يأتي إعلان الاتفاق بين إسرائيل وحركة حماس في 8 أكتوبر 2025، بتنفيذ المرحلة الأولى من خطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي عكست التحول في موقف واشنطن من الدعم اللا محدود لإسرائيل إلى إدراك ترامب لديناميات الصراع وحدود تأثيره على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي تتطلب سياسات أمريكية أقل انحيازًا لدعم إسرائيل في حربها على غزة. وبالقطع تضافرت العديد من العوامل التي أسهمت في إحداث ذلك التحول في الموقف الأمريكي وصولًا لعقد قمة السلام في شرم الشيخ 13 أكتوبر 2025، في مقدمتها: صلابة الموقف المصري برفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، وصمود الشعب الفلسطيني، والمساندة العربية والإسلامية لوقف الحرب، وضغوط الرأي العام العالمي، التي جسدها مظاهرات الشباب في المدن والجامعات الغربية، فضلًا عن الزخم الدولي المساند لحل الدولتين، حيث أيد ذلك التوجه أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
عوامل متعددة
هناك العديد من العوامل التي شكلت مرتكزات داعمة لتبلور خطة ترامب للسلام في غزة، وإحداث التحول في الموقف الأمريكي من المساندة المطلقة لإسرائيل إلى تبني رؤية أقل انحيازًا وأكثر استقلالًا إزاء ديناميات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والتي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
(*) صلابة الموقف المصري الرافض للتهجير: جسد الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم صلابة رؤية القاهرة ودعمها للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة، وفق صيغة حل الدولتين التي توافقت عليها قرارات الشرعية الدولية. وقد شكل مؤتمر القاهرة للسلام، والذي عقد في 21 أكتوبر 2025، تبلورًا واضحًا لموقف مصر المبكر الرافض للتهجير والرافض أيضًا لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما جاء في كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال المؤتمر قائلًا: "واليوم تقول لكم مصر بكلمات ناصحة أمينة: إن حل القضية الفلسطينية، ليس التهجير وليس إزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى.. بل إن حلها الوحيد هو العدل، بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، في تقرير المصير، والعيش بكرامة وأمان، في دولة مستقلة على أرضه مثل باقي شعوب الأرض". وقد وضع ذلك الموقف ركائز التعامل الدولي مع تطورات الأوضاع في غزة، الذي مر بالعديد من المحطات من خلال الوساطة المصرية القطرية الأمريكية، لوقف إطلاق النار وصولًا إلى قمة شرم الشيخ للسلام في 13 أكتوبر 2025، التي مثلت انتصارًا للحكمة المصرية لإقرار السلام كمبدأ يسهم في الاستقرار والتنمية لدول الإقليم.
(*) صمود الشعب الفلسطيني: شكّل صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه ورفض المغادرة برغم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضده عنصرًا مهمًا في معادلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث نجح الشعب الفلسطيني بالبقاء على أرضه رغم حرب الإبادة الإسرائيلية ضد شعب أعزل، وذلك باستهداف الأطفال والنساء واستهداف المنشآت التعليمية والطبية ومراكز الإيواء ومحطات المياه والكهرباء. الأمر الذي جعل تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بنهاية أغسطس 2025 تشير إلى أن إجمالي من استشهدوا في الحرب الإسرائيلية على القطاع وصل إلى ما يقرب من 60300 شهيد منذ بداية الحرب. أما الإصابات فقد بلغت 150 ألف جريح، 18 ألفًا منهم بحاجة إلى تأهيل طويل الأمد، ودفع الأطفال الثمن الأكبر من بين الضحايا، حيث استشهد 18430 طفلًا (30.8% من إجمالي الشهداء)، في حين بلغ عدد الشهيدات 9300 بنسبة تقارب 17%. كما أن هناك 2613 عائلة أُبيدت بالكامل ومُسحت من السجل المدني، وتبقى من 5943 عائلة فرد واحد فقط. وبقدر ما جسدت تلك التضحيات معاناة الشعب الفلسطيني أمام آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، بقدر ما كشفت عن تشبث الفلسطينيين بأرضهم وإصرارهم على رفض المغادرة، فهم أصحاب الأرض ومن حقهم إقامة دولتهم على ترابها.
