على الرغم من العبارات المقتضبة في خطاب تنصيب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الثلاثاء 2 أبريل 2024، التي عُنيت بالسياسة الخارجية، إلا أنها جاءت دقيقة في رسائلها لتشخص تحديات وضغوطات البيئة الخارجية التي أثرت ولا تزال في مسيرة ترسيخ قواعد "الجمهورية الجديدة"، في ضوء التهديدات الأمنية المتفاقمة بالجوار المباشر وتداعياتها على الوضع الاقتصادي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي رؤية الرئيس المصري للتحديات والفرص التي تفرضها البيئة الخارجية، باستعراض ما تناوله خطاب أداء اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة في سياق المنطلقات الفكرية التي أثرت في التوجهات الاستراتيجية المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي.
إشارات ثلاث
منذ ولايته الرئاسية الأولى ألقى الرئيس المصري الضوء على ثقافته الاستراتيجية واطلاعه على إسهامات المفكر الراحل جمال حمدان صاحب موسوعة شخصية مصر، وفي خطابه يوم الثلاثاء 2 أبريل 2024، أكد الرئيس السيسي تلك التوجهات على النحو التالي:
(*) قوة الموقع والمكانة: يظهر إدراك الرئيس المصري لطبيعة وأهمية موقع مصر الاستراتيجي الذي يمنحها أهمية لا غنى عنها في مركز الإقليم في كل من الشرق الأوسط وشرق المتوسط والقرن والإفريقي ويجعلها قبلة الشركاء الإقليميين والدوليين ومسارهم الأكيد في البحث عن حلول لأزمات الجوار ومنع ارتداد تداعياتها إلى مناطق التماس الجغرافي، فمصر كما يقول جمال حمدان "كانت باستمرار قطب قوة وقلب إقليم"، وهو ما أشار إليه الرئيس في إلقاء الضوء دور مصر بالعالم الجديد قيد التشكل باعتباره دور "لا غنى عنه لترسيخ الاستقرار، والأمن، والسلام، والتنمية".
ومن الجدير بالإشارة رؤية الرئيس السيسي لمقومات مصر التي تؤهلها للعب دور فعال على الساحة الدولية في خطاب التنصيب، يونيو 2014، بالقول إنها "نقطة التوازن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وممر عبور تجارة العالم الدولية ومركز الإشعاع الديني في العالم الإسلامي من خلال أزهرها الشريف".
(*) الأمن القومي: إن سياق تعرض الرئيس المصري للبيئة الخارجية بصورة موسعة في جانب التحديات أكثر من وزنها النسبي في جانب أولويات التحرك بالمرحلة المقبلة (1/7)، يظهر ليس فقط جسامة تلك التحديات، وإنما يعكس أيضًا الرؤية الشمولية والمركبة لمفهوم الأمن القومي الذي يستحضر أولويات الشارع المصري كما جاءت في خطاب الرئيس عقب فوزه بالانتخابات، ديسمبر الماضي.
كما أن تحديات البيئة الخارجية بتعدد وحدتها فرضت نفسها على عملية صنع القرار، مع العديد من التحركات الدبلوماسية الاستباقية في بعض الأحيان لتحويل مسار تلك الأزمات وفي مقدمتها جهود توحيد المؤسسات وتحقيق التوافق الوطني بين الفرقاء الليبيين، ومعالجة أزمة السودان على سبيل المثال دون التدخل في الشأن الداخلي السوداني، والجهود المتواصلة لإغاثة أهالي قطاع غزة عبر الانخراط الإيجابي في جهود الوساطة المعقدة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.
ويشير ذلك إلى أن الهدف القومي الأبرز هو تحييد آثار تلك الأزمات وتفكيك التشابكات فيما بينها دون التأثير على مصالح الأمة المصرية، وهو ما أشار إليه الرئيس في كلمات سابقة وآخرها كلمته خلال الاحتفال بيوم الشهيد 9 مارس الماضي، بأن مصر تبذل قدر المستطاع لتكون قوة استقرار في المنطقة مستدلًا بدعم القاهرة للأشقاء في غزة والدور الإيجابي لحل الأزمة السودانية على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي مع الحفاظ على أمن واستقرار مصر، دون "المغامرة" أو "إشعال الحرائق" في أي اتجاه.
(*) الاشتباك الإيجابي: إن إرث مصر الحضاري والتاريخي يمنحها حضورًا مؤثرًا وإيجابيًا في عمقها العربي والإفريقي والإسلامي وعموم الجنوب العالمي وهو ما آثر الرئيس السيسي على إبرازه في تأكيد ثبات النهج المتوازن في العلاقات مع جميع الأطراف بما يحقق المصالح القومية لمصر وتجنيبها الاستقطابات والاصطفافات الدولية والتركيز على تقوية البنيان الداخلي عبر دعم مرونة الاقتصاد المصري وتحفيز الشركاء على ضخ المزيد من الاستثمارات، فالشراكة المصرية الواعدة مع أقطاب الشرق في تجمع بريكس يوازيها العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وكذلك أوروبا، التي تبلورت مؤخرًا في اتفاق الشراكة الاستراتيجية والشاملة مع الاتحاد الأوروبي، منتصف مارس الماضي، الذي يعكس في حجمه وتوقيته إدراك القادة الأوروبيين لمكان مصر كحجر زاوية الاستقرار في المنطقة ونتيجة لموثوقية سياسة حسن الجوار المصرية على صعيدي تأمين الحدود البحرية ومكافحة الهجرة غير الشرعية ودعم أمن الطاقة الأوروبي.
وينطبق ذلك الأمر على علاقات مصر الإقليمية التي شهدت فتح مسارات التقارب والتواصل مع كل من تركيا وإيران، في إطار تعزيز الاستقرار الإقليمي والحفاظ على المصالح والأمن القومي العربي، وبموازاة الانفتاح على كل الأطراف الفاعلة في الإقليم وإبداء التضامن مع تلك البلدان في مواجهة الأزمات والكوارث على غرار زلزال 6 فبراير 2023 بجنوب شرق تركيا، لم تتراجع مصر عن موقفها الثابت تجاه القضايا العربية.
كما تتكئ مصر على مشروعاتها التنموية في الاستثمار بتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، وهو أحد ثمار الهدف الاستراتيجي الذي أتى على ذكره الرئيس المصري بتحويل مصر إلى مركز إقليمي للنقل وتجارة الترانزيت ومشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة، وتنمية منطقة قناة السويس باستثمارات ومناطق صناعية روسية وصينية وأوروبية، تعزز في المقابل ربط القارة الإفريقية بالاقتصاد العالمي.
وإجمالًا؛ تشير طبيعة الخطاب الموجه بصورة أساسية للشأن الداخلي المصري، إلى عدم إغفال البيئة الخارجية في كلمة الرئيس المصري بما تحمله من تحديات مؤثرة على سرعة وتيرة العمل في مسارات التنمية، ومع اقتضاب تلك الرسائل ومحدوديتها إلا أنها جددت تأكيد ثوابت السياسة الخارجية المصرية في عهد الرئيس السيسي التي كانت مصالح الأمة المصرية وستظل هي محددها الأهم، في ظل الجهود الحثيثة لمراكمة القوة الشاملة للدولة بمختلف مفرداتها لمواكبة التحولات الجارية في النظام الدولي، الذي ستحتل فيه مصر مكانة جوهرية كمحور للسلام والتنمية بالشرق الأوسط والعالم في ضوء علاقاتها المتوازنة وانخراطها الإيجابي مع مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين.