أعلنت كارين جان بيير، المتحدثة الإعلامية باسم البيت الأبيض، 22 أغسطس الجاري، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يعتزم حضور قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، خلال الفترة من 7 إلى 10 سبتمبر 2023، فيما يتغيب عن قمة "أمريكا وآسيان" وقمة شرق آسيا، في جاكرتا خلال الفترة من 4 إلى 7 سبتمبر المقبل، مُوفدًا فيهما نائبته كامالا هاريس، وكشفت مجلة بوليتيكو الأمريكية، 18 أغسطس 2023، أن الرئيس الأمريكي سيزور فيتنام منتصف سبتمبر، لتجديد وتوسيع إطار الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وهانوي.
وعلى الرغم من اتخاذ الولايات المتحدة منذ عهد أوباما سياسة الاتجاه شرقًا، إلا أن تقلب توجهات ساكن البيت الأبيض أثرت في فاعلية التحركات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وفق ما خططت لها، خاصة في ظل المؤشرات السلبية التي يتركها غياب الرئيس الأمريكي عن اجتماعات ضرورية في جاكرتا، تتضمن صلب المصالح الأمريكية التي تؤكد مركزية "آسيان" في منطقة بحر الصين الجنوبي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أبعاد التوجه الأمريكي لمنطقة المحيطين في ضوء علاقتها بالتكتلات الإقليمية الآسيوية وعلى رأسها رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" وتأثيره على التنافس الأمريكي الصيني في المنطقة.
أبعاد التوجه الأمريكي نحو آسيا
اتخذت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي مبدأ الحفاظ على منطقة الإندوباسيفيك حرة ومفتوحة أمام حركة الملاحة البحرية دون قيود، في ظل تنافس أمني محموم بين واشنطن وبكين، ويمكن معرفة أبعاد التوجه الأمريكي تجاه التكتلات والتجمعات الإقليمية في آسيا وفق التناول التالي:
(*) الدفاع عن الحلفاء: يستهدف التوجه الأمريكي بآسيا في عهد الرئيس جو بايدن، وفق استراتيجية الأمن القومي الصادرة في فبراير 2022، لتعزيز الترتيبات الأمنية وإحياء وخلق صيغ للتنسيق الأمني والدفاع المشترك بين الحلفاء، بما يدعم تماسك البيئة الاستراتيجية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، في مواجهة النفوذ العسكري الصيني.
وتشمل تلك الهيكلية الأمنية المقترحة أمريكيًا في أول أبعادها تعزيز الريادة الإقليمية للهند، التي تمثل القوة الحليفة الأهم خارج المنظومة الغربية، عبر تعميق التعاون العسكري والتقني والانخراط الأمريكي في تطوير البنية التحتية الحرجة لنيودلهي، وثانيها تعزيز الآليات الأمنية الإقليمية وهو ما شهد تطورات مهمة مع إحياء التحالف الأمني الرباعي مع اليابان والهند وأستراليا، وتعزيز بناء الثقة بين طوكيو وسول لإدماج كوريا الجنوبية في آليات التعاون العسكري والأمني الإقليمي مع اليابان، ما يوفر إمكان أفضل للتعاون بين القوات الأمريكية في البلدين التي تبلغ نحو 80 ألفًا، في مواجهة صواريخ كوريا الشمالية والتحدي الصيني والحضور الروسي المتزايد في المحيط الهادئ.
وتشمل في ثالث أبعادها بناء القدرات الأمنية والعسكرية للحلفاء وبصفة خاصة في المجال البحري مع انتشار النزاعات حول السيادة والرؤى المتشابكة للمياه الإقليمية لدول بحر الصين الجنوبي، من خلال اتفاق "أوكوس" مع أستراليا والمملكة المتحدة، لتزويد (كانبيرا) بغواصات فرجينيا العاملة بالطاقة النووية، وتزويد اليابان بصواريخ توماهوك، وترقية القدرات الجوية التايوانية عبر تحديث طائرات إف-16 وتزويدها بأنظمة المسح والتتبع بالأشعة تحت الحمراء، وكذلك الشراكة مع الهند لتصنيع محركات الطائرات بصورة مشتركة بما يدعم مشروعها لتصنيع مقاتلة محلية الصنع. وفي هذا الصدد يشير تقرير للخارجية الأمريكية، 13 فبراير 2023، إلى تحقيق مبيعات الدفاع بالمنطقة، خلال عام 2022 إيرادات بلغت 13.55 مليار دولار، ونحو 620 مليون دولار مساعدات أمنية للحلفاء.
