يعكس تصريح وزير دفاع دولة الاحتلال الإسرائيلي يوآف جالانت في 10 أكتوبر 2024 بأن الرد على الهجوم الإيراني الأخير "سيكون قاتلًا ودقيقًا ومفاجئًا للغاية، لدرجة أنهم لن يدركوا ما حدث وكيف حدث"، بأن الرد المحتمل لا يزال يمثل خيارًا مفتوحًا للنخبة الحاكمة في إسرائيل على جميع الاحتمالات، سعيًا لاستعادة الردع الإسرائيلي المفقود بعد استهداف إيران لإسرائيل مرتين ردًا على العمليات التى نفّذتها ضد المصالح الإيرانية من خلال استهدافها للقنصلية الإيرانية في سوريا، واستهداف قادة الأذرع الإيرانية باغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله وعدد من قيادات الحزب، فضلًا عن اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بالعاصمة الإيرانية طهران، وذلك عقب مشاركته في مراسم تنصيب رئيس إيران الجديد مسعود بزشكيان.
أهداف متعددة
تسعى إسرائيل من خلال ردها المحتمل ضد إيران، لتحقيق العديد من الأهداف التي يمكن إبراز أهمها على النحو التالي:
(*) استعادة الردع: توعّد رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إيران بأنها ستدفع ثمن هجومها الصاروخي على إسرائيل، في حين توعدت إيران بأن أي رد انتقامي سيقابل بدمار على نطاق واسع. وإذا كان الردع من الناحية الاستراتيجية يعني منع قيام الحرب، وأن الحرب يجب أن ترتبط بهدف سياسي تسعى الآلة العسكرية لتحقيقه، إلا أن ما تقوم به إسرائيل على كل الجبهات التى أشعلتها مغاير لذلك تمامًا، بل وللمفارقة فإن نتنياهو وظّف الوجود الأمريكي المكثف في الإقليم من الناحية العسكرية نحو مزيد من التصعيد، اعتقادًا بأن القوات الأمريكية ستحول دون استهداف إسرائيل بل وستنخرط في الدفاع عنها إذا لزم الأمر.
وإذا كان الهدف الأمريكي من تكثيف الوجود العسكري لتحقيق الردع وللحيلولة دون تمدد الصراع وانتشاره، ووفقًا لنائبة المتحدث باسم البنتاجون سابرينا سينج، بأن قيادة وزارة الدفاع تركز على تهدئة الموقف من خلال الردع والدبلوماسية، وأن الوجود الأمريكي الأوسع يهدف إلى ردع العدوان وتقليل خطر حرب إقليمية أوسع نطاقًا، إلا أن وجود القوات الأمريكية ساند نتنياهو من الناحية الواقعية في إشعال مزيد من الحرائق في دول الإقليم، وجعل تلك القوات رهينة لحساباته في ظل إخفاق إدارة بايدن بالضغط عليه لوقف التصعيد العسكري، وهو ما حال دون تحقيق الردع وفاقم من إشعال الحرائق.
(*) الاستجابة لدعوات اليمين المتشدد: تتنوع دعوات أعضاء اليمين المتطرف من الحكومة الإسرائيلية والمطالبين برد أكثر حدة على إيران، حيث أشار وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في 6 أكتوبر 2024 إلى أن الحرب الحالية لا يمكن أن تنتهي إلا بعد إسقاط النظام الإيراني وتدمير مشروعه النووي، وأنه لا يمكن إنهاء الحرب إلا عندما لا تكون هناك حماس في غزة ولا تكون لديها القدرة على إعادة تأهيل نفسها، وتتمكن إسرائيل من تجديد الاستيطان في قطاع غزة وضمان وجود يهودي دائم ومستقر، ووجود عسكري طويل الأمد، مضيفًا "لا يمكننا إنهاء الحرب إلا عندما نهزم حزب الله ونطرده إلى ما هو أبعد من نهر الليطاني، وننقل الشريط الأمني من أراضينا إلى الأراضي اللبنانية، وخلق واقع عسكري وسياسي يمنح جيش الاحتلال الإسرائيلي حرية العمل في جميع أنحاء لبنان، والترويج لنظام جديد يطرد ما تبقى من حزب الله والنفوذ الإيراني".
(*) الإطاحة بالنظام الإيراني: يهدف نتنياهو وفريق اليمين المتطرف في حكومته إلى الإطاحة بالنظام الإيراني، ففي 30 سبتمبر 2024 قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتوجيه رسالة إلى الشعب الإيراني محذرًا من أن حكومتهم تدفعهم أقرب إلى الهاوية، واتهم نتنياهو إيران بإغراق المنطقة في مزيد من الظلام والحرب. وخاطب الإيرانيين قائلًا: "لابد أن تعلموا أن إسرائيل تقف إلى جانبكم، وأنه عندما تتحرر إيران أخيرًا -وسوف تأتي تلك اللحظة أسرع بكثير مما يتصوره الناس- فإن كل شىء سيكون مختلفًا". ولا شك أن هذا الخطاب يفتقد إلى المصداقية فكيف يخاطب نتنياهو الشعب الإيراني الذي يرفض جرائمه في غزة ولبنان وسوريا، بل ويطالب بمحاكمته على جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة.
