تأتي زيارة وزيرة التكامل الإفريقي والشؤون الخارجية لجمهورية السنغال ياسين فال إلى موسكو في 29 من أغسطس المنقضي، كخطوة مهمة تعكس رغبة البلدين في تعزيز علاقاتهما الثنائية في ظل التحديات الراهنة على الساحة السياسية دوليًا وإقليميًا، فالتوقيت حَرِج بالنظر إلى السياقات التاريخية والدبلوماسية التي تجمع بين داكار وموسكو، وتمثل تلك الزيارة فرصة جديدة للتعاون في مجالات شتى كالسياسة والاقتصاد والدفاع، إذ تسعى السنغال جاهدًة لتنويع شراكاتها الدولية، في حين تركّز روسيا على تعزيز وجودها في القارة السمراء وسط تصاعُد التوترات مع الغرب.
وأُجريت محادثات بين "فال" ونظيرها الروسي سيرجي لافروف شملت قضايا متعددة، وأُثيرت تساؤلات حول أهمية الزيارة ودلالاتها لكلٍ من موسكو وداكار، لما لها من دور في صياغة مشهد العلاقات الدولية في المرحلة المقبلة. إذ تم النقاش حول الوضع الأمني الحالي في منطقة الساحل الإفريقي، واتفق الوزيران على اتخاذ خطوات لتنفيذ مشاريع مشتركة في مجال الطاقة والاستكشاف وغيرهما.
تصريحات مهمة
خلال الزيارة، صرّح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف خلال مؤتمر صحفي عقب محادثات مع نظيرته السنغالية، عن مجالات للتعاون بين البلدين، منها:
(*) التعاون في المجال الإنساني والتعليمي: قرر الوزيران تدريب الكوادر الوطنية السنغالية في الجماعات الروسية، وبالتالي زيادة عدد المنح الدراسية للطلاب السنغاليين من 75 إلى 102 اعتبارًا من العام الدراسي المقبل، وتولي روسيا اهتمامًا كبيرًا بالشباب السنغالي من خلال تعلم اللغة الروسية. وفي هذا الصدد، تم الاتفاق على توسيع الفرص التعليمية على أساس المؤسسات التعليمية السنغالية، وحاليًا، تقوم 50 مدرسة في 13 مقاطعة في السنغال بتدريس اللغة الروسية، إذ يقدر عدد دارسيها نحو 6600 تلميذ، ومن المخطط نمو تلك الأرقام مستقبلًا.
(*) تعزيز الاتصالات بين البلدين: أكد وزير الخارجية الروسي أن هناك تطورات تتعلق بتتارستان، فهناك اتفاقية تعاون بين مدينتي تفير وسانت لويس، وفي يوليو 2024، عقب زيارة وفد من مدينة تييس إلى سيفاستوبول، تم توقيع اتفاقية للتعاون بين البلديات في المجالات التجارية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والاجتماعية والإنسانية.
(*) التعاون في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات: صرّح "لافروف" بأن شركة ياندكس الروسية أنشأت شركة خدمات سيارات الأجرة "يانجو" في السنغال، وهي أول خدمة رقمية تقدمها في ذلك البلد، وهناك فرص أخرى في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أيضًا والتي تمت مناقشتها في مراكش في مايو 2024 خلال مؤتمر للدول الإفريقية بمشاركة الشركاء من هذا القطاع، وقد يشارك الخبراء الروس في إنشاء نظام للحكومة الإلكترونية في السنغال ودول إفريقية أخرى، كما يجري إنشاء مركز لأمن المعلومات في السنغال.
توقيت الزيارة
يكتسب توقيت زيارة وزيرة خارجية السنغال إلى موسكو أهمية خاصة، تتمثل في:
(*) رسالة دبلوماسية: يمكن تفسير الزيارة على أنها رسالة دبلوماسية تحاول السنغال إرسالها إلى الدول الغربية بأن لديها الخيارات الأخرى للتعاون الدولي، ورغبتها في إعادة الغرب تقييم علاقاته مع الدول الإفريقية، فالزيارة تمثل خطوة مهمة لتعزيز استقلالية السنغال في سياستها الخارجية، خاصًة أنها من أهم مراكز النفوذ الفرنسي في إفريقيا، وتمتلك مزايا جمة تؤهلها بأن تكون شريكًا قويًا لروسيا، وستحاول الدول الاستفادة من المزايا السنغالية المتمثلة في حقول الغاز الطبيعي، كالتي على الحدود مع موريتانيا، ويتم تسييره بين موريتانيا والسنغال من خلال شركة بريتش بتروليوم البريطانية، ولا نغفل الصراع الدولي الراهن على الغاز الطبيعي، ومحاولات الدول في الحصول عليه، لذا ترغب السنغال بأن تكون قائدًا دبلوماسيًا قويًا في القارة الإفريقية.
(*) الأوضاع الجيوسياسية العالمية: تتزامن الزيارة مع التوترات السياسية العالمية، تحديدًا الحرب الروسية الأوكرانية، التي تمخضت عن فرض عقوبات غربية على روسيا، ويُنظَر إلى الزيارة كجزء من الجهود التي تبذلها روسيا لتأمين علاقاتها مع الدول الإفريقية؛ لتعويض العزلة التي تتعرض لها من قِبل الغرب، ناهيك عن أن الزيارة رسالة ضمنية عن موقف السنغال من الحرب مع أوكرانيا. كما تعزّز من مكانة السنغال بأن تكون لاعبًا إقليميًا مهمًا في منطقة غرب إفريقيا، ومن ثمّ تلعب دورًا أكبر في القضايا الدولية المختلفة.
وعند النظر إلى محتوى الزيارة، نلاحظ أنها سلّطت الضوء على الدبلوماسية الإفريقية، لتتضح قدرة السنغال على المناورة دبلوماسيًا بين القوى الكبرى بتطرق الزيارة إلى القضية الدولية الكبرى ألا وهي الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ثمّ تعزيز المصلحة الوطنية.
أهداف الزيارة
تحمل زيارة وزيرة خارجية السنغال إلى موسكو أهدافًأ عدة في سياق العلاقات الدولية بين موسكو وداكار، يمكن حصرها في:
(*) تعميق التعاون الاقتصادي: تعمّق الزيارة التعاون الاقتصادي بين البلدين من خلال التنقيب عن المعادن، وتدريب عمال النفط والغاز، ففي 20 أغسطس 2024، أكد رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو أنه تم تشكيل لجنة خبراء في القطاع القانوني والضريبي والطاقة؛ لمراجعة عقود النفط والغاز، وإعادة التوازن بما يخدم المصلحة الوطنية، ومن ثمّ المضي قدمًا لإعادة التفاوض على شروط العقود مع المستثمرين الأجانب. وعلى الرغم من تصنيف السنغال بأنها من الدول الـ25 الأقل نموًا عالميًا، إلا أنها تسلّط الضوء على الموارد المتاحة لديها؛ لتحقيق قفزة اقتصادية، حيث قررت استغلال غازها الطبيعي في الربع الثاني من العام الجاري 2024 باعتبارها دولة منتجة للنفط منذ يونيو الماضي. وبالتالي، سيسهم التعاون السنغالي الروسي في توفير قوي عاملة مدربة، ومن ثمّ الترحيب بالمستثمرين الروس في صناعة النفط والغاز الطبيعي.
(*) تعزيز التعاون الأمني: تقع السنغال في منطقة الساحل الإفريقي التي تنتعش بها حركة التنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة، ما يعرّضها لكل تكون عُرضة للأنشطة المتطرفة، وفي حاجة ماسة للتعاون الأمني مع الشركاء تحديدًا روسيا، ولا نغفل فشل فرنسا في مجال التعاون الأمني ومحاربة الإرهاب في دول إفريقية متعددة أبرزها النيجر وبوركينا فاسو، التي تم طرد الجيش الفرنسي منها بشكل بائس.
