفروض. يضاف إلى ذلك أن تصريحات نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس خلال فعاليات مؤتمر ميونخ للأمن 2025 التي عكست عمق التباعد بين ضفتي الأطلسي، وانتقاده للديمقراطيات الأوروبية فيما يخص حرية التعبير، وعدم سيطرتها على الهجرة غير الشرعية قائًلا: "إن التهديد الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر فيما يتصل بأوروبا ليس روسيا، ولا الصين، ولا أي طرف آخر، ما يقلقني هو التهديد من الداخل".
(*) الانسحاب الأمريكي من المنظمات الدولية: شكّلت المنظمات الدولية أحد القواعد الداعمة لعمل النظام الدولي، لا سيما أنها تعكس توجهات النظام الدولي القائم، وحدود احترامه للقواعد المؤسسية، إلا أن قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من العديد من المنظمات الدولية في مقدمتها منظمة الصحة العالمية، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والانسحاب كذلك من اتفاقية باريس للمناخ، دفعت بالعديد من التحليلات للحديث عن عمق أزمة الهيمنة الأمريكية التي تعكس تراجعًا للدور العالمي للقطب المهيمن، وهو ما جسده أيضًا عزم إدارة ترامب إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وما يشكله من تراجع للقوة الناعمة الأمريكية التي جعلت من المساعدات التنموية والإنسانية مسارًا لبناء التحالفات ومواجهة الخصوم.
(*) تزايد الاستقطاب العالمي: يتجسد الاستقطاب الحاد الذي يعكس حالة عدم الاستقرار وفشل الأحادية القطبية على بناء الاستقرار على مستويين الأول داخل القطب المهيمن ذاته حيث عكس صعود التيارات اليمينية في الولايات المتحدة الأمريكية حالة الانقسام الحاد داخل المجتمع الأمريكي، فتلك التيارات ترفض الاندماج بين البيض والسود في الولايات المتحدة الأمريكية، وتطالب برفض الهجرة واللجوء. أما المستوى الثاني لذلك الاستقطاب فإنه يتجسد بالتنافسية الحادة بين القوى المهيمنة على تفاعلات النظام الدولي وتلك الراغبة في تغييره. وكذلك الاستقطاب ما بين القوى الإقليمية والدولية بما أدى لتزايد الأزمات الدولية وعدم قدرة تلك القوى على ضبط سلوكها.
مؤشرات التعددية القطبية
لخصت مقولة رئيس مؤتمر ميونخ للأمن 2025 الدبلوماسي الألماني كريستوف هويسجن بأن قواعد النظام الدولي الراهن في خطر، وهو ما يعكس اتفاقًا بأن ثمة تبلور للانتقال من نظام الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية التي بدأت ملامحها في التشكل من خلال المؤشرات التالية:
(&) مبدأ التنافس التعاوني بين الولايات والصين: تعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين قطبين اقتصاديين مؤثرين على مسارات الاقتصاد العالمي ككل، فالولايات المتحدة الأمريكية تحتل المركز الأول عالميًا فيما تأتي الصين في المرتبة الثانية، الأمر الذي أدى إلى المطالبة بتعزيز الشراكة القائمة على التنافس التعاوني بدلًا من عملية التنافس القائمة على فك الارتباط بينهما. وبرغم ذلك فقد اتجه الرئيس دونالد ترامب إلى فرض تعريفات جمركية على الواردات من الصين، وهو ما أدى إلى قيام الصين بإجراء مماثل. هذا الواقع ربما يمثل تهديدًا لقيم العولمة التي تجسد أحد مرتكزات الهيمنة الأمريكية، في حرية انتقال الأفراد والبضائع.
(&) الشراكة الاستراتيجية الصينية الروسية: تشكّل الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا أحد مرتكزات التحول إلى التعددية القطبية، وهي الشراكة التي تم تدشينها خلال القمة التي عُقدت بين الرئيس الصيني شي جي بينج والروسي فلاديمير بوتين في 4 فبراير 2022، على خلفية المشاركة في انطلاق الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. وقد اعتبر البيان الصادر عن القمة محطة فارقة في العلاقات بين البلدين، لوضعه ركائز الشراكة بين روسيا والصين وعزمهما العمل معًا ضد الهيمنة الأمريكية، والسعي لبناء نظام دولي جديد يقوم على أساس رؤيتهما الخاصة لحقوق الإنسان والديمقراطية ومنظومة القيم العالمية التي تشكل الإطار الداعم للنظام الدولي متعدد الأقطاب.
(&) تصاعد التحالفات الإقليمية: جسّدت التحالفات الإقليمية المرنة اتجاهًا نحو إرساء التعددية القطبية فقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية أنماط تلك التحالفات، حيث اتهم الغرب إيران بدعم روسيا بالمسيّرات، في حين أشارت بعض التحليلات إلى استخدام المسيّرات التركية من قبل أوكرانيا. وعلى المستوى الاقتصادي تزايدت أدوار التكتلات الاقتصادية منها تجمع البريكس الذي يسعى أعضاؤه ليشكل مسارًا تنموىًا بديلًا للنموذج التتموي الغربي، الذي يعتبره البعض السبب الرئيسي في أزمات الاقتصاد العالمي المتتالية بسبب تركز الثروات في مجتمعات على حساب مجتمعات أخرى.
مجمل القول إن الانتقال من نظام الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية ربما يسهم في بناء عالم أكثر عدلًا وانصافًا واستقرارًا، وربما يحتاج ذلك التحول لفترة انتقالية ما بين عالمين مختلفين في القواعد والمؤسسات والقيم، وهو بلا شك لن يكون انتقالًا يسيرًا، لإدراك القطب المهيمن على تفاعلات النظام الدولي تداعيات ذلك على مصالحه ومكانته العالمية لذلك من المحتمل أن يكون للمواجهة ما بين ذلك القطب والأقطاب الجديدة الرامية للتغير نحو التعددية القطبية تكلفتها على الاستقرار والتنمية، حتى يتمكن النظام الدولي الجديد من فرض قواعده وقيمه ومؤسساته لتعود دورة الاستقرار من جديد.