الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

المقاربة الهندية للصراع الروسي الأوكراني

  • مشاركة :
post-title
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي مع رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

تأتى زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى كلٍ من روسيا في 8 يوليو 2024 وأوكرانيا في 23 أغسطس 2024 في إطار سعي بلاده، لتسوية الصراع الروسي الأوكراني بالطرق السلمية والدبلوماسية والحوار المتبادل بين الدولتين، وهو ما يرتبط برؤية "مودي" لدور الهند منذ توليه مقاليد السلطة، وسعية لتعزيز مكانتها على المستوى الدولي كقطب صاعد، من خلال توظيف إمكانات الهند المادية والبشرية لخدمة المصالح الوطنية الهندية في دوائرها الإقليمية والدولية وطرح رؤيتها لكيفية التعامل مع الأزمات الدولية. وهو الأمر الذي أثار تساؤلًا رئيسيًا حول مدى ارتباط زيارة مودي لطرفي الصراع الروسي الأوكراني بجهود للوساطة يطرحها، وما إذا كان يمتلك رؤية هندية لتسوية الصراع المعقد، أم أن زيارة الدولتين لا تعدو كونها تأكيدًا على سياسة الحياد التي التزمت بها الهند منذ تفجر الصراع في فبراير 2022، وهو ما انعكس على أولوية المصالح الاقتصادية في زيارته إلى روسيا تحديدًا؟

دوافع متعددة

تنوعت دوافع زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى كلٍ من روسيا وأوكرانيا، والتي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

(*) تعزيز مكانة الهند دوليًا: ترتبط زيارة ناريندرا مودي لكلٍ من روسيا وأوكرانيا برؤيته لتعزيز مكانة الهند على المستوى الدولي كقطب اقتصادي صاعد يؤيد التحول من النظام الأحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب يراعي توازنات القوى الدولي الجديد. لذلك مثل انخراط الهند في تسوية الأزمات الدولية والدعوة إلى تعزيز السلام والدبلوماسية للتقريب بين الفرقاء، لاسيما وأن الصراع الروسي الأوكراني كانت لها تداعياته المباشرة على اقتصادات الدول وأمنها الغذائي، فضلًا عمّا شكله الصراع من انقسامات أيديولوجية، وإعادة إنتاج تحالفات دولية. وهو ما كان له تأثيره أيضًا في الأمن والاستقرار العالميين، انعكست على سباق تسلح عالمي محموم بين الدول الكبرى التي أعلنت عن مضاعفة موازناتها العسكرية، ومنها الدول الأوروبية، التي كشف الصراع الروسي الأوكراني عن هشاشتها من الناحية الأمنية والاقتصادية، لاسيما وأنها كانت تعتمد على 40% من استهلاكها على الغاز الروسي.

(*) الدعوة للتسوية السلمية للصراع الروسي الأوكراني: اعتمدت المقاربة الهندية لتسوية الصراع الروسي الأوكراني على الدعوة لانتهاج الأسس السلمية وذلك عبر الحوار البنّاء بين الدولتين من خلال إعلاء ركائز الدبلوماسية. وشاركت الهند في قمة السلام التي انعقدت بسويسرا في 14 يونيو 2024، حتى وإن كان على مستوى مسؤول الشؤون الغربية بالخارجية الهندية. كما دعا "مودي" خلال قمته مع الرئيس بوتين في 9 يوليو 2024 إلى السعي من أجل التوصل إلى حل سلمي للصراع من خلال الدبلوماسية والحوار، عندما قال إن بلاده مستعدة لتقديم أي مساعدة لإحلال السلام هناك. وتماشيًا مع ذلك النهج، وقبيل زيارته أوكرانيا في 23 أغسطس 2024 أكد مودي تطلعه لتبادل وجهات النظر بشأن حل سلمي للصراع الدائر في أوكرانيا، وبصفته صديقًا وشريكًا، آملًا في أن يعود السلام والاستقرار إلى المنطقة في وقت قريب. وتسعى الهند من خلال ذلك الطرح للموازنة بين الحفاظ على مصالحها التقليدية مع روسيا، وشراكتها الاستراتيجية مع الغرب لاسيما مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى لموازنة الصعود الصيني من خلال دعم تحالفها مع الهند في منطقة الإندوباسيفيك، والذي عكسه انضمام الهند إلى تحالف "كواد" أو ما عُرِف بالحوار الأمني الرباعي منذ عام 2008 والذي يضم إلى جانب الهند كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وأستراليا، ويهدف إلى مواجهة توسيع نفوذ الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادىء.

