عام كامل مرّ على أحداث 7 أكتوبر على سكان قطاع غزة كأنه بمئات الأعوام والسنين، تحولت الحياة إلى جحيم مُطلق، بعد عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يمكن وصفه إلا أنه إبادة جماعية ممنهجة للشعب الفلسطيني تحت أعين المجتمع الدولي.
بمزيج من الألم والحزن، تحدث عدد من أهالي غزة، إلى موقع "القاهرة الإخبارية" في ذكرى مرور عام على العدوان السافر على القطاع المُحاصر، الذي خلف أكثر من 42 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 120 ألف مصاب وجريح.
سرد الغزاويون ما تعرضوا له من بطش وتهجير وعنف، في كلمات تعجز عن وصف الواقع الأليم والوضع الكارثي الذي يمرون به جراء القصف الإسرائيلي المتواصل يوميًا والمجازر التي ترتكب بحق المدنيين العزل في القطاع وسط صمت مطبق من المجتمع الدولي.
5 % من الحقيقة
وصف عدي فضل، وهو نازح في منطقة بحر القرارة جنوب غزة، ما يكابدونه بـ"الكابوس"، وقال: "مفيش طعم حتى للحياة التي صارت اليوم أشبه بالمستحيل، ونعيش وضعًا لا يستطيع بشر تحمله".
وأضاف: "نمر بظروف حتى الكلام نفسه ما يقدر يعبر عن اللي واصلنا له من حالة نفسية وجسدية، كل ما سأرويه وأحكيه لا يمثل 5% من الحقيقة التي نعيشها ونمر بها".
أما فضل (27 عامًا)، والذي كان يعمل مختصًا في إدارة المواقع الإلكترونية في إحدى الشركات قبل الحرب، والتي حولها قصف الاحتلال الإسرائيلي إلى أنقاض، فحكى لموقع "القاهرة الإخبارية": "قبل الحرب كنت أستيقظ وأذهب لعملي ومن ثم أعود إلى منزلي، اليوم تغير كل شيء، نستيقظ مسرعين حتى نصطف في طابور طويل للحصول على المياه المالحة، ننتهى منه لنتجه إلى طابور آخر حيث المياه الصالحة للشرب، ومن ثم نذهب إلى دورنا في التكية للحصول على طعام، إذا توفر، لينتهي بنا الحال ونحن منتظرين في طابور المياه الصالحة للاستهلاك من جديد، بسبب الاحتياج الكبير اليومي لها."
وأضاف: "تضيع حياتنا اليومية في غزة ما بين طابور مياه مالحة، وطابور مياه صالحة، وطابور تكيّة، طابور البحث عن طعام، وطابور الدخول إلى دورات المياه وهذا أسوأ شيء ممكن لشخص أن يتخيله"، بحسب قوله لموقع "القاهرة الإخبارية".
وقال فضل المكونة أسرته من 6 أفراد: "قبل الحرب كنّا إذا شعرنا بالمرض نذهب إلى المستشفى ونتلقى العلاج، يروح، أما اليوم إذا تعب أحدهم فلا يستطيع الذهاب إلى أي مكان، إذ بات لا يوجد نظام صحي من الأساس".
عن أصعب المشاهد التي لا تزال عالقة في ذهنه، سرد فضل: "أكثر لحظة رعب عندما حاصرتنا قوات الاحتلال الإسرائيلي بمركز إيواء تابع للأونروا في خان يونس، كان كل خوفي على عائلتي، كنت لا أريد أن أفقد أحدهم أمام عيني، جازفت وخرجت بهم من المركز رغم الخطر الكبير، كان الموت يلاحقنا، وكنت أنظر لأمي وأختي اللتين انتابهما الرعب وهما تحاولان الاحتماء بي لكنني لا أستطيع أن أفعل أي شيء".
وأكمل: "هذا مشهد واحد من مشاهد كثيرة مؤلمة في الحرب، لكن الأكثر ألمًا هو أن ترى الناس يموتون أمام عينك، ولا تستطيع فعل شيء لهم، لا تستطيع حتى مساعدة من أصيب وظل منهم على قيد الحياة".
جحيم النزوح
في وسط هذا الدمار وآلة القتل الإسرائيلية التي لا تتوقف عن تدمير كل ما يقع تحت طائلتها، استهدافات للمدارس والجامعات والمستشفيات، وأيضًا للإعلاميين والصحفيين الذين يحاولون نقل الصورة والحقيقة للعالم..
محمود عماد، وهو صحفي يعيش مع أهله في غزة، تحدث إلى موقع "القاهرة الإخبارية"، قائلًا "عشت الحرب بغزة زي الناس.. خوف وقلق على الأهل من ناحية وعلى حالي من ناحية أخرى، كون طبيعة عملي كصحفي محفوف بالمخاطر".
وتابع، عماد، (34 عامًا): "اضطررت بعد أول أسبوع من الحرب وبعد التهديدات لمكان السكن بالنزوح مع عائلتي للمناطق الجنوبية من قطاع غزة واستكملت عملي وكنت أرى عائلتي مرة واحدة كل أسبوعين."
وأضاف: "وبعد ذلك، عشنا بحياة النزوح ننتقل من منطقة لأخرى كل عدة أشهر؛ بسبب تعدد أماكن التهديدات والقصف والاجتياح البري، وحتى أمس الظهر اضطررت لنقل عائلتي من المكان الذي يتواجدون فيه حيث ازدادت المخاطر، إلى مكان آخر".
وحكى عماد: "فقدت على مدار عام من العدوان على غزة ما بين 30 إلى 40 شخصًا من عائلتي".
وأضاف: "هذا بالطبع غير المفقودين، الذين لا نعلم إن كانوا معتقلين لدى جيش الاحتلال أم هم شهداء دفنوا تحت الأنقاض، ولم نتمكن حتى الآن من الوصول لجثثهم".
وقال: "في يوم كنت عندهم وصار قصف جنبنا، وبقيت بشوفهم قدامي والخوف في عينيهم وحاسس كأنه آخر مرة بشوفهم ولا قادر أعملهم حاجة".
وتابع: "الإحساس بالعجز وقتها بيكون صعبًا جدًا، وبتتمنى لو كل هالشيء بيحصل معاك أنت بس ومتشوفش حد منهم بالموقف هاد، لكن هي بقت كده حياتنا وبنحاول نتعايش معها بكل الظروف."
وروى عماد: "أصعب مشهد علق بذاكرتي عندما قطعت الاتصالات والإنترنت بالمكان الذي كان تتواجد به عائلتي، حينها كنت بعملي، ففي كل مرة يقع قصف أتوجه مسرعًا إلى عربات الإسعاف، كي أرى هل تحمل أحدًا من عائلتي أم لا".
وأضاف: "شعرت برعب فظيع وتوتر عالي، وبلحظة لمحت والدي يأتي من بعيد يملأه الرعب.. كان يريد أن يطمئن عليّ، وكذلك يطمئنني أن أفراد عائلتي بخير، حيث لم تكن هناك أي وسيلة تواصل متاحة إطلاقًا".
وذكر عماد، أنه على مدار عام، شكل نقص المياه العائق الأكبر "حيث يتم إحضارها ونقلها إلى المكان الذي نتواجد به بصعوبة شديدة، فضلًا عن اضطرارنا إلى تقنين الاستهلاك للضرورة القصوى، حتى إنه كان يمر أسبوع دون استحمام، وهذا الأمر خارج عن إرادتنا، حيث شح المياه الشديد وبرودتها إن وجدت."
وعن الطعام، قال عماد "نعاني الشح الشديد للمواد الغذائية منذ بداية النزوح، كان مفقودًا للغاية لدرجة أننا نشتري الخبز بعشرة أضعاف ثمنه، فضلًا عن كونه غير صالح للاستهلاك أو بعبارة أخرى يكون الخبز معجونًا بالرمل، إلا أننا لا سعينا سوى أكله، وإلا نموت من الجوع."
لا طفولة ولا حياة
ووصفت السيدة سارة أبو طعيمة (34 عامًا) وهي أم لـ4 أطفال تتراوح أعمارهم بين 13 عامًا وعامين ونصف، الحرب على غزة، قائلة: "365 لم يتغير أي يوم منهم عن اليوم السابق له سوى زيادة معاناة، من ناحية البحث عن الماء وطوابيرها، إلى جانب طوابير الفرن حتى نحصل على الخبز، فضلًا عن مرارة إشعال النيران لكي نطهي الطعام إن وجد".
وروت أبو طعيمة المتواجدة في منطقة المواصي في خان يونس فيما يسمى بالمنطقة الإنسانية لموقع "القاهرة الإخبارية": "تتكرر الوجبة نفسها على مدار الأسبوع، أوقات تكون فاصوليا وأحيانا أرز أو برغل وأخرى بازلاء أو مكرونة إذا وجدت، فإذا كان ابني غير متعب من وقوفه في طابور المياه، واستطاع إحضارها مبكرًا، فهو يذهب للوقوف في طابور التكية حتى يوفر لنا وجبة الغداء".
وحكت سارة أبو طعيمة عن أصعب لحظة مرت عليها خلال هذا العام، وقالت إن تلك اللحظة كانت في ليلة 23 مارس الماضي، حين كانت متواجدة بمنطقة إنسانية، مضيفة أنه بدون سابق إنذار أو أوامر إخلاء وفجأة دخلت الدبابات وتقدمت وبدأت في إطلاق النار والقذائف عليهم.
وأكملت: "كانت تلك الليلة في شهر رمضان، وكان الوقت قرابة الخامسة فجرًا بعد السحور، ولم يكن زوجي معي كان عند أهله لأنه يمر علينا من وقت لآخر، لم أعرف ماذا أفعل وأنا بخيمتي مع أولادي الصغار، احتضنت أولادي وقلت الشهادة معهم، حتى سمعت جيران لي ينادون علينا أن نأتي معهم لنجلس، استمرت الدبابات والجرافات حتى الثامنة صباحًا وهي تطلق الرصاص علينا".
واختتمت أبو طعيمة قائلة: "قد ما نحكي وقد ما نقول ما راح يفيد الحكي، أنا بس بتمنى ترجع حياتنا لما قبل 7 أكتوبر، نقدر ننام مرتاحين البال ونقدر نطمن أن أولادي رايحين المدرسة وبياخذوا كافة حقوقهم كأطفال".
وقال براء قديح، لموقع "القاهرة الإخبارية": "اتبهدلنا، كل يوم من نزوح لنزوح، إذا ذهبنا إلى أي منطقة يرمون منشورات إخلاء، وماذا نفعل؟ بنخلي المنطقة، إحنا تقريبًا سنة كاملة بالخيمة".
وذكر قديح (18 عامًا) وهو طالب حرم من التعليم إثر الحرب: "نستيقظ في الخيمة من الساعة 5 صباحًا، ننتظر سيارة المياه الصالحة للشرب المجانية، وبعدها نطلع على التكيات حتى يأتي دورنا ونأخذ حصة طعام"، مضيفًا: "تبهدلنا، نظل بالأيام دون مياه شرب".
وروى قديح الذي يتواجد حاليًا في منطقة المواصي في خان يونس، أنه خلال عام الحرب، مر بأصعب 3 ليال في عبسان الكبيرة شرق خان يونس، وكانت أشدها قسوة تلك التي حوصر فيها بحزام ناري، استمر حوالي 6 ساعات، حيث استشهد على إثره 30 شهيدًا، أما هو والعائلة المكونة من 6 أفراد فاستطاعوا الهروب بأعجوبة.
وأشار قديح خلال حديثه مع موقع "القاهرة الإخبارية" إلى الطفل محمد صابر قديح، الذي لا يتخطى عمره8 سنوات، والذي بات يتيمًا بعدما فقد كل عائلته إثر الحرب، وقال "ماذا عن حقوق الإنسان وأين دور الجمعيات تجاه هذا الطفل؟، لا أحد يعترف به ولا أحد يبحث عنه، أريد أن يصل صوتي إلى العالم".
وبغضب يمتزج بالحزن قال قديح: "قررت عندما تنتهي الحرب وبمجرد أن أجد أي فرصة للسفر، فسوف أفعل، سأغادر غزة دون رجعة لها"، وأضاف: "أريد أن يتكفل أحد بي أنا وعائلتي، نحن ضائعون نعيش دون طعام وشراب، يقتلنا القصف والجوع على حدٍ سواءٍ".