ويأتي أخيرًا تعزيز الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة من خلال توقيع اتفاقات أمنية مثل الاتفاق الأخير بابوا غينيا الجديدة، والسماح بتوسيع نشر القوات الأمريكية في الفلبين إلى 9 قواعد بعد الاتفاق الأخير بين واشنطن ومانيلا على الحق في نشر قوات أمريكية بـ5 قواعد إضافية، منها 3 في أقصى شمال البلاد تبعد نحو 100 ميل بحري من جزيرة تايوان، وأخرى في أقصى الجنوب قرب جزر سبراتلي المتنازع عليها ببحر الصين الجنوبي.
(*) السيطرة على نقاط الاختناق الدولية (الممرات الاستراتيجية): يمثل الحفاظ على التفوق البحري وحرية الحركة للأسطول الأمريكي السابع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ضمانة لاحتواء الصعود الصيني، من خلال السيطرة على الممرات الاستراتيجية بالتعاون مع الحلفاء الإقليميين، من خلال الدوريات الاعتيادية عبر مضيق تايوان في رد فعل صريح على الأنشطة العسكرية الصينية حول الجزيرة، وكذلك إبقاء مضيق ملقا الاستراتيجي الفاصل بين بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي خارج السيطرة الصينية، نظرًا لأهميته التجارية الكبرى بالنسبة لبكين التي تجري نحو 90% من عملياتها التجارية عبر البحار، وبحسب جامعة جورج تاون، من المتوقع أن يرتفع اعتماد الصين على واردات النفط والغاز الطبيعي المسال العابرين من المضيق إلى نسبة 80% و62% على التوالي من إجمالي واردات الصين من النفط والغاز.
(*) الحفاظ على الريادة الاقتصادية والتكنولوجية: بعدما انسحب الرئيس السابق دونالد ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي دفع إليها سلفه باراك أوباما، أعاد الرئيس بايدن انخراط بلاده اقتصاديًا في المنطقة، عبر تدشين "الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ"، مايو 2022، إلى جانب 12 دولة هي اليابان والهند وكوريا الجنوبية والفلبين وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وفيتنام وبروناي وأستراليا ونيوزيلندا وتايلند.
كما اتخذ الدور الأمريكي في العامين الماضيين نمط تعظيم نفوذ واشنطن على سلاسل إمداد صناعة الرقائق الإلكترونية والمتقدمة منها بصفة خاصة، وهو ما يتمثل في أولًا: توطين سلاسل توريد الرقائق المتقدمة، من خلال استضافة مصنع ضخم لشركة صنع الرقائق الإلكترونية التايوانية "تي إس إم سي TSMC" في ولاية أريزونا، بقيمة إجمالية 40 مليار دولار، ومن المقرر بدء تشغيل المنشأة في العام المقبل، وفق خطة الولايات المتحدة لتعزيز التصنيع الكامل والنهائي للرقائق المتقدمة بما يشمل أنشطة البحث والتطوير، التي تخدم بصفة خاصة البنتاجون وتأمين سلاسل توريد الرقائق للمجمع الصناعي العسكري. وثانيًا: بناء تحالف الرقائق (للردع وتأمين الحلفاء)، الذي يضمن على الجانب الآخر احتواء نفوذ جيش التحرير الشعبي الصيني وضمان استمرار التفوق العسكري التقني، من خلال تحالف الرقائق مع اليابان وكوريا الجنوبية وهولندا، الذي دفع لتقييد صادرات معدات تصنيع الرقائق من أمستردام إلى بكين.
تقييم التوجه الأمريكي نحو آسيا
على الرغم من جهود إدارة بايدن في آسيا لضمان التفوق الأمريكي عبر توسيع الوجود الدبلوماسي والانخراط، في مناقشات وحوارات أمنية واستراتيجية مع دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلا أن ذلك الوجود يتسم بالفاعلية الجزئية في المناطق التي يشتد فيها التنافس الأمني مع الصين وبالتبعية المخاوف الإقليمية من نفوذ الأخيرة، بينما يتراجع فيها الدور الأمريكي على صعيد الشراكة مع التكتلات الإقليمية القائمة خاصة ذات الطبيعة الاقتصادية، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، التي تحتفظ واشنطن مع دولها بعلاقات متباينة، وفقًا لموقف كل دولة من التنافس الأمريكي الصيني والأزمة الأوكرانية.
(&) تكثيف التعاون الأمني: تستنفد مساعي الدفاع عن تايوان وتحجيم التفوق العسكري الصيني في المحيط الهادئ، تركيز الاستراتيجية الأمريكية بمنطقة المحيطين، في ظل النشاط المحموم لدفع الحلفاء الإقليميين لإدانة الصين، وهو ما ألقت عليه الضوء صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، منتصف يوليو الماضي، حينما كشفت أن واشنطن وطوكيو تعمل منذ عام على خطة للدفاع عن تايوان، إلا أن اليابان لم تلتزم صراحة بالدفاع عن الجزيرة بمشاركة قوات الدفاع الذاتي.
(&) إخفاق الدبلوماسية الاقتصادية متعددة الأهداف: لم تحقق الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الإندوباسيفيك أي اختراق في تعزيز التبادل التجاري بين واشنطن والقوى الرئيسية بالمنطقة وعلى رأسها رابطة "آسيان"، التي تمثل مجتمعة الاقتصاد الرابع عالميًا، في حين تخطى التبادل التجاري بين الصين والرابطة 975 مليار دولار عام 2022، لم تتجاوز التجارة بين أمريكا و"آسيان" 505.8 مليار دولار لذات العام، حسب بيانات الرابطة ومكتب الإحصاء الاقتصادي الأمريكي. مثل العامل الاقتصادي نقطة الضعف الأساسية في الاستراتيجية الأمريكية بالمنطقة، التي ارتكزت بصورة رئيسية على الحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن على مختلف الأصعدة، بينما تقلص المفاضلة بين السوقين الأمريكي والصيني في سياق التنافس الاستراتيجي بينهما من هامش المناورة الأمريكية في ظل ما يطرح ذلك التقسيم من فوائد محدودة للقوى المتقدمة تكنولوجيًا وعلى رأسها كوريا الجنوبية واليابان.
وتمثل تلك المعضلة الكبرى التي تواجه العلاقات الأمريكية مع القوى المتوسطة التي تسعى لموازنة علاقاتها بين القوى الكبرى، وبصفة خاصة إندونيسيا قاطرة "آسيان"، التي تستضيف قمة "آسيان-أمريكا" وقمة شرق آسيا، خلال الفترة من 4 إلى 7 سبتمبر، التي يمثل الجانب الأمريكي فيها نائبة الرئيس كامالا هاريس.
ولعل الموازنة في العلاقات مع الولايات المتحدة والهند والصين وروسيا من الممكن أن تدفع بجاكرتا إلى تقوية العلاقات والروابط الاقتصادية مع الصين كاستثمار آمن وتحوط من نفوذ بكين، وهو ما عبر عنه الرئيس جوكو ويدودو، 24 أغسطس الجاري، أن بلاده تدرس الانضمام إلى تكتل "بريكس" على ضوء العلاقات الاقتصادية المتميزة مع الدول الخمس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، إلى جانب استمرار التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، في ضوء مساعي تحديث الجيش على خلفية مباحثات وزيري الدفاع، 24 أغسطس الجاري، التي تناولت ترقية وتحديث المقاتلات العاملة وتوفير مقاتلات جديدة.
وإجمالًا؛ تظهر الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ محدودية في الأهداف رغم اتساع نطاقها لتشمل مجالات العمل المناخي وتحول الطاقة والأمن والدفاع، إلا أن الافتقار لحوافز التعاون الاقتصادي والتجاري المنافسة للدور الصيني وتوظيف الموارد لخدمة التنافس الاستراتيجي بين واشنطن وبكين تحد من مصداقية التوجهات الأمريكية بالمنطقة، ويمثل غياب الرئيس الأمريكي عن قمة أمريكا وآسيان وقمة شرق آسيا، رسالة سلبية للتكتلات الإقليمية وتقليلًا من الالتزام الأمريكي بجعل المنطقة حرة ومفتوحة.