(*) تبادل المنافع الاقتصادية: تأتى المصالح الاقتصادية في سلم أولويات رئيس الوزراء ناريندرا مودي خلال زيارته روسيا وأوكرانيا، فخلال العقدين الماضيين زودت روسيا الهند بنحو 65% من الأسلحة، التي اشترتها من طائرات ومروحيات وغواصات وسفن حربية، كما تزودها في الفترة الحالية بنحو 40% من احتياجاتها النفطية. ووصل حجم التبادل التجاري بين الهند وروسيا إلى نحو 65 مليار دولار، في حين لم يتجاوز التبادل التجاري مع أوكرانيا نحو 3 مليارات دولار. لذلك تُوّجت القمة التي عقدها مودي وبوتين في موسكو بالإعلان عن برنامج ثنائي حتى عام 2030، يشمل تعزيز التعاون في مجالات الصناعة والتجارة والزراعة والغذاء والطاقة والتكنولوجيا الفائقة، والتوقيع على اتفاقية مع صندوق الاستثمار المباشر بشأن البرامج التعليمية والاعتراف بمؤهلات المتخصصين، كما تم الاتفاق على تحفيز الإنتاج المشترك في الهند لقطع الغيار اللازمة لصيانة الأسلحة روسية الصنع، والتعاون في تطوير وإنتاج واستخدام محركات الصواريخ، وهو ما يعني أن مصالح الهند الاقتصادية مع روسيا تشكل أحد محددات رؤيتها، لتسوية الصراع الروسي الأوكراني.

(*) تصاعد دور الجنوب العالمي: يعكس الانخراط الهندي نحو الوساطة، لتسوية الصراع الروسي الأوكراني في أحد جوانبه تصاعد لدور الجنوب العالمي لتسوية الأزمات الدولية، لاسيما وأن الهند استضافت قمتين لصوت الجنوب العالمي في يناير ونوفمبر من عام 2023، التي دعا المشاركون فيها إلى تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، فضلًا عن الاجماع على التطلع إلى إيجاد نظام عالمي أكثر شمولًا وتمثيلًا وتقدمًا.

تحديات ماثلة

على الرغم من بلورة المقاربة الهندية للصراع الروسي الأوكراني على أساس الدعوة إلى الحل السلمي والدبلوماسي، إلا أن تلك المقاربة تواجه العديد من التحديات التي تشكل كوابح لاستجابة طرفي الصراع لها، وهو ما يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

(*) فشل الوساطات السابقة: على الرغم من أن الهند لم تقدم تصورًا متماسكًا لكيفية تسوية الصراع الروسي الأوكراني، وأن ما يطرحه رئيس الوزراء مودى لا يعدو كونه دعوات لانتهاج الوسائل السلمية، إلا أن فشل الوساطات السابقة لتسوية ذلك الصراع والتي باءت جميعها بالفشل -سواءً تلك التي طرحتها دول كبرى مثل الصين التي قدمت تصورًا شاملًا لإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا والذي اعتبرته الدول الأوروبية بأنه تصور أقرب لمبادىء القانون الدولي، وكذلك رؤى المنظمات الدولية والإقليمية كتلك التي طرحتها الدول الإفريقية- يجعل من دعوة مودى التي تعد أقرب للمطالبات التي وجهتها العديد من الدول لتسوية الصراع سلميًا غير ذات جدوى على مسار تلك التسوية التي أضحت بعيدة المنال بعد اتجاه أوكرانيا للتصعيد باستهداف العمق الروسي بالتوغل في كورسك منذ مطلع أغسطس 2024.

(*) الانحياز الهندي للرؤية الروسية: تشكل المنافع الاقتصادية للهند مع روسيا أحد التحديات التي تواجه المقاربة الهندية إزاء الصراع الروسي الأوكراني، وهو ما جعل الرئيس الأوكراني ينتقد الموقف الهندي المنحاز لروسيا، وعدم إدانة الهند للغزو الروسي لأوكرانيا. وفسر العديد من المحللين ذلك الموقف لتعاظم المنافع الاقتصادية المتشابكة بين روسيا والهند. فوفقًا للتقديرات الروسية فإنه من المتوقع أن يتجاوز حجم التجارة الروسية مع الهند 100 مليار دولار، بعد أن بلغ 65 مليار نهاية عام 2023، في ظل عجز الميزان التجاري الهندي لصالح روسيا بشكل كبير. وجاء إعلان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قبيل زيارة مودي إلى روسيا بأن الهند وبلاده تقدمان ما يصل إلى 60% من مدفوعات التجارة الثنائية بالعملة الوطنية للبلدين بما يعزز من التشبيك الاقتصادي بينهما.

(*) دعم الدول الغربية لأوكرانيا: يمثل الإجماع الغربي على دعم أوكرانيا حائلًا أمام التسوية السلمية للصراع الروسي الأوكراني ليس فقط فيما يتعلق بالمقاربة الهندية للصراع ولكن أيضًا فيما يتعلق بكافة مبادرات السلام التي طرحتها الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية، وذلك لتشبُّث طرفي الصراع بمواقفهم المتناقضة، بما جعل الصراع يتجه نحو منحدر خطير تمثل في إعلان الدول الغربية بتقديم الدعم العسكري لأوكرانيا لاستهداف العمق الروسي والذي تجلى مؤخرًا في التوغل الأوكراني في كورسك، بما يزيد من تعقيد الصراع ويصعب تسويته.

مجمل القول: تستند المقاربة الهندية للصراع الروسي الأوكراني على الدعوة لتسوية الصراع بالطرق السلمية وعبر الوسائل الدبلوماسية، وهو ما دفع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودى لزيارة الدولتين، وإن كانت رؤى العديد من المحللين تعتقد بأن التزام الهند بالحياد إزاء الصراع يعكس رغبتها في الموازنة بين الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية مع روسيا لتعاظم منافعها الاقتصادية، والالتزام بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى لتعزيز دور الهند في منطقة الإندوباسيفيك لموازنة الصعود الصيني عالميًا.