(*) المساندة العربية والإسلامية: أسهمت المساندة العربية والإسلامية للقضية الفلسطينية في تغير الإدراك الأمريكي إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة، فقد جاءت مقررات القمة العربية الإسلامية الطارئة التي عقدت بالدوحة في 15 سبتمبر 2025 لرفض العدوان الإسرائيلي على قطر، حيث اشتمل البيان الختامي على لغة حاسمة إزاء السلوك الإسرائيلي في المنطقة، ودعا البيان جميع الدول إلى اتخاذ كافة التدابير القانونية والفعالة الممكنة لمنع إسرائيل من مواصلة أعمالها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك دعم الجهود الرامية إلى إنهاء إفلاتها من العقاب ومساءلتها عن انتهاكاتها وجرائمها، وفرض العقوبات عليها وتعليق تزويدها بالأسلحة والذخائر والمواد العسكرية أو نقلها أو عبورها، بما في ذلك المواد ذات الاستخدام المزدوج، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها ومباشرة الإجراءات القانونية ضدها. كما جاءت كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال القمة لتحذر من زعزعة الاستقرار الإقليمي قائلًا: "كما أحذر من أن ما نشهده من سلوك إسرائيلي منفلت، ومزعزع للاستقرار الإقليمي، من شأنه توسيع رقعة الصراع، ودفع المنطقة نحو دوامة خطيرة من التصعيد، وهو ما لا يمكن القبول به أو السكوت عنه".
(*) عزلة إسرائيل الدولية: تزايدت عزلة إسرائيل الدولية ليس فقط على المستوى السياسي، والتي تجسدت في مغادرة غالبية وفود الدول المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة للقاعة الرئيسية في سبتمبر 2025 خلال إلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلمته، وإنما امتدت أيضًا لتشمل العزلة الأكاديمية ومطالبة المتظاهرين في الجامعات الغربية بوقف التعامل الأكاديمي مع الجامعات والمجتمع البحثي الإسرائيلي، فضلًا عن العزلة الفنية والرياضية، التي جسدت الرفض الدولي للممارسات الإسرائيلية وانتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني. وربما جسدت العزلة القانونية المتغير الأهم في مسار العزلة الدولية لإسرائيل بعد أن قامت دولة جنوب إفريقيا برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما ترجمته المحكمة في 24 مايو 2024 بمطالبتها بالوقف الفوري لعملياتها العسكرية في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة وانسحاب قواتها. وقد انضمت لتلك الدعوى لاحقًا العديد من دول العالم التي جسدت الضمير الإنساني والأخلاقي الرافض للسلوك الإسرائيلي.
(*) تسويق الرواية الفلسطينية: أفرزت الحرب الإسرائيلية على غزة متغيرًا مهمًا يرتبط باهتمام الشباب الأمريكي بما يحدث في غزة، وقد شكل المكون الشبابي في المظاهرات التي تطالب بوقف الحرب العنصر الأكبر، وهو ما يعكس أن الرواية الفلسطينية بدأت تشق طريقها بشكل صحيح إلى إدراك الشباب الأمريكي بعد أن نجح اللوبي اليهودي لعقود ممتدة في دعم الرواية الإسرائيلية المزعومة. وبرغم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، إلا أن إعادة التعريف بالحقوق الفلسطينية المشروعة داخل المجتمعات الغربية على أسس صحيحة دون تزييف، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، مثل أحد أهم مكاسب تلك الحرب، بما أدى إلى اتجاه العديد من الدول الغربية لتغيير مواقفها وتبني وقف الحرب ورفض استهداف المدنيين ومطالبة إسرائيل بقبول حل الدولتين. كما شهدت لقاءات داخل الكونجرس الأمريكي خلال جلسات الاستماع لمسؤولين حول الحرب رفع لافتات من قبل ناشطين شباب بها صور للأطفال الفلسطينيين ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، وأخرى تطالب بوقف الحرب والدماء في غزة. ولا شك أن تلك التفاعلات الشبابية كان لها تأثيرها على اتجاهات المعنيين بالقضية الفلسطينية والداعمين للحقوق والحريات بشكل عام، والجمهور العربي من الناخبين الأمريكيين خلال التصويت في الانتخابات الرئاسية نوفمبر 2024.
