اختتم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجمعة 28 يوليو 2023، جولة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، شملت إقليم كاليدونيا الجديدة وفانواتو وبابوا غينيا الجديدة، لإحياء روابط بلاده بالمنطقة وإدانة ماضيها الاستعماري، وسعيًا لإيجاد بديل للنفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة وطرح بديل للدور الأمريكي، وجاءت الجولة بالتزامن مع تدريبات جوية فرنسية يابانية في أجواء محافظة ميازاكي اليابانية الجنوبية الغربية.
وفي المقابل يجري وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن زيارته الثامنة لمنطقة المحيطين والأولى إلى بابوا غينيا الجديدة التي وصلها في 27 يوليو، مؤكدًا على نشر سفينة خفر سواحل أمريكية بسواحل مورسبي في أغسطس المقبل للمساهمة في إنفاذ القانون البحري ومنع الصيد غير القانوني ومكافحة الإتجار بالبشر، وذلك قبيل توجهه إلى جانب وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى أستراليا لعقد الاجتماع الوزاري التشاوري السنوي رقم الثالث والثلاثين بين واشنطن وكانبيرا.
تأتي جولة الرئيس ماكرون في إطار مساعي فرنسا لرسم رؤية استراتيجية للحفاظ على المصالح الأوروبية بعيدًا عن التنافس الأمريكي الصيني، بالتوازي مع تعزيز التعاون مع دول المنطقة وفق مستويات وأولويات تلك الشراكات.
رؤية بديلة
تعيد زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى جزر المحيط الهادئ، التأكيد على حضور فرنسا باعتبارها قوة أصيلة تمتلك حقوقًا سياسية وامتدادات إقليمية في المنطقة تؤهلها لإعادة التموضع في المنطقة التي تمثل مركز ثقل بازغًا للاقتصاد العالمي، وموطنًا لثروات وأصول استراتيجية فرنسية، خاصة بعد حرمان باريس من اتفاق الغواصات النووية مع أستراليا.
(*) تأكيد الحضور: جاءت زيارة الرئيس الفرنسي، التي وصفها الإليزيه بالتاريخية، للتذكير بوجود فرنسا من خلال الأقاليم التابعة على هيئة جزر تمتد بين المحيطين الهندي والهادئ بمساحة 465,422 كم مربع، وبمنطقة اقتصادية خالصة نحو 9 ملايين كم مربع، تمثل نحو 93% من إجمالي المياه الاقتصادية الخالصة لفرنسا.
ويقيم في تلك المنطقة نحو مليوني فرنسي الجنسية منهم 1,6 مليون في الأقاليم الفرنسية، فيما ينتشر قرابة 7 آلاف جندي بمختلف القواعد الفرنسية في المنطقة، حسب الخارجية الفرنسية. ويقع في منطقة أوقيانوسيا بجنوب المحيط الهادئ 3 أقاليم فرنسية منها كاليدونيا الجديدة "New Caledonia" التي رفضت ثلاثة استفتاءات للاستقلال عن فرنسا خلال خمس سنوات مع مقاطعة السكان الأصليين "الكاناك" وممثليهم في حزب "الاتحاد الكاليدوني" الاستفتاء الأخير، إلى جانب كل من"وليس وفوتونا Wallis and Futuna"، و"بولينيزيا"Polynesia .
(*) تعزيز الاستراتيجية الفرنسية في المنطقة: نظرًا لحضورها الإجباري في المنطقة أعلنت فرنسا استراتيجيتها الأولى لمنطقة المحيطين في مايو 2018 خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لأستراليا، في ظل ظروف إقليمية وعالمية مغايرة، تضمنت التعاون مع القوى الرئيسية في المنطقة وعلى رأسها الصين من خلال "الحوار السياسي البنّاء وتعميق التعاون الاقتصادي والتجاري"، كما تضمنت التعاون مع رابطة آسيان والشركاء في أستراليا ونيوزيلندا واليابان والهند وكوريا الجنوبية.
وعلى الرغم من عدم وجود اختلاف جوهري في الاستراتيجية الفرنسية الأولى وتحديثها في 2021، إلا أن تصاعد التنافس الأمني بين الولايات المتحدة والصين على منطقة جنوب المحيط الهادئ، الذي خلّف خروجًا مهينًا لفرنسا من اتفاق الغواصات مع أستراليا واستبدالها بقوى غربية من خارج الاتحاد الأوروبي عززت من تحول الخطاب الفرنسي تجاه المنطقة.
