على الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تبنى خلال ولايته الأولى ضرورة الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، وذلك لارتفاع تكلفة صراعاتها المعقدة، فإن ولايته الثانية اتسمت بسعيه لإعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في المنطقة من خلال مزيد من التفاعل الأمريكي مع قضايا وأزمات الإقليم، وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما طرحه من خطة للسلام لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة تكونت من 21 بندًا، وقبلها الوساطة المصرية القطرية الأمريكية لوقف الحرب، وكذلك الانخراط الأمريكي مع إسرائيل في حربها ضد إيران بهدف منعها من تطوير برنامجها النووي، فضلًا عن تعزيز العلاقات الأمريكية مع النظام السوري الجديد، ورفع العقوبات المفروضة على دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد.
ويضاف إلى ما سبق سعي ترامب لتعزيز الشراكات الاقتصادية الأمريكية مع دول الإقليم الفاعلة، وفى مقدمتها مصر وتركيا والسعودية والإمارات، وهو الأمر الذي تجلى في زيارته الخليجية الأخيرة.
مؤشرات دالة
هناك العديد من المؤشرات التي تعكس إعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) خطة ترامب للسلام في غزة: طرح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خطة للسلام في غزة تتكون من 21 بندًا، واصفًا تلك اللحظة بأنها ربما أعظم أيام التاريخ، والتي اعتبرها البعض خطة تشتمل على أهداف إستراتيجية لا يقتصر أثرها على غزة فقط بل تمتد لتشمل المنطقة كلها، ووصفتها صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانية بأنها خدعة استعمارية جديدة.
وإجمالًا فالخطة تعد بوقف فوري لإطلاق النار بمجرد قبول الطرفين علنًا، وإطلاق جميع المحتجزين خلال 72 ساعة وانسحاب إسرائيلي إلى خطوط متفق عليها تمهيدًا لإتمام عملية التبادل، وفي مقابل ذلك تفرج إسرائيل عن 250 أسيرًا محكومًا عليهم بالمؤبد، ونحو 1700 أسير من غزة بعد 7 أكتوبر 2023.
وتقوم الخطة على عدة مسارات هي: تفكيك سريع وشامل لقدرات حماس العسكرية عبر إطار قوة استقرار دولية ومشاركة عربية وإسلامية، وتأسيس حكومة انتقالية يقودها مجلس السلام بإشراف دولي وبمشاركة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، تشرف على حكومة فلسطينية تكنوقراطية لا دور فيها لحماس ولا للسلطة الفلسطينية على الأقل على المستوى المتوسط، وفتح مسار سياسي نحو تقرير المصير الفلسطيني، يوصف بالموثوق مع تأكيد عدم ضم غزة أو احتلالها رسميًا وإبقاء مسؤولية أمنية إسرائيلية مؤقتة لحين نزع سلاح حماس.
(*) الانخراط الأمريكي في الحرب الإسرائيلية على إيران: شكَّل الانخراط الأمريكي في الحرب الإسرائيلية ضد إيران أحد ملامح إعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط، والذي ارتبط بسعي ترامب إلى إزالة التهديدات التي تواجه إسرائيل وفي مقدمتها البرنامج النووي الإيراني، ويعبر ذلك الموقف عن ازدواجية المعايير في ظل امتلاك إسرائيل لأسلحة الدمار الشامل، ومن هنا جاء قراره بتوجيه عدد من الضربات الجوية في 22 يونيو 2025 التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان.
(*) رفع العقوبات عن سوريا: وقَّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 3 يوليو 2025 أمرًا تنفيذيًا ينهي برنامج العقوبات الأمريكية على سوريا؛ للسماح بإنهاء عزلة دمشق عن النظام المالي العالمي، وذلك تماشيًا مع تعهد واشنطن بمساعدة سوريا على إعادة الإعمار بعد الأزمة، كما قرر الاتحاد الأوروبي وقف العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا تماشيًا مع التوجهات الأمريكية الجديدة، واعتبر البعض أن تلك القرارات تسهم في إعادة الإعمار والتنمية في سوريا، وتعزز التعافي الاقتصادي والانفتاح على المجتمع الدولي، وانعكس ذلك الواقع الجديد على إعادة التمثيل الدبلوماسي بين واشنطن ودمشق.
(*) تسمية وزارة الحرب الأمريكية: وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 5 سبتمبر 2025 أمرًا بإعادة تسمية وزارة الدفاع الأمريكية لتكون "وزارة الحرب" التي أُلغيت منذ عام 1947، مبررًا ذلك بأن مصطلح الدفاع يحمل إيحاءً سلبيًا ومبالِغًا في الطابع الوقائي، بينما يعكس مصطلح الحرب جوهر المهمة القتالية للجيش الأمريكي الذي يقوم على الاستعداد للهجوم وتحقيق النصر. وللمفارقة فإن خطاب ترامب ينسجم مع تبريره لذلك المسمي الجديد بسبب إخفاقات الجيش الأمريكي في الحروب الخارجية، لذلك تعد حروب الشرق الأوسط من بين تلك الإخفاقات وفي مقدمتها الغزو الأمريكي للعراق الذي أخفق في تحقيق أهدافه، وتداعياته السلبية التي لا تزال تلقي بظلالها على الدولة والمجتمع معًا.
دوافع متعددة
هناك العديد من الدوافع التى أسهمت في إعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(&) حماية الحليف الإستراتيجي: تعكس السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط محورية التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وهو التحالف الذي يقوم على إستراتيجية ثابتة لا تتغير بوجود أي من الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي في السلطة، ويشمل بالأساس ضمان الولايات المتحدة الأمريكية أمن إسرائيل وضمان تفوقها على دول إقليم الشرق الأوسط باعتبارها جزءًا من المنظومة الغربية والأمريكية. وفي ظل حصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أغلبية الأصوات الشعبية وأغلبية أصوات المجمع الانتخابي، ومع دعم اللوبي اليهودي له وتأييده واسع النطاق من قبل التيار اليميني في الولايات المتحدة، فإنه يسعى لترجمة وعوده الانتخابية ومنها استمراره في دعم إسرائيل كحليف إستراتيجي، لذلك استبق لقاءه الأول في ولايته الثانية مع نتنياهو بتصريحات في 3 فبراير 2025 توحي بمساندة ائتلاف نتنياهو الحاكم للاستمرار في الحكم بالإعلان عن تأييده توسيع المستوطنات انطلاقًا من أن إسرائيل دولة صغيرة المساحة، كما أعلن عن صفقة عسكرية بقيمة مليار دولار لإسرائيل، وإصدار أمر تنفيذي جديد بحظر تمويل منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
(&) ضمان أمن الطاقة: يشكِّل متغير الطاقة أحد أهم المحددات الحاكمة لإعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط بهدف الحفاظ على استمرار تدفق النفط من المنطقة التي تسهم بنحو 30% من إنتاجه العالمي دون عقبات تؤثر على الاقتصاد العالمي، لا سيما أن الحرب الروسية الأوكرانية أسهمت في تراجع إمدادات الطاقة الروسية إلى الدول الأوروبية.
(&) ردع إيران: يمثل ردع إيران أحد الدوافع المؤثرة في إعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط، فعقب عملية السابع من أكتوبر 2023 عززت الولايات المتحدة الأمريكية من وجودها العسكري في الشرق الأوسط لردع إيران، كما اعتبرت بعض التحليلات أن اتجاه ترامب للتفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي في جولات متتالية جاء في سياق خطة للخداع الإستراتيجي بعد أن هاجمت إسرائيل إيران واستهدافها لعدد من المنشآت الإيرانية، والقيادات العسكرية، وعلماء الذرة قبل أن تستوعب إيران الضربات التى شنتها إسرائيل، وتقوم بمهاجمة تل أبيب بالقدرات الصاروخية العابرة للحدود وبالمُسيَّرات الإيرانية التي وصلت لعمق المدن الإسرائيلية.
(&) مواجهة النفوذين الصيني والروسي: يشكل سعي الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على الهيمنة الأحادية أو إعادة إنتاجها خلال ولاية ترامب الثانية والذي يرفع شعار "أمريكا أولًا" أحد الدوافع الرئيسية لإعادة التموضع الإستراتيجي في الشرق الأوسط، إذ تسعى الولايات المتحدة إلى الحد من النفوذين الصيني والروسي في الإقليم، لا سيما أن التوجهات الأمريكية تعتبر الصين مصدرًا للتهديد الإستراتيجي لأمريكا يجب التعاطى معه بجديد برغم ما يتردد من مقولات التعاون التنافسي أو صعوبة فك الارتباط بين الاقتصادين الصيني والأمريكي.
في السياق نفسه، تسعى الولايات المتحدة لتقليم أظافر الدب الروسي ومنع تمدده على الساحة الدولية ومنها إقليم الشرق الأوسط الذي ترتبط تفاعلاته بتوازن القوى الدولي، لذلك أرجعت بعض التحليلات أن الاستدراج الأمريكي لروسيا فى المستنقع الأوكرانى يصب في مواجهة ذلك النفوذ الروسي المتنامي، ويعرقل تحول العلاقات الاقتصادية الروسية الأوروبية التي تشكَّلت عبر إمداد روسيا لأوروبا بخطي الغاز "نورد ستريم 1و2" عبر ألمانيا، ويعيد أوروبا لتبقى أسيرة للمظلة الأمنية الأمريكية.
مجمل القول: تشكِّل إعادة التموضع الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط وعودة الوجود والانتشار في المنطقة بطرق وأشكال مختلفة جزءًا من إعادة توزيع فائض القوة الأمريكية في مناطق النفوذ والصراع حول العالم، كما يقوم ذلك بالأساس على الحفاظ على المصالح الأمريكية عبر أقاليم العالم المختلفة، ومن بينها الحفاظ على أمن إسرائيل في إقليم الشرق الأوسط من خلال مواجهة التهديدات التي تشكِّل تحديًا لبقائها.