(*) مظاهرات المدن والجامعات الغربية: عكس خروج مظاهرات في المدن والجامعات الغربية والولايات الأمريكية، سواء للتنديد بالموقف الأمريكي من الحرب الإسرائيلية على غزة والمطالبة بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة أو تلك الداعمة لإسرائيل، أن القضية الفلسطينية أضحت ضمن أولويات الجمهور الأمريكي بعد أن ظلت لفترات ممتدة قاصرة على اهتمامات النخب باعتبارها ضمن قضايا السياسة الخارجية التي لا تحظى باهتمامات الناخب الأمريكي في سياق المنافسات الانتخابية المتنوعة. وقد عزز من ذلك الاهتمام بحرب غزة التحول في المعالجة الإعلامية الغربية والأمريكية في تناول أبعاد الحرب بعد أن ظلت لفترة منحازة بشكل مطلق للرواية الإسرائيلية بكل ما فيها من مغالطات وتضليل. يُضاف إلى ذلك بعض الأعمال النوعية التي لاقت اهتمام الناخبين والجمهور الأمريكي وتفاعله معها، ومنها وفاة الطيار الأمريكي بوشنل من سلاح الجو الأمريكي 27 فبراير 2024 بعد أن أضرم النار في نفسه خارج سفارة إسرائيل في واشنطن، وهو يردد أنه لن يكون متواطئًا بعد الآن في الإبادة الجماعية، في إشارة إلى الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة.
(*) حل الدولتين: أسهم الزخم الدولي في تبني مسار حل الدولتين متغيرًا مهمًا للتحول في موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الحرب الإسرائيلية على غزة، لاسيما بعد اعتراف عدد معتبر من دول العالم خلال فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، وفي مقدمتها قوى أوروبية محورية مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، ودول أخرى مثل كندا وأستراليا.
قمة السلام.. محطة فارقة
ربما تشكل قمة شرم الشيخ برئاسة مصرية-أمريكية مشتركة، والتي ستعقد في 13 أكتوبر 2025 تحت شعار "قمة شرم الشيخ للسلام"، ترجمة على أرض الواقع للتحول في الموقف الأمريكي إزاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وترجمة أيضًا للرؤية المصرية الصلبة التي تضمنتها خطة ترامب للسلام في رفض التهجير، وإعطاء حق العودة لمن يقرر ذلك من الفلسطينيين، وإدخال المساعدات الإنسانية لغزة وصولًا إلى حل الدولتين. لذلك جاء انعقاد القمة – وفقًا للمتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية المصرية – برئاسة مشتركة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبمشاركة قادة أكثر من عشرين دولة. وتهدف القمة إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة، وتعزيز جهود إحلال السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وفتح صفحة جديدة من الأمن والاستقرار الإقليمي. وتأتي هذه القمة في ضوء رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحقيق السلام في المنطقة، وسعيه الحثيث لإنهاء النزاعات حول العالم.
مجمل القول؛ ما بين قمة القاهرة للسلام في أكتوبر 2023، وقمة شرم الشيخ للسلام في أكتوبر 2025، ظل الموقف المصري ثابتًا وواضحًا لم يتغير برفض التهجير ورفض تصفية القضية الفلسطينية، ومطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته أمام ما يحدث في غزة من حرب إبادة إسرائيلية، فضلًا عن تبني مسار حل الدولتين. ولا شك أن تغير الموقف الأمريكي من ديناميات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي أصبح أقل انحيازًا لإسرائيل، وفي ظل مشاركة الرئيس ترامب في القمة وقادة أكثر من عشرين دولة، فإن فرص بناء السلام في الإقليم تصبح مواتية أكثر من أي وقت مضى بشرط الانصياع للحكمة المصرية، وسلوك قيادتها الرشيد في الحفاظ على مقدرات الشعوب وصون سيادتها واستقرارها، وهو ما يعني أن مصر كانت وستظل مفتاح الاستقرار في إقليم تتجاذبه التحديات والصراعات من كل اتجاه.