انعقدت العديد من مؤتمرات إعادة الإعمار خلال العقود الأخيرة، التي حدثت كرد فعل لأوجه الدمار التي أصابت بعض الدول العربية، سواء بسبب نزاعات مسلحة أو حروب أو كوارث طبيعية، في محاولة لحشد الموارد المالية وتنسيق الجهود لإعادة بناء ما تم هدمه، وخرجت هذه المؤتمرات بالعديد من آليات إعادة الإعمار، وهو ما طرح تساؤلًا حول مدى تحقيق هذه المؤتمرات لمُخرجاتها على مدار السنوات التي أعقبتها، حتى يُمكن الحكم على مؤتمرات إعادة الإعمار المُقترح عقدها، خلال الفترات المقبلة.
وتأسيسًا على ما سبق يحاول هذا التحليل التعرف على مدى نجاح مؤتمرات إعادة الإعمار السابقة، والكشف عن الفجوة بين حجم التعهدات التي تعلن في تلك المؤتمرات وبين ما يتم تنفيذه على أرض الواقع.
خلفية المؤتمرات
يُمكن توضيح نماذج من مؤتمرات إعادة الإعمار من خلال النقاط التالية:
(-) مؤتمرات إعادة إعمار ليبيا: انعقد عدد من مؤتمرات إعادة إعمار ليبيا، إذ عُقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار مدينة درنة الليبية، نوفمبر 2023، بعد الفيضانات التي ضربتها، التي دمرت أكثر من 25% من المدينة، بمشاركة 126 شركة أجنبية وعربية من أصل 200 شركة وقعت رسميًا على الموقع الخاص للمؤتمر، إضافة إلى 34 منظمة، وكان الهدف الرئيسي لهذا المؤتمر أن تقوم شركات دولية بعملية الإعمار وإعادة الحياة للمدينة.
كما انطلق مؤتمر في مدينة بنغازي، 9 ديسمبر 2024، الذي نظمته وزارة الأشغال العامة بالحكومة الليبية، وناقش دور التمويل غير الربحي في دعم المشروعات الليبية، و5 سبتمبر 2025 انطلق المؤتمر الأول لإعادة إعمار جنوب ليبيا، تحت رعاية صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا.
(-) مؤتمر ات إعادة إعمار العراق: منذ الغزو الأمريكي على العراق، عام 2003، عُقدت العديد من المؤتمرات حول إعادة إعمار العراق، في أكتوبر 2003 عُقد أول مؤتمر للمانحين في العاصمة الإسبانية مدريد، وشارك فيه 70 دولة، إضافة إلى عدد من المنظمات الدولية والحكومية.
وهناك مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق، عام 2018، وكان برئاسة الكويت والعراق والأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوربي، وشارك فيه نحو (2600) شركة من 40 دولة، وكان من أهم أهدافه إعادة بناء ما دمرته الحرب في العراق.
(-) مؤتمر إعادة إعمار سوريا: عام 2013 عُقد المؤتمر الدولي الأول للمانحين حول سوريا الذي استضافته الكويت، وشارك فيه 59 دولة إلى جانب عدة وكالات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية، وكان يهدف إلى جمع 1.5 مليار دولار لصالح المدنيين السوريين النازحين، الذي كان يُقدر عددهم بنحو خمسة ملايين نسمة.
وفي عام 2014، انعقد المؤتمر الثاني بمشاركة 69 دولة و24 منظمة دولية، وتبرع أمير الكويت بنحو 500 مليون دولار، خلال المؤتمر، إضافة إلى ذلك حصد المؤتمر الدولي الثالث الذي عُقد أيضًا في الكويت نحو 3.8 مليار دولار.
ويوليو 2025، عُقد المؤتمر الوزاري التاسع الذي يُنظمه الاتحاد الأوربي ببروكسل، لإعادة إعمار سوريا، وخلال هذا المؤتمر أكدت مصر دعمها الكامل لتطلعات الشعب السوري في السلام، وأن عملية إعادة الإعمار ليست مجرد إعادة بناء للبنية التحتية، بل استعادة للكرامة والأمل.
