تشكّل الدبلوماسية الرئاسية أحد مرتكزات التعاون والتقارب المصري التركي، فالمصافحة التاريخية بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس التركى رجب طيب أردوغان خلال مشاركتهما في افتتاح كأس العالم لكرة القدم بقطر في 21 نوفمبر 2022، نقطة تحول مفصلية نحو انتقال العلاقات بين الجانبين، من القطيعة السياسية إلى بدء مرحلة جديدة من التعاون والتقارب التى سبقتها مباحثات استكشافية حول أبعاد ومجالات ذلك التعاون.
ثم ما تلي ذلك من لقاءات على مستوى القمة بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوعان، ومنها لقاءهما على هامش قمة نيودلهي بالهند في 10 سبتمبر 2023، والتأكيد على تعزيز التعاون الإقليمي كنهج استراتيجي، ولقاءهما أيضًا على هامش القمة العربية الإسلامية الاستثنائية التي انعقدت بالرياض في 11 نوفمبر 2023 والتوافق على ضرورة توقف العدوان الإسرائيلي على غزة.
لتكلل تلك المساعى بزيارة الرئيس أردوغان وقرينته إلى مصر فى 14 فبراير 2024، ليتم الإعلان عن إعادة تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين الدولتين، وتتوج جهود التقارب بزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تركيا فى الرابع من سبتمبر 2024، ليترأس الرئيسان السيسي وأردوغان الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي، بما جعل الزيارة تعكس تجسيد التعاون الثنائي بين قوتين إقليميتين لهما مصالح استراتيجية مشتركة في ظل تحديات ماثلة تواجه إقليم الشرق الأوسط المضطرب.
آلية مؤثرة
على الرغم من أن التعاون الاقتصادي المصري التركي لم يتأثر بالقطيعة السياسية، إلا أن توظيف الدبلوماسية الرئاسية كان له دوره المؤثر فى تسريع عودة العلاقات السياسية، ومنها رفع درجة التمثيل الدبلوماسي منذ يوليو 2023 إلى درجة تبادل السفراء. وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على تعزيز المجالات الأخرى. لذلك يمكن الإشارة إلى أبرز محطات الدبلوماسية الرئاسية في مسيرة العلاقات المصرية التركية على النحو التالي:
(*) المصافحة التاريخية: مثّلت المصافحة التاريخية بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال مشاركتهما في افتتاح مونديال كرة القدم فى قطر 21 نوفمبر 2022، نقطة الانطلاق لبدء تعزيز مسار الدبلوماسية الرئاسية للتقريب بين الدولتين، بعد قطيعة سياسية استمرت لما يقرب من 10 سنوات. لذلك تم التأكيد على عُمق الروابط التاريخية التي تربط البلدين والشعبين المصري والتركي، كما تم التوافق على أن تكون تلك بداية لتطوير العلاقات بين الجانبين.
(*) تعزيز التعاون الإقليمي: تنوعت لقاءات القمة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مشاركتهما فى الفعاليات الدولية والإقليمية. حيث التقى الرئيسان على هامش قمة مجموعة العشرين بمدينة نيودلهي بالهند فى 10 سبتمبر 2023، وتوافقا على الانطلاق لدفع مسار العلاقات بين البلدين نحو الحرص على المصلحة المشتركة والنوايا الصادقة، بما يسهم في صون الأمن والاستقرار في منطقة شرق المتوسط.
كما التقى الرئيسان السيسي وأردوغان على هامش القمة العربية الإسلامية الاستثنائية الطارئة بالرياض فى 11 نوفمبر 2023، الذي تناول سُبل مواصلة تعزيز العلاقات الثنائية بين الدولتين في مختلف المجالات، فضلًا عن استمرار الخطوات المتبادلة والبناء على التقدم الملموس في سبيل تفعيل آليات التعاون الثنائي. كما تم التوافق، وفق بيان المتحدث باسم الرئاسة المصرية، على الوقف الفوري للقصف المستمر والعمليات العسكرية في قطاع غزة لتجنب تعريض المدنيين لمزيد من المخاطر وإزهاق الأرواح، وذلك للحيلولة دون المزيد من تردي الأوضاع الانسانية لأهالي قطاع غزة، مع استمرار الدور المصري الجوهري في إنفاذ المساعدات الإنسانية لأهالي غزة، وتضافر الجهود الدولية للدفع نحو تطبيق حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
(*) التضامن خلال الكوارث الطبيعية: شكّلت دبلوماسية الاتصالات الهاتفية إحدى ركائز الدبلوماسية الرئاسية، التي جسّدها التضامن المصري مع تركيا عقب الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا في مناطق شاسعة بالجنوب، ما أدى إلى مقتل 50 ألف شخص من 11 محافظة تركية، وتسبب في تضرر نحو 14 مليون شخص، وأدى إلى انهيار 214 ألف مبنى.
إذ أجرى الرئيس السيسي اتصالًا هاتفيًا بالرئيس التركي في 7 فبراير 2014، وذلك لتقديم التعازي والمواساة في ضحايا الزلزال المدمر، مؤكدًا تضامنه والشعب المصري مع الشعب التركي الشقيق وتقديم المساعدة والإغاثة الإنسانية لتجاوز آثار هذه الكارثة، وفقًا لبيان المتحدث باسم الرئاسة المصرية. وقد قدّم أردوغان الشكر للرئيس السيسي على هذه المشاعر الطيبة، مشيرًا إلى أنها تؤكد عمق الروابط التاريخية التي تجمع بين الشعبين المصري والتركي الشقيقين.