ففي 27 يوليو 2023 خلال زيارته إلى دولة فانواتو التي فضلت التزام الحياد في التنافس الأمني الجاري، رفع إيمانويل ماكرون مصطلح "الإمبريالية الجديدة"، منتقدًا سياسة "القوى الكبرى المفترسة" التي تقوّض أمن منطقة المحيطين.
وتضمنت المسوغات الفرنسية للزيارة سُبل تعزيز التعاون مع بلدان المنطقة في مكافحة آثار التغير المناخ ودعم التنوع البيولوجي ومكافحة الصيد غير القانوني، وطرح رؤية بديلة للتنافس والعسكرة التي تجلت في الاتفاق الأمني بين الصين وجزر سليمان، والاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة وبابوا غينيا الجديدة الواقعة شمال أستراليا.
(*) تعزيز الوجود الأمني: على الرغم من التفاوت الكبير في القدرات العسكرية بين فرنسا وكل من الصين والولايات المتحدة، إلا أن الحضور العسكري في عموم منطقة المحيطين الهندي والهادئ بات يكتسب أهمية كبرى، ليس فقط للدفاع عن سيادتها الإقليمية، ولكن في إعادة تقديم بلاده كرأس حربة للوجود الأوروبي في المنطقة التي يتزايد القلق بشأن تغير بيئتها الأمنية وتأثيره على سلاسل الإمداد الحيوية لدول أوروبا.
وتتجلى مساعي الرئيس الفرنسي في الحفاظ على نفوذ بلاده السياسي والأمني على الصعيد الأوروبي في إنعاش حلم الاستقلال الاستراتيجي لدول الاتحاد، ويتضمن بحد أدنى الحفاظ على تنافسية الصناعات الدفاعية الأوروبية، فعلى الرغم من الرفض الفرنسي لفتح مكتب اتصال لحلف الناتو في طوكيو كان من المزمع تمريره في قمة الحلف الأخيرة في فيلنيوس، إلا أن فرنسا باتت أكثر انفتاحًا على تعزيز الشراكات الأمنية مع القوى الإقليمية الحليفة وعلى رأسها اليابان، إذ أجرت القوات الجوية للبلدين تدريبًا مشتركًا بمشاركة طائرات الرافال، بالقرب من قاعدة نيوتابارو جنوب غربي اليابان في الفترة من 27 إلى 29 يوليو 2023.
وبعيدًا عن أجواء التنافس الصاخب بين الصين والولايات المتحدة، عززت فرنسا شراكتها الاستراتيجية مع الهند باستقبال رئيس الوزراء ناريندرا مودي كضيف شرف رئيسي في احتفالات عيد الجمهورية، منتصف يوليو 2023، ولإعلان عن خريطة طريق للتعاون حتى 2047 في مجالات الدفاع وتصدير التكنولوجيا والبيئة، ويتصدر ملف التسليح تلك الأولويات، إذ طلبت نيودلهي تعزيز أسطولها من طائرات الرافال البالغة 36 مقاتلة، بشراء 26 مقاتلة بحرية لتجهيز حاملة طائراتها، إلى جانب شراء 3 غواصات من طراز سكوربيون.
وإجمالًا؛ تسعى فرنسا لإعادة صياغة دورها في منطقة المحيطين باعتبارها قوة أصيلة ذات مصالح وامتدادات إقليمية يمكن أن تساهم في إيجاد مسار بديل للتنافس الأمريكي الصيني يرتكز على الشراكات الاستراتيجية مع القوى والمنظمات الإقليمية والدعم الأوروبي المفترض. وتختلف أدوات الدور الفرنسي باختلاف مسارح (عمليات) تلك المنطقة، ففي بحري الصين الجنوبي والشرقي يرتكز الدور الفرنسي على التشاور السياسي والأمني الدائم والتعاون الدفاعي والعسكري من تصدير أسلحة وتكنولوجيا عسكرية وإجراء تدريبات ثنائية تظهر التضامن مع تلك القوى دون إثارة غضب الصين. وفي جنوب المحيط الهادئ عزز ماكرون من مبادرات بلاده الريادية في مواجهة تغير المناخ والحفاظ على التنوع البيولوجي، فيما لم تتجاوز رؤيته للحد من مخاطر التنافس الأمني سوى في إدانة "الإمبريالية الجديدة" وحث الدول الجزرية على التزام الحياد. وللدلالة على قصور القوة الفرنسية في مسرح الإندوباسيفيك، ففي حين تنشر فرنسا 7 آلاف جندي في الإندوباسيفيك، يبلغ عدد القوات الأمريكية في المنطقة نحو 106 آلاف جندي.