(-) مؤتمرات إعادة إعمار السودان: تعددت مؤتمرات إعادة إعمار السودان، وفي عام 2010 عُقد المؤتمر الدولي للمانحين والمستثمرين لشرق السودان، الذي خرج بتعهدات تُقدر بنحو 3.5 مليار دولار، لإعادة إعمار شرق السودان، وبعد الحرب الأهلية، أبريل 2023، عُقد 10 مؤتمرات حول إعادة بناء السودان المُستدام.
(-) مؤتمرات إعادة إعمار غزة: يُعاني قطاع غزة من التدمير الكبير، بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة عليه، وهو ما دفع إلى انعقاد العديد من مؤتمرات إعادة الإعمار حوله، في عام 2014 عُقد مؤتمر إعادة إعمار غزة تحت رئاسة مشتركة لمصر والنرويج، وبمشاركة نحو 50 دولة عربية وأجنبية و20 منظمة إقليمية دولية، إضافة إلى ذلك تعتزم مصر استضافة مؤتمر دولي بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق نار.
حدود النجاح
يُمكن التعرف على حدود نجاح مؤتمرات إعادة الإعمار من خلال المؤشرات التالية، التي تتلخص في الجدول (1):
(-) المؤشرات التمويلية: يهتم هذا المؤشر بحجم التعهدات المالية مقارنة بالاحتياجات الفعلية، ونسبة الأموال التي تم صرفها فعليًا من التعهدات، وبالنسبة لمؤتمرات إعادة إعمار العراق فقد كان الأمر بعيدًا عن الأضرار التي أصابت الدولة بعد كل من الحرب الأمريكية وداعش، ففي الأولى تكلف الاقتصاد العراقي نحو 100 مليار دولار، وبين الأعوام 2003 و2011 خسر القطاع النفطي 493 مليار دولار، وفي ضوء هذه التقديرات يتضح أن تعهدات المانحين التي بلغت نحو 33.24 مليار دولار، خلال مؤتمرات إعادة الاعمار لا تفي بمتطلبات الاقتصاد العراقي.
وفي مؤتمرات إعادة إعمار سوريا كان حجم التعهدات أقل من حجم الاحتياجات، ففي المؤتمر الثاني للمانحين حول سوريا، كان المجتمع الدولي يعول على جمع نحو 6 مليارات دولار، لكن لم يصل حجم التعهدات في هذا المؤتمر إلى أكثر من 2.4 مليار دولار، وفي عام 2025 انخفض إجمالي تعهدات المانحين بنسبة 20% مقارنة بعام 2024، وهو الحال في السودان فقد تم رصد نحو 9.7 مليار دولار من عام 2005 إلى 2023، ولم يصل جزء كبير منها إلى السودان، إضافة إلى ذلك ينخفض هذا الرقم بشكل كبير عن خسائر الاقتصاد السوداني التي تُقدر بنحو 600 مليار دولار.
وفي ليبيا قامت الشركات المصرية بالوفاء بتعهداتها في إعادة إعمار مدينة درنة، خاصة في إعادة بناء الجسور والكباري، وتذهب التقديرات إلى أن الشركات المصرية نفذت مشروعات تتجاوز 5 مليارات دولار في إعادة إعمار ليبيا.
(-) المؤشرات الدبلوماسية: تهتم هذه المؤشرات بمدى التوافق السياسي بين الأطراف المُشاركة حول أولويات الإعمار، ومدى ربط التمويل بشروط سياسية أو إصلاحية تُقيد التنفيذ، وفي إطار مؤتمرات إعادة الإعمار المختلفة التي تم ذكرها، يُمكن القول إن مؤتمر إعادة إعمار مدينة درنة الليبية ارتبطت تعهدات الشركات العالمية فيه بالعديد من المصالح السياسية والاقتصادية على الأراضي الليبية.
وفي مؤتمرات إعادة إعمار العراق لم تُشارك الولايات المتحدة في عمليات إعادة الإعمار على الرغم أنها سبب الانهيار الاقتصادي، وفي السودان يزداد الأمر سوءًا، بسبب وجود العديد من المصالح السياسية الدولية، وفي قطاع غزة تسهم هذه المؤشرات في صعوبة تحقيق عمليات إعادة الإعمار، بسبب الهجوم العنيف من الاحتلال الإسرائيلي.
(-) المؤشرات التنفيذية: تُعتبر هذه المؤشرات من أهم الدلائل على نجاح مؤتمرات إعادة الإعمار، التي تتمثل في سرعة الانتقال من التعهدات إلى مشروعات على أرض الواقع، ومدى شمولية المشروعات (بنية تحتية، خدمات صحية وتعليمية، إسكان)، فضلًا عن استدامة المشروعات، بمعنى "هل تم الاكتفاء بالحلول المؤقتة أم حلول طويلة الأمد؟".
وفي مؤتمرات إعادة إعمار العراق لم يكن هناك وفاء بالعديد من الوعود التي قطعها المانحون على أنفسهم، و18 يوليو 2005 انتقد الوفد العراقي في مؤتمر الجهات المانحة للعراق بالأردن عدم التزام الدول المانحة بتعهداتها.
وفي مؤتمرات إعادة إعمار سوريا لم تتحقق تقدمات ملحوظة على أرض الواقع مع كثرة المؤتمرات حول هذا الإطار، وهو ما يوضح أن تنفيذ التعهدات لم يكن بنفس قوة التصريحات، وينطبق هذا الوضع على السودان بشكل كبير للغاية.
(-) المؤشرات الاقتصادية: إن تحسُن مؤشرات الاقتصاد المحلي من نمو واستثمار وفرص عمل، تُعد دليلًا كبيرًا على نجاح مؤتمرات إعادة الإعمار، والعكس صحيح، وبقياس ذلك على الاقتصاد العراقي والليبي والسوري والسوداني، يتضح من الشكل (1) أن الاقتصاد الليبي أكثر الاقتصادات التي تعافت، فقد سجل التضخم بها 2.1%، مقارنة بـ81% في السودان، و15.87% في سوريا، وهي الدولة التي حققت فائضًا حكوميًا قدره 7.5%، في حين حققت الدول الأخرى عجزًا، بنسبة أكبر في سوريا (21-%)، على الرغم أنها من الدول التي انعقدت لها العديد من مؤتمرات إعادة الإعمار.
وفي ضوء هذه الأرقام يُمكن القول إن مؤتمرات إعادة الإعمار، التي استهدفت إحياء اقتصاديات الدول المنهارة من الحروب والأزمات لم تُحقق الهدف النهائي المنشود لها، وهو إخراجها من حالة اقتصاد الحرب، التي تنهار فيها معظم المؤشرات الاقتصادية.
(-) المؤشرات الزمنية: يتوقف نجاح مؤتمرات إعادة الإعمار على مدى التزام الأطراف بالجدول الزمني للتنفيذ، والفجوة بين وعود المؤتمر والإنجاز على المدى القصير والمتوسط، وبالتعرف على مدى تحقق ذلك في مؤتمرات إعادة الإعمار حول سوريا وليبيا والعراق والسودان وغزة، يُمكن القول إن الانتقاد الرئيسي الذي يُقدم لهذه المؤتمرات أنها لم تلتزم بجدول زمني مُحدد لعمليات إعادة الإعمار، فالآليات التنفيذية لم تتحدد بشكل تفصيلي، وهو الأمر الذي أضعف تأثيرها على أرض الواقع.
وفي النهاية يُمكن القول إن مؤتمرات إعادة الإعمار تُعد أداة مهمة لحشد الدعم الدولي وتوجيه الاهتمام إلى الدول والمناطق المتضررة، غير أن حدود نجاحها تبقى رهنًا بمجموعة من العوامل المعقدة، فالتعهدات المالية الضخمة، لا تعني بالضرورة ترجمتها إلى واقع ملموس، ما لم تصاحبها آليات واضحة للتمويل والتنفيذ، وإرادة سياسية جادة، للتغلُب على العقبات.
كما إن غياب التنسيق بين الأطراف المانحة، أو ربط المساعدات بشروط سياسية، قد يُقلل من فعالية تلك المؤتمرات ويؤخر تحقيق أهدافها، وبالتالي فإن تقيين نجاح أي مؤتمر لإعادة الإعمار لا ينبغي أن يتوقف عند حجم المشاركة أو قيمة التعهدات، بل عند قدرة هذه المخرجات على إحداث تغيير حقيقي في مسار التنمية والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على المدى الطويل، وهو ما يتطلب تحقيقه في مؤتمرات إعادة الإعمار المستقبلية، خاصة مؤتمر إعادة إعمار غزة.