(*) زيارة أردوغان لمصر: جاءت زيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان وقرينته أمينة أردوغان فى 14 فبراير 2024 إلى مصر، التى تم خلالها التوقيع على الإعلان المشترك حول إعادة تشكيل اجتماعات مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين مصر وتركيا. وهي الزيارة التى وصفها أردوغان بأنها مثلت نقطة تحول فى مسار العلاقات بين البلدين.
(*) زيارة الرئيس السيسي لتركيا: جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تركيا فى 4 سبتمبر 2024، التى تعد الأولى له منذ توليه مقاليد السلطة في يونيو 2014. وأشار بيان المتحدث باسم الرئاسة المصرية إلى أن زيارة الرئيس السيسي التاريخية تمثل محطة جديدة في مسار تعزيز العلاقات وللبناء على زيارة الرئيس التركي أردوغان التاريخية لمصر فبراير الماضي، وتأسيسًا لمرحلة جديدة من الصداقة والتعاون المشترك بين البلدين، سواء ثنائيًا أو على مستوى الإقليم الذى يشهد تحديات جمة تتطلب التشاور والتنسيق بين البلدين.
انعكاسات محتملة
ارتكزت استعادة العلاقات السياسية بين مصر وتركيا على تفعيل الدبلوماسية الرئاسية بينهما بما سيكون لها مردوده المباشر على الملفات الاستراتيجية، التي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
أولها تعزيز التعاون التنموي، إذ يمثل التعاون التنموى بين مصر وتركيا الرافعة الرئيسية لباقى المجالات، فبرغم القطيعة السياسية التي استمرت لما يقرب من 10 سنوات، إلا أن التعاون الاقتصادي لم يتأثر بتقلبات السياسة. لذلك يشكل ترأس الرئيسين (السيسي وأردوغان) للاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، الاتجاه نحو تعزيز ودعم مأسسة التعاون التنموي، الذى يهدف، وفقًا لكلمة الرئيس السيسي خلال المؤتمر الصحفى الذى عقده مع الرئيس التركي أردوغان فى أنقرة فى 4 سبتمبر 2024، إلى إحداث نقلة نوعية في كل المجالات أبرزها التجارة والاستثمار والسياحة والنقل والزراعة.
كما لفت الرئيس السيسي إلى أن التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم يهدف لوضع إطار مؤسسي جديد للتعاون بين مصر وتركيا، وتأكيد أهمية تيسير حركة التجارة البينية وتوسيع نطاق اتفاقية التجارة الحرة بين مصر وتركيا، مشيرًا إلى أنه يجري العمل على زيادة التبادل التجارى بين مصر وتركيا إلى 15 مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة.
ويعتقد العديد من المحللين أن تعزيز المدخل التنموى بين مصر وتركيا ربما ينعكس على منطقة شرق المتوسط، وجعلها منطقة للتعاون بين الدول المتشاطئة لها من خلال توظيف الجهود المصرية للتوفيق بين تركيا من ناحية واليونان وقبرص من ناحية أخرى، بما قد يفضى إلى صيغة تعاونية ما بين منتدى شرق المتوسط وتركيا فى ظل اعتماد تركيا على 90% من احتياجاتها من الطاقة على الاستيراد. لذلك أكد الرئيسان (السيسي وأردوغان) تطلعهما إلى استمرار التهدئة الحالية في منطقة شرق المتوسط والبناء عليها وصولًا إلى تسوية الخلافات القائمة بين الدول المتشاطئة بالمنطقة ليتسنى للجميع التعاون وتعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة بها لتحقيق الرفاهية لشعوب المنطقة.
ثانيها التهدئة الإقليمية، تمثل التهدئة الإقليمية وحلحلة أزمات الإقليم، ومنها أزمات ليبيا وسوريا والسودان، وتوقف الحرب الإسرائيلية على غزة توجهات رئيسية فى السياسة الخارجية المصرية، وهو ما أكده الرئيس السيسي خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع الرئيس أردوغان خلال زيارته إلى تركيا، إذ أشار إلى أن ما تعيشه منطقتنا وعالمنا اليوم من أزمات وتحديات بالغة توضح أهمية التنسيق والتعاون الوثيق بين مصر وتركيا، مضيفًا أنه ناقش مع نظيره التركي سبل التنسيق والعمل معًا للمساهمة في التصدي للأزمات الإقليمية وعلى رأسها معالجة المأساة الإنسانية التي يتعرض لها إخواننا الفلسطينيون في غزة.
كما تم تبادل وجهات النظر حول الأزمة الليبية، والتأكيد على طى صفحة تلك الأزمة الممتدة من خلال عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وخروج القوات الأجنبية غير المشروعة والمرتزقة من البلاد، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة حتى يتسنى لليبيا الشقيقة إنهاء ظاهرة الانقسام وتحقيق الأمن والاستقرار. كما تمت مناقشة تطورات الأوضاع فى سوريا والترحيب بالتقارب مع تركيا، وفى السودان بتأكيد ضرورة الحل السياسي، وكذلك تمت مناقشة الاوضاع في القرن الإفريقي وخاصة الصومال والاتفاق على وحدة الصومال وسلامة أراضيه ضد التهديدات التي تواجهه.
مجمل القول تشكل الدبلوماسية الرئاسية إحدى الآليات المؤثرة التي دعمت التقارب المصري التركي بعد فترة ممتدة من فتور العلاقات السياسية بين البلدين، وذلك من خلال تعزيز إجراءات بناء الثقة، وتشجيع التكامل الاقتصادي ومأسسته من خلال انعقاد الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى خلال زيارة الرئيس السيسي إلى تركيا، التى اعتبرها تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون والتكامل بين البلدين، وهو ما سيكون له مردوده على منطقة شرق المتوسط، والتهدئة لأزمات الإقليم ومشكلاته المعقدة.