فهناك حاجة للدول الإفريقية لكي تؤمن حدودها من خطر الإرهاب العالق في أذهنة المدنيين، وقد استغلت روسيا الأوضاع الراهنة، وأبدت استعدادها لتقديم الدعم العسكري في المساعدة الاستخباراتية، ومن ثمّ تعزيز القدرات الدفاعية؛ لمحاربة الجماعات الإرهابية الصاعدة. لذا، تولي الزيارة اهتمامًا كبيرًا للتعاون الأمني، وتشير الاستعدادات الحالية للمؤتمر الوزاري لمنتدى الشراكة بين روسيا وإفريقيا المقرر عقده في نوفمبر من هذا العام في سوتشي إلى تعزيز العلاقات الثنائية للبلدين، وأكدت روسيا استعدادها لمساعدة السنغال ودول إفريقيا الأخرى في تعزيز قدراتها الدفاعية، وزيادة استعداد القوات المسلحة والخدمات الخاصة لمكافحة الإرهاب.
(*) التوسع التجاري: تفتح تلك الزيارة الباب أمام استثمارات روسية جديدة في قطاعات متعددة للتوسع التجاري للسنغال، من خلال توريد الحبوب والأسمدة؛ من أجل ازدهار القطاع الزراعي؛ إذ يقدر أن 40% من إمدادات قمح السنغال تأتي من الاتحاد الروسي، وبالتالي فإن توريد القمح والأسمدة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للسنغال.
وخلال العام الجاري، تم توقيع اتفاقية في مجال صيد الأسماك بين روسيا والسنغال، وتقدم رلها وسيا دعمًا تقنيًا لزيادة إنتاجية الأسماك، وتوسيع صادرات الأسماك السنغالية إلى روسيا. كما وُقِعت اتفاقية في مجال النقل والخدمات اللوجستية؛ لتحسين الروابط التجارية من خلال تطوير البنية التحتية، حتى يسهل من حركة البضائع وتعزيز كفاءة سلسة الإمداد، وأكد وزير الخارجية الروسي خلال مؤتمر صحفي أنه تُجرَى مفاوضات لتزويد السنغال بالأسمدة والدقيق والقمح بشكل مباشر، وفي الوقت الحالي، تتم مثل هذه الإمدادات من خلال وسطاء، ما يجعلها أقل فاعلية.
(*) بين مكاسب وضغوط سياسية: يمكن اعتبار هذه الزيارة سلاحًا سياسيًا ذا حدين، فقد تتمخض نتائجها عن تحقيق مكاسب سياسية يحاول القادة السياسيون في السنغال تعزيز نفوذهم بالداخل السنغالي في حالة تحقيق نتائح ملموسة إيجابية ينتفع بها الشعب السنغالي، لكن من المرجّح أيضًا أن تتعرض حكومة السنغال إلى ضغوط أخرى من قِبل قوى متعددة؛ للإفصاح عن تلك العوائد الإيجابية من الزيارة في ظل التوترات الإقليمية والدولية الراهنة.
وعليه، يمكن القول إن زيارة وزيرة التكامل الإفريقي والشؤون الخارجية لجمهورية السنغال ياسين فال إلى موسكو، تأتي في إطار تعزيز العلاقات الروسية السنغالية، كما أن الزيارة بمثابة حدث دبلوماسي متعدد الأبعاد. فمع تزايُد التحديات والتوترات العالمية، تبدو هذه الزيارة فرصة سانحة لموسكو وداكار؛ لتعميق التعاون في مجالات متعددة تستفيد منها البلدان، وتظل تداعيات الزيارة وأثرها المستقبلي محل ترقُب واهتمام، ومن المرجح فتح آفاق جديدة لشراكات مثمرة بين موسكو وداكار، خاصة مع انتهاج السنغال لسياسة الانفتاح على الصين وروسيا ودول البريكس كبديل للاعتماد على فرنسا التي تلقَ رفضًا إفريقيًا في الآونة الأخيرة.