(*) الهيمنة الإقليمية: على الرغم من أن الهجوم الإيراني على إسرائيل، لم يؤد إلى خسائر جسيمة، ووصفته الولايات المتحدة الأمريكية بأنه غير فعّال، إلا أن نجاح عدد من الصواريخ في الإفلات من أنظمة الدفاع الإسرائيلية مثل القبة الحديدية ومقلاع داود كان رسالة من إيران على قدراتها الصاروخية القادرة على الوصول إلى عمق تل أبيب التي ترى في اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله نقطة تحول في تاريخ المنطقة، وفق تعبير نتنياهو الذي أشار أيضًا إلى أن اغتيال نصر الله خطوة ضرورية لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط. ولا شك أنها محاولة تصدير رسالة مغلوطة إلى الإقليم، فإسرائيل لم تتمكن حتى الآن من تحقيق أي من أهدافها في غزة برغم كل الدمار الذي خلّفته، بما جعلها تربط بين التهدئة في لبنان والإفراج عن المحتجزين في غزة.
كوابح التصعيد
على الرغم من تبني إسرائيل لخطاب تصعيدي ضد إيران، إلا أن ثمة قيود متعددة تحول دون اندلاع حرب شاملة بينهما، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:
(&) أمن الطاقة العالمي: يشكّل الحفاظ على أمن الطاقة أحد أهداف القوى الكبرى المهيمنة على تفاعلات النظام الدولي وفي مقدمتها أوروبا والصين التي ربما يمثل استهداف إسرائيل لحقول النفظ الإيرانية تأثيرًا على الإمدادات والأسعار بشكل مباشر، لا سيما أن إنتاج إيران من النفط ارتفع إلى أعلى مستوى في الست سنوات الأخيرة، فقد وصل إلى 3,7 مليون برميل يوميًا في أغسطس 2024، وتشير العديد من التقديرات إلى أن الرد المحتمل لإسرائيل باستهداف منشآت النفط الإيرانية سيؤدي إلى منع وصول ما يقرب من 1,5 مليون برميل من النفط يوميًا إلى الأسواق، بما يجعل من الرد الإيراني يتجه في أحد جوانبه إلى إغلاق مضيق هرمز الذي تمر به نسبة معتبرة من ناقلات النفط، وهو ما سينعكس على أمن الطاقة العالمي ويشكل قيدًا على السلوك الإسرائيلي، لذلك تروّج الولايات المتحدة لمقترح بدائل من حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية ضد إيران بدلًا من أن استهداف المنشآت النفطية.
(&) قدرات إيران العسكرية: يشكل امتلاك إيران لقدرات عسكرية قادرة على ردع إسرائيل بعد أن اختبرت منظومة صواريخها التي نجحت في الوصول إلى تل أبيب كابحًا ورادعًا لإسرائيل لجعل ردها المحتمل ضد إيران لا يتجاوز حدود معينة. ووفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز" ترتكز القوات الإيرانية على الردع من خلال تطوير الصواريخ الدقيقة وبعيدة المدى، والطائرات بدون طيار، والدفاعات الجوية، كما بنت إيران أسطولًا كبيرًا من الزوارق السريعة والغواصات الصغيرة التي تستطيع تعطيل حركة الشحن وإمدادات الطاقة العالمية عبر الخليج العربي ومضيق هرمز.
وتمتلك إيران واحدة من أكبر ترسانات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة في المنطقة، بما في ذلك صواريخ كروز وصواريخ مضادة للسفن، إضافة إلى الصواريخ الباليستية التي يصل مداها إلى 2000 كيلومتر، ما يتيح لها القدرة على استهداف أي هدف في الشرق الاوسط بما في ذلك عمق تل أبيب.
(&) الأذرع الإيرانية في الإقليم: على الرغم من استهداف إسرائيل للأذرع الإيرانية في اليمن ولبنان وسوريا، إلا أن تلك الأذرع لا تزال تشكل مقومات داعمة للسلوك والمصالح الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، كما لا تزال إيران توظّف علاقاتها بتلك الأذرع للتأثير على المعادلة السياسية داخل تلك الدول، كما يعكس ذلك الفراغ الرئاسي في لبنان الذي مر عليه ما يقرب من عامين ولبنان بلا رئيس منذ انتهاء فترة الرئيس ميشيل عون نهاية أكتوبر 2022.
مجمل القول؛ برغم تنوع كوابح الرد الإسرائيلي المحتمل ضد إيران، إلا أن ثمة إصرار من النخبة الحاكمة في إسرائيل على ذلك الرد سواء من خلال استهداف منشآت نفطية أو اقتصادية وصولًا إلى التحريض على استهداف منشآت نووية من قبل أعضاء اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يرفضه الرئيس الأمريكي جو بايدن ويتبنى فرض حزمة من العقوبات الجديدة ضد إيران، ومع إعلان وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجي بأن إيران سترد على أي تحرك إسرائيلي بمزيد من القوة، وأن كل فعل سيكون له رد فعل فإن إقليم الشرق الأوسط سيظل رهنًا بصراعات ممتدة لا أفق سياسي لحلها.