تعانى سوق الذهب العالمية من تقلبات بين الصعود والهبوط خلال عام 2024، ولكنها تجاوزت لأول مرة في التاريخ مستوى 2500 دولار للأوقية، إذ إن هذه السوق مُرتبطة بشدة بقرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الخاصة بسعر الفائدة واتجاهاتها في المستقبل، وبالتغيرات التي تحدُث في سوق الدولار، ويأتي هذا الارتباط من أن الذهب ملاذ آمن بعد الدولار، إذ حدثت أي تغُييرات على أسعار الفائدة، بالإضافة إلى أنه من الاحتياطيات المهمة في ظل التوترات الجيوسياسية وارتفاع درجة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي.
والجدير بالذكر أن سعر الذهب العالمي تجاوز جميع التوقعات في الربع الثالث من عام 2024، إذ توقع "البنك الدولي" أن يبلغ متوسط سعر الذهب 1950 دولارًا للأوقية في عام 2024، بينما توقع "صندوق النقد الدولي" أن يبلغ متوسط سعر الذهب 1775 دولارًا للأوقية في عام 2024، وتوقعت مؤسسة "جولدمان ساكس" أن متوسط سعر الأوقية سيبلُغ 2133 دولارًا للأوقية في عام 2024.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على المؤثرات المُختلفة على سوق الذهب العالمية، وانعكاسات الوضع الحالي لهذه السوق، بالإضافة إلى توضيح التوقعات المُستقبلية لها.
مؤثرات استراتيجية
يتأثر وضع سوق الذهب العالمية بالعديد من المؤثرات المهمة، التي سيتم توضيحها في ما يلي:
(*) سعر الدولار: يتأثر سعر الذهب عكسيًا مع سعر الدولار، فكلما ارتفع سعر الدولار، ينخفض الطلب على الذهب، ما يؤدي إلى انخفاض أسعاره، والعكس صحيح، فمن شكل (1) يتضح أن سعر الدولار انخفض من الفترة 27 يونيو إلى 27 أغسطس، من 105.92 إلى 100.85، أي انخفض بنسبة 4.8%، وبالمُقارنة مع شكل (2) يتضح أن سعر الذهب ارتفع خلال هذه الفترة من 2337.3 دولار في 27 يونيو إلى 2525.6 دولار في 27 أغسطس، أي ارتفع بنسبة 8.06%، ومع ارتفاع مؤشر الدولار في 29 أغسطس إلى 101.23، انخفض سعر أوقية الذهب إلى 2519.3 دولار، وهو الأمر الذي يوضح العلاقة العكسية بين سعر الدولار وسعر الذهب عالميًا، باعتبارهما ملاذين آمنين ومخزني قيمة.
(*) سعر الفائدة الفيدرالي: يُعد سعر الفائدة الفيدرالي من المُحركات الأساسية لسوق الذهب العالمية، ومؤشر يوضح اتجاهات هذه السوق الاقتصادية، وما يؤكد ذلك أن تصريح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي "جيروم باول" وإعلانه أنه "حان الوقت لتعديل سعر الفائدة"، أحدث انتعاشًا كبيرًا في سوق الذهب العالمية ورفع من أسعاره بنسبة 1.1%، إذ استقرت عند مستويات قياسية بعد هذا التصريح، وبالإضافة إلى ذلك رفعت صناديق التحوط رهانها على الذهب، إذ أوضحت بيانات الحكومة الأمريكية الصادرة يوم 23 أغسطس 2024، قيام الصناديق والمُضاربين بتعزيز صافي مراكز الشراء بنسبة 7.8%، ووصل عدد العقود إلى 236 ألف و749 عقدًا في 20 أغسطس، وهو أعلى مستوى منذ عام 2020، مدفوعًا برفع توقعات التيسير النقدي في سياسة الفيدرالي، التي سيترتب عليها عمليات بيع في الدولار الأمريكي وانخفاض عوائد السندات.
(*) مُشتريات البنوك المركزية: تُشكل مُشتريات البنوك المركزية طلبًا كبيرًا على الذهب العالمي، وتتسبب عمليات الاستحواذ التي تقوم بها البنوك المركزية في ارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات قياسية، فقد أصبح البنك الوطني البولندي (NBP) أكبر مشترٍ للذهب في الربع الثاني من 2024، إذ يُشكل الذهب 14.7% من احتياطي البنك، وارتفعت احتياطيات المعدن النفيس لدى بولندا إلى 377.4 طن، ويسعى البنك أن تصل نسبته إلى 20% من الاحتياطي.
وبشكل إجمالي وبