الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

كيف تعيد إندونيسيا تموضعها على الساحة الدولية؟

  • مشاركة :
post-title
الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

باتت إندونيسيا أحدث أعضاء تجمع دول بريكس للاقتصادات الناشئة، بعدما أعلنت البرازيل التي تتولى الرئاسة الدورية للتكتل في 6 يناير 2025 قبول الدول الأعضاء بالإجماع انضمام جاكرتا، وتعكس تلك الخطوة جانبًا من ملامح السياسة الخارجية الإندونيسية بعد تولي برابوو سوبيانتو رئاسة البلاد في أكتوبر الماضي، والتي جاءت امتدادًا لرغبة الإدارة السابقة برئاسة جوكو ويدودو في الانضمام للتكتل.

ومنذ إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية في فبراير 2024، كثف "سوبيانتو" جولاته الخارجية بصفته وزيرًا للدفاع والرئيس المنتخب في إطار تعزيز العلاقات الاقتصادية والدفاعية ودعم التوجهات الثابتة لجاكرتا، وحافظ وزير الدفاع السابق والرئيس الإندونيسي الحالي على خطاب متوازن تجاه الولايات المتحدة والصين.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي ملامح السياسة الخارجية الإندونيسية، باعتبارها إحدى أبرز القوى الصاعدة والاقتصاد الأكبر في منطقة جنوب شرق آسيا، وحدود الاستمرارية والتغير في سياسات سوبيانتو عن سلفه ويدودو.

ملامح سياسة سوبيانتو الخارجية

منذ أبريل 2024، أجرى برابوو سوبيانتو عدة جولات وزيارات خارجية في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، وتؤشر جولات الرئيس الجديد على التوجهات التالية:

(*) التوازن الإيجابي: فيما تبنى الحفاظ على إثر سلفه في تعميق العلاقات مع الصين، زار برابوو سوبيانتو البر الرئيسي الصيني مرتين خلال العام الماضي، الأولى في أبريل عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية والثانية في نوفمبر 2024 في أول زيارة خارجية عقب توليه مهام منصبه رسميًا، وتُوِّجت بتوقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بقيمة 10 مليارات دولار، وهو ما يظهر الثقل الاقتصادي لبكين التي تمثل أكبر شريك تجاري لإندونيسيا بقيمة 139.42 مليار دولار في 2023 حسب السفارة الصينية في جاكرتا، مقابل الولايات المتحدة التي لا يتجاوز حجم التبادل التجاري بين واشنطن وجاكرتا 47.5 مليار دولار في 2022.

إندونيسيا

على الجانب الآخر تتخذ السياسة الخارجية والدفاعية لإندونيسيا مسارًا أكثر تقاربًا من الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، مع الحرص على تنويع الشراكات الدفاعية شرقًا وغربًا، وأعلن رئيسا البلدين جو بايدن وجوكو ويدودو في 12 نوفمبر 2023 ترفيع العلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة على هامش زيارة الأخير للولايات المتحدة، كما وقع وزيرا دفاع البلدين لويد أوستن وبرابوو سوبيانتو (حينها) اتفاقًا للتعاون الدفاعي في 16 نوفمبر 2023 لتعزيز التدريبات المشتركة وفرص التبادل التعليمي وتحسين الوعي بالمجال البحري، حسب موقع السفارة الأمريكية في إندونيسيا. واتسعت التدريبات الإندونيسية الأمريكية المشتركة "سوبر جارودا شيلد" والتي تُجرى منذ عام 2007 لتشمل العديد من حلفاء واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ شملت النسخة الأخيرة التي جرت في أغسطس 2024 بحضور 4400 جندي إندونيسي و1800 جندي أمريكي، مشاركة مئات الجنود من كل من أستراليا واليابان وسنغافورة وفرنسا وبريطانيا وكوريا الجنوبية وكندا ونيوزيلندا، بحضور مراقبين من البرازيل وألمانيا وتيمور الشرقية وماليزيا والفلبين وتايلاند وهولندا وبابوا غينيا الجديدة.

(*) الانخراط النشط: تشير كثافة الجولات الخارجية للرئيس برابوو سوبيانتو إلى بروز دوره في صياغة ورسم وتنفيذ السياسة الخارجية لبلاده وتعزيز العلاقات الثنائية مع القوى الكبرى والشركاء الدوليين، خلافًا لسلفه جوكو ويدودو الذي حافظ على انخراط أكبر في الشؤون الداخلية تاركًا الكثير من المهام الخارجية لوزراء الخارجية والدفاع.

مضيق ملقا

ويعزز افتتاح الولاية الرئاسية الأولى لسوبيانتو بقبول عضوية بلاده في تجمع بريكس من نهج الانفتاح على المنظمات الاقتصادية متعددة الأطراف لخدمة التنمية الاقتصادية الطموح في الداخل، والوصول إلى أحد معدل نمو سنوي يتراوح بين7 و8%. كما تُبدي جاكرتا اهتمامًا بالانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ولا ترى الإدارة الجديدة أي تعارض بين الانضمام للمنظمة الغربية بالتزامن مع الانضمام لتجمع بريكس في ضوء خدمة الأهداف الاقتصادية الطموح والتوجه لنقل العاصمة إلى مدينة نوسانتارا بجزيرة بورنيو.

(*) تنويع الشراكات: من المحتمل أن تنعكس خلفيته المهنية كقائد عسكري ووزير دفاع سابق على اهتمامه ببرامج تحديث الجيش، إذ شغل جانب التحديث العسكري وتوطين الصناعات الدفاعية جانبًا مهمًا من زياراته إلى روسيا وفرنسا واليابان، وفي 28 أغسطس 2024 وقعت جاكرتا وكانبيرا اتفاق تعاون دفاعي يشمل تعزيز التشغيل البيني بين قوات البلدين في مجالات الأمن البحري ومكافحة الإرهاب والتعليم والتدريب ومكافحة الكوارث وصناعة الدفاع، وفي أول ترجمة عملية لتلك الاتفاقية انعقدت المناورات المشتركة "كيريس ووميرا" منتصف نوفمبر 2024 بمشاركة ألفي جندي من الطرفين.

دوافع متعددة

تعزيز موقع إندونيسيا كقوة متوسطة في نظام عالمي متعدد الأقطاب قيد التشكل، تتطلع لتهدئة التوترات الجيوسياسية، والاستفادة من وضع الحياد الإيجابي في تعزيز مسار النمو الاقتصادي، وذلك في إطار الدوافع الآتية:

(&) تمويل المشروعات: تمثل الخطط الطموحة لتعزيز مكانة إندونيسيا على خارطة الاقتصادات الكبرى بمعدل نمو مرتفع يتراوح بين 7 و8% سنويًا بدعم من مختلف القطاعات في ظل توجه نقل العاصمة إلى نوسانتارا بجزيرة بورنيو والتي تُقدر تكلفة إنشائها الأولية بـ35 مليار دولار، وفي إطار استراتيجية 2045 التي ستنقل إندونيسيا لمصاف الدول المتقدمة تزامنًا مع الاحتفال بمئوية استقلال البلاد. وعلى الجانب الآخر يأتي قرار نقل العاصمة في ظل المخاوف من تأثير تغير المناخ على جاكرتا باعتبارها أكثر مدن العالم عُرضة للغرق وتشير بعض التقديرات لاحتمالية أن تغمر المياه أجزاء واسعة من المدينة بحلول 2050، حسب "أوكسفورد إيكونومكس".

عاصمة إندونيسيا الجديدة-أوكسفورد إيكونومكس

(&) تحديث الجيش الإندونيسي: على الصعيدين السياسي والأمني، ركزت رؤية الإدارة الإندونيسية السابقة على إعادة تعريف موقع إندونيسيا على الساحة الدولية باعتبارها دولة تقع بين منطقة المحيطين الهندي والهادئ من جهة ومحور آسيا-الشرق الأوسط-إفريقيا من جهة أخرى، ما يعزز الحاجة لبناء أساطيل تجارية قوية وبنية تحتية متطورة قادرة على استيعاب الانتشار والقواعد العسكرية لتأمين الملاحة جوًا وبحرًا وتعزيز التحكم في نقاط الاختناق التي تخترق الأرخبيل، وقد تشهد تصاعدًا في التوترات البحرية، حيث يتحكم مضيق ملقا في 25% من حجم التجارة العالمية و30% من تجارة النفط. وفي ضوء النزاع على تقسيم المياه الإقليمية والثروات في بحر الصين الجنوبي ويتقاطع خط النقاط التسع الصيني مع المنطقة الاقتصادية الخالصة لجزيرة شمال ناتونا.

ويؤشر النمو المطرد في ميزانية التسليح منذ 2019 خلال تولي سوبيانتو مسؤولية وزارة الدفاع بمعدل 15% في 2020 على الأهمية الكبرى لتحديث الجيش في استراتيجية الرئيس الجديد. وبلغ حجم الإنفاق الدفاعي في 2023 مستوى 8.8 مليار دولار، فضلًا عن تخصيص 46.6 مليار دولار للإنفاق الدفاعي في الفترة من 2024 إلى 2029 لصالح شراء معدات عسكرية وتطوير الصناعة الدفاعية المحلية، بمتوسط إنفاق 9.3 مليار دولار سنويًا، حسب مجلة "ذا دبلومات".

وعلى هامش زيارة وزير الدفاع الياباني الجنرال ناكاتاني إلى جاكرتا في 7 يناير الجاري، أبدى وزير الدفاع الإندونيسي شمس الدين جعفري رغبة بلاده في نقل التكنولوجيا الدفاعية اليابانية المتقدمة، والتصنيع المشترك للقطع البحرية، وعلى رأسها الفرقاطة موجامي العاملة في بحرية قوات الدفاع الذاتي.

(&) لعب دور في السلام العالمي: علاوة على دور بلاده النشط في المشاركة ببعثات حفظ السلام الأممية في الشرق الأوسط وإفريقيا، ومنها بعثة يونيفيل في لبنان، أبدى برابوو سوبيانتو في الأول من يونيو 2024 اهتمام بلاده بدعم حل الأزمة في الشرق الأوسط وإنهاء المعاناة الإنسانية بغزة عبر المشاركة في أي بعثة لحفظ السلام في القطاع، وهو ما عكسته جولاته بالشرق الأوسط وآخرها زيارته لجمهورية مصر العربية في ديسمبر 2024 على هامش قمة مجموعة الثماني النامية الإسلامية، في ظل ما تشغله القضية الفلسطينية من أولوية لدى الشارع الإندونيسي بالوقت الراهن.

وإجمالًا؛ يشير الانخراط المتزايد لإندونيسيا بالساحة الدولية إلى انفتاح الرئيس برابوو سوبيانتو على تعزيز اقتصاد بلاده عبر الانضمام لتجمعات ومؤسسات متعددة الأطراف، والمساهمة الإيجابية في بناء وحفظ السلام، والحد -في الوقت ذاته- من التأثيرات السلبية للتنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين مع تقليص الاهتمام بدور رابطة آسيان في السياسة الخارجية الإندونيسية.