في 3 يناير 2024، قامت الولايات المتحدة الأمريكية، بإجراء محادثات مع دول غانا وساحل العاج وبنين؛ هدفت منها واشنطن استخدام مطارات الدول الثلاث في السماح لطائرات المراقبة الأمريكية غير المسلحة؛ لمقاومة جماعات التطرف والإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي، مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
يُذكَر أن محاولات الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء قواعد للطائرات بدون طيار بالقرب من المحيط الأطلسي تهدف إلى تعزيز الوجود الأمريكي في منطقة الساحل الإفريقي، مع الأخذ في الاعتبار لتراجُع النفوذ الغربي في المنطقة. فالولايات المتحدة الأمريكية تأمل في نجاح استراتيجيتها، لكن لم يكُن التكيف مع الحقائق الجيوسياسية في القارة الأفريقية عقب التغيير الأخير للسلطة في النيجر، سهلًا خاصًة مع التحول الراهن في ديناميكيات مكافحة الإرهاب والمراقبة على طول الساحل غرب إفريقيا، فالتحديات مُحاطة بتلك الاستراتيجية، ولابد من أخذ مخاطرها عين الاعتبار.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى قراءة في مستقبل الاستراتيجية الأمريكية المعلنة في ظل فشل الاستراتيجية الفرنسية في تحقيق أهدافها، والتعرف على دلالات توقيت الإعلان عن تلك الاستراتيجية، كما سيتم التعرف على التحديات التي تواجهها الاستراتيجية الأمريكية في ظل التوترات الأمنية القائمة في القارة الإفريقية.
استراتيجيات مسبقة:
سعت فرنسا إلى نشر قواعدها العسكرية في إفريقيا؛ لتحجيم انتشار الجماعات المسلحة، فتمثلت أهم عمليات الاستراتيجية الفرنسية، فيما يلي:
(*) عملية سيرفال: في عام 2013، أطلقت فرنسا عملية "سيرفال" في مالي بهدف وقف التقدم الذي تحققه الجماعات المتطرفة والإرهابية جنوبًا بعد نداء استغاثة من الرئيس المالي المؤقت آنذاك "ديونكوندا تراوري". فجاءت عملية "سيرفال" لتحقيق ثلاثة أهداف ممثلة في: وقف هجوم الجماعات الإرهابية، وضمان الأمن في باماكو (عاصمة مالي) لحماية المواطنين الفرنسيين؛ والحفاظ على وحدة أراضي مالي. ولاقت عملية "سيرفال" الفرنسية في مالي نجاحًا على المدى القصير نظرًا لعوامل متعددة كالجهود الدبلوماسية الفرنسية المكثفة منذ عام 2012م؛ لإرساء الأساس القانوني الذي يُمَكّن فرنسا من الوجود العسكري والأمني في مالي. بالإضافة إلى قدرة فرنسا على صياغة الأهداف بطريقة شاملة وواضحة، فكان لتوافر القواعد العسكرية بالقرب من مالي الدور الأكبر في تحقيق تلك الأهداف والانتشار السريع للقوات الفرنسية. أما العامل الأخير كان الصدفة في تزامُن تلك العملية مع غضب السكان المحليين من محاولات الحركات الإسلامية والرغبة في الخلاص من العنف القائم.
(*) عملية برخان: في عام 2014، أطلق الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" عملية "برخان"؛ بهدف وقف تقدم الجماعات الإسلامية المتطرفة في مالي، واشتركت فيها دول أخرى هي النيجر، وتشاد، وبوركينا فاسو، وموريتانيا، فجاءت "برخان" امتدادًا لعملية "سيرفال" الفرنسية، وتم نشر حوالي 4000 جندي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، ونظرًا للاصطدام مع الجماعات المسلحة الذى نتج عنه خسائر بشرية فرنسية، قامت الحكومة الفرنسية بإعادة النظر في فعالية تلك العملية، ومن ثم إعلان الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" انتهاء العملية في 10 يونيو 2021. ويعود فشل عملية "برخان" في تحقيق أهدافها إلى الأهداف الغامضة والمفرطة في التفاؤل لتلك العملية، وتجنُب "برخان" الانجرار إلى المستنقع السياسي والعنيف في وسط مالي بل التركيز على السياسة الداخلية حتى لا يتم الكشف عن أجندات فرنسا الخفية لتحقيق مصالحها، بالإضافة إلى عدم الاهتمام بالتحديات الأخرى في الساحل الأفريقي غير الإرهاب، فتلاحظ أن استراتيجية فرنسا أثبتت عدم قدرتها على معالجة الأسباب الكامنة وراء حركات التمرد الإسلامي في إفريقيا، دون وضع أساس يمنع تكرار تلك التهديدات في إفريقيا.
ملامح الاستراتيجية الأمريكية:
تعد الاستراتيجية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، بمثابة الخطوة التي تحقق المصالح الأمريكية الأمنية والاقتصادية في المنطقة، وتتمثل ملامح هذه الاستراتيجية فيما يلي:
(*) أهداف مُعلنَة: سعت الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء قواعد الطائرات بدون طيار على طول الساحل في غرب إفريقيا لأهداف معلنة تتمثل في: مواجهة التهديدات الصينية وحركات التمرد الإسلامي العنيفة، بالإضافة إلى تحقيق التنمية ونشر الديمقراطية في إفريقيا، بالتركيز على الموقع الساحلي الإفريقي الذي سيزيد من نطاق ومدى الطائرات بدون طيار، والتي تستخدم بشكل أساسي في مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع على عكس الموقع غير الساحلي الذي يحد من تحركات الطائرات الأمريكية. ووفقًا لتصريحات أمريكية، يهدف استخدام الطائرات دون طيار غير المسلحة لأغراض المراقبة في غرب إفريقيا، مع مشاركة المعلومات التي ستحصل عليها تلك الطائرات مع حلفائها الأفارقة؛ من أجل تحقيق الاستقرار الأمني بالقضاء على الجماعات المسلحة المتمردة التي تهدد الاستقرار المجتمعي.
(*) دلالات التوقيت: جاء توقيت الإعلان عن الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الساحل غرب إفريقيا بالتزامن مع الانسحاب الفرنسي وإغلاق السفارة الفرنسية في النيجر وخروج آخر جندي فرنسي في ديسمبر 2023، فاستغلت الولايات المتحدة الأمريكية التوتر الحادث بين النيجر وفرنسا، وسعت لسد الفراغ الذي خلفته فرنسا في النيجر بإعلان انتشار قواعد لطائرات بدون طيار في الساحل الإفريقي. وجاء إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عقب الانقلاب الأخير في النيجر بإجراء استكشاف بلدان بديلة لاستضافة قواعد الطائرات بدون طيار لمهام مكافحة الإرهاب والمراقبة، فالتوقيت الزمني في صالح الحكومة الأمريكية خاصًة مع فشل الاستراتيجية الفرنسية التي تم الإشارة إليها، وتوتر العلاقات الفرنسية مع العديد من الدول الإفريقية، منها النيجر ومالي.
(*) مواضع التمركز: أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مواضع تشغيل طائرات استطلاع بدون طيار غير مسلحة في البلدان المطلة على المحيط الأطلسي في غانا وساحل العاج وبنين، التي تتمتع باستقرار نسبي على الرغم من التهديدات المستمرة وعمليات العنف الإرهابي من قِبَل المتشددين الإسلاميين الذين يحرزون تقدمًا ناحية الجنوب من مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وتقوم تلك الطائرات بمهمة عمل استخباراتية من خلال إجراء مراقبة جوية لتحركات المسلحين المتمردين، بالتركيز على دولتي مالي وبوركينا فاسو؛ لافتقارهما للمساعدة الغربية في مواجهة تلك التهديدات الإرهابية، ومن ثُم تحقيق الولايات المتحدة الأمريكية استفادة من الوضع الأمني غير المستقر، حتى يتسنى لأمريكا الانتشار السريع لطائرات أمريكية بدون طيار على طول الساحل غرب إفريقيا.
تحديات قائمة:
تواجه الولايات المتحدة الأمريكية بعض التحديات والقيود أثناء جهودها لإنشاء قواعد للطائرات بدون طيار في غرب إفريقيا، تتمثل في:
(*) طموحات الصين العسكرية: تشكل الخطط الصينية في القارة الإفريقية تهديد حقيقي على الاستراتيجية الأمريكية بالقارة الإفريقية، خاصًة أن الصين تأمل في التواجد العسكري والاقتصادي في المنطقة، ويتضح ذلك من خلال خطة الصين لإنشاء أول قاعدة بحرية دائمة لها على طول ساحل المحيط الأطلسي في غينيا الاستوائية، بالإضافة إلى المشاريع الاقتصادية الهائلة التي تخدم المصالح الصينية. فوفقًا لتقديرات الخبراء، ستعمل السفن البحرية الصينية قبالة الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، ما يشكل تهديدًا للمصالح الأمنية الأمريكية. ولمواجهة هذا التحدي، تسعي الولايات المتحدة الأمريكية لعمل شراكات مع دول الساحل غرب إفريقيا؛ لمنع نجاح الخطط الصينية في غينيا الاستوائية.
(*) ردود الفعل الشعبية: تخشى الولايات المتحدة الأمريكية من عدم استجابة الدول الإفريقية للخطط الأمريكية، خاصًة أن الاستراتيجية الأمريكية لن تكتمل سوى بدعم وتأييد من الدول الإفريقية؛ حتى يتحقق النجاح الأمريكي العسكري في المنطقة. ووفق التوترات القائمة والوضع الأمني غير المستقر في إفريقيا، تشعر بعض الدول الإفريقية بالقلق إزاء استضافة القواعد العسكرية الأجنبية، فسبق وتلقت أمريكا احتجاجًا شعبيًا في أكرا (عاصمة غانا) عام 2008، ردًا على اقتراح الحكومة الأمريكية باستضافة قاعدة عسكرية في غانا. ولتجنب هذا الخطر، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا للحصول على استجابة ودعم شعبي من الدول الإفريقية؛ منعًا لتكرار مشهد الرفض للخطط الأمريكية.
(*) الانقلابات العسكرية: تعتبر الانقلابات العسكرية بمثابة تحدٍ آخر يعيق تنفيذ استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، فتخشى الحكومة الأمريكية حدوث انقلابات عسكرية تمنع الاستراتيجية من استكمال مسارها وتحقيق أهدافها. حيث يقضى القانون الأمريكي بتعليق الخطط التنموية في أي دولة تتعرض لانقلاب، مع عدم السعي لاستئناف تلك الخطط دون التحقق من الاستقرار الأمني والديمقراطي في الدولة. على سبيل المثال، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية تحديًا بشأن عجز الحكومة الأمريكية في استئناف العمليات في القاعدة الجوية الأمريكية 201 في النيجر؛ نظرًا لأنها باتت بؤرة للعمليات الإرهابية بعد الانقلاب العسكري الأخير. لذلك، تسعى الحكومة الأمريكية لإجراء مباحثات مع حكومة النيجر لاجتياز الوضع الدبلوماسي المعقد واستكمال الاستراتيجية الأمريكية بالتزامن مع إعلانها الاستراتيجية الأمريكية في دول الساحل غرب إفريقيا.
(*) تزايد النفوذ الروسي: عقب الانقلاب العسكري في النيجر، سعت روسيا لتعزيز نفوذها في إفريقيا بالتوقيع على اتفاقية دفاعية مع النيجر حتى باتت روسيا الداعم القوى لبلدان تعاني من حركات التمرد الإسلامي في المنطقة مثل مالي وبوركينا فاسو. فروسيا لديها أهداف اقتصادية في القارة الإفريقية، وتعمل جاهدًة لتوسيع نفوذها الإقليمي بعقد شراكات وتحالفات مع دول إفريقية، مما يشكل خطرًا على المصالح الأمريكية الأمنية والقواعد العسكرية في منطقة الساحل الإفريقي.
ختامًا، بالنظر إلى الاستراتيجية الفرنسية الممثلة في عمليتي "سيرفال" و "برخان" كمرجعية لتقييم الاستراتيجية الأمريكية المقترحة، نلاحظ أن العمليات الفرنسية حققت نجاحًا على المدى القصير ضد القوى الإسلامية في القارة الإفريقية، لكن أخفقت في معالجة جذور الإرهاب وملاحقة الجماعات الإرهابية في دول الساحل ومنعها من إعادة تشكيل نفسها. لذلك، فإن نجاح أو فشل الاستراتيجية الأمريكية سيتعين عند تنفيذ أهداف قائمة واضحة تتماشي مع التغيرات والتوترات الجيوسياسية في منطقة الساحل غرب إفريقيا.