جاء تكليف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الخامس من سبتمبر 2024، لميشيل بارنييه بتشكيل الحكومة الجديدة، ليطرح عدة تساؤلات، هي: ما مدى قدرة "بارنييه" على التوفيق بين التيارات المتعارضة والمتنافسة على مستقبل فرنسا؟، ما حدود الاتفاق بين القوى الوازنة في البرلمان وقدرتها على تشكيل الحكومة ومنحها الثقة؟
يذكر أن ميشيل بارنييه، المكلف بتشكيل الحكومة الفرنسية، - عضو في حزب الجمهوريين - بدأ حياته السياسية في السبعينيات من القرن الماضي، وشغل العديد من المناصب الوزرارية في عهد الرؤساء السابقين فرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي، منها مناصب: وزير البيئة (1993-1995)، ووزير فرنسا لأوروبا (1995-1997)، ووزير الخارجية (2004-2005)، ووزير الزراعة (2007-2009)، كما شغل منصب مفوض السياسة الإقليمية للاتحاد الأوروبي (1999-2004). وفي عام 2016 تم تعيينه مفوضًا للاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد الاستفتاء على الخروج البريطاني فيما عرف بـ"بريكست"، وفي عام 2021 أعلن نيته الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية أمام إيمانويل ماكرون، إلا أنه لم يحصل على الدعم الكافي داخل حزبه لخوض الانتخابات التي جرت في 2022.
اتجاهات متباينة
تبايت ردود فعل القوى السياسية الفرنسية على اختيار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لميشيل بارنييه وتكليفه بتشكيل الحكومة الفرنسية القادمة، إذ تشكل اتجاهان رئيسيان في الداخل الفرنسي، الأول الاتجاه الرافض لاختيار بارنييه لتشكيل الحكومة، ويتبنى هذا الاتجاه تيار اليسار، الذي فاز بالمركز الأول في الانتخابات البرلمانية المبكرة بعد حل ماكرون للجمعية الوطنية الفرنسية "البرلمان الفرنسي"، ضمن ائتلاف الجبهة الوطنية التي ضمت أحزاب اليسار والخضر والاشتراكيين والشيوعيين على 190 مقعدًا من مقاعد البرلمان التي تقدر بـ577 مقعدًا، لذلك طالب قادة الجبهة بتكليف رئيس وزراء من أعضائها لتشكيل الحكوم الجديدة، بل طالبت أحزاب ومنظمات يسارية التظاهر ضد الاختيار، إذ شهدت العديد من المدن الفرنسية خروج آلاف الأشخاص، 7 سبتمبر 2024، للاحتجاج على سياسة الرئيس إيمانويل ماكرون، وقرار تعيين ميشيل بارنييه المنتمي إلى تيار يمين الوسط ، كما اتهمت أحزاب يسارية ماكرون بسرقة الانتخابات، وعدم الالتزام بالممارسة الديمقراطية والتقاليد الانتخابية يتجاهله نتائج تلك الانتخابات وتكليفه لبارنييه، الذي حل حزبه في المرتبة الخامسة بعدد مقاعد أقل من 50 مقعدًا.
أما الاتجاه الثاني فإنه يتمثل في تأييد الاختيار وينتمي إلى الاتجاه أحزاب الوسط، التي خاضت الانتخابات البرلمانية وحصلت على المركز الثاني بـ163 مقعدًا، وضم الأحزاب الثلاثة الداعمة للرئيس ماكرون، هي: "تجدد، الحركة الديمقراطية، وهورايزون"، وبالتالي فإن القاعدة لداعمة لبارنييه تتشكل من تكتل الوسط، واليمين الجمهوري الذي حاز على 47 مقعدًا، وبالتالي فإن تلك القاعدة تمكنه من حيازة ثقة البرلمان، إذ تقدر الأغلبية البرلمانية بـ289 من إجمالي عدد مقاعد البرلمان الفرنسي. كما قدم حزب التجمع الوطني موافقته الضمنية على بارنييه، مشيرًا إلى وجود مجموعة من الشروط حتى لا يدعم إجراء تصويت بحجب الثقة وهو ما عبّر عنه جوردتن بارديلا، زعيم الحزب، "إنه رئيس وزراء تحت الملاحظة، ولا يمكن فعل شيء من دوننا".
أولويات بارنييه
طرح رئيس الوزراء المكلف رؤيته وأولويات حكومته، التي من المفترض أن تحوز على ثقة البرلمان الفرنسي قبل ممارسة مهامها، لذلك يمكن الإشارة إلى أهم تلك الأولويات على النحو التالي:
(*) ملف الهجرة: يشكل ملف الهجرة من القضايا المعقدة في فرنسا، نظرًا لتشابكه من الناحية الاجتماعية، فضلًا عن الرؤية المتطرفة للأحزاب اليمينية التي تتبنى توجهات عنصرية إزاء هذا الملف، ونظرًا لحلول حزب التجمع اليميني المتطرف في المرتبة الثالثة بالانتخابات وارتفاع عدد أعضائه في البرلمان، فإن ذلك الملف أضحى من أولويات حكومة بارنييه المقبلة، فوفقًا لما نقلته صحيفة لوموند الفرنسية في حوارها مع بارنييه، عقب تكليفه بتشكيل الحكومة أكد أنه يجب السيطرة على تدفقات الهجرة من خلال إجراءات ملموسة وفعالة.
(*) إصلاح نظام التقاعد: أثار نظام التقاعد الذي أقره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، باستخدام صلاحياته الدستورية، عام 2023، بعيدًا عن إقراره من قبل البرلمان العديد من الانتقادات داخل فرنسا، بما أدى إلى خروج مظاهرات حاشدة في أنحاء متفرقة من فرنسا، للمطالبة برفض هذا القانون الذي رفع سن الخروج إلى المعاش بهدف ضبط موازنة التقاعد. لذلك تطرق بارنييه إلى هذه الملف بالقول إنه يريد فتح النقاش من أجل تحسين قانون التقاعد الحالي للأشخاص الأكثر ضعفًا، من خلال الحوار مع الشركاء الاجتماعيين، وهو الأمر الذي ربما يمنح حكومة بارنييه حال قيامه بذلك نوعًا من ثقة الشارع الفرنسي الذي لطالما طالب بتعديل القانون، ويعزز من ذلك التوجه ما يشير إليه بعض المحللين بأن بارنييه على عكس نخب باريس يدرك اتجاهات الرأي العام في المجتمعات المحلية، كما أنه يجيد فنون المفاوضات، وإذا كان على المستوى الثقافي شديد المحافظة فإنه يؤمن بأهمية السياسات الاجتماعية.
(*) العلاقة مع أوروبا: على الرغم من أن بارنييه تولى وأشرف على ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وهو ما يعرف بالبريكسيت، إلا أنه يدعم السياسة الأوروبية لفرنسا، وربما يعزز ذلك من رؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعمة لاستقلال أوروبا، فقد سبق وأن طالب بتشكيل جيش أوروبي مستقل بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، بعد أن وصف حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنه يعاني من موت دماغي في إشارة لعدم فعالية الحلف في الحفاظ على الأمن الأوروبي، وتواجه أوروبا العديد من التحديات بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية دفعت بالعديد من الدول الأوروبية نحو مضاعفة موازناتها العسكرية.
مجمل القول، يواجه اختيار ميشيل بارنييه لرئاسة الحكومة الفرنسية الجديدة العديد من التحديات، منها ما يرتبط بجهوده لحصول الحكومة على ثقة البرلمان في ذلك غياب قوى سياسية لديها الأغلبية البرلمانية بعد أن فشلت كل القوى التى خاضت الانتخابات البرلمانية المبكرة في حيازة الأغلبية البرلمانية التي تقدر بـ289 مقعدًا، فضلًا عن التحديات المرتبطة بالبرنامج الانتخابي وكيفية معالجته للأزمات الاقتصادية والمالية التي تواجه فرنسا في ظل اختلاف الرؤى الحزبية للتعامل مع ذلك الخلل الاقتصادي، بما جعل قوى سياسية تتطالب بالعودة إلى الشارع وهو ما سيعمق من محنة فرنسا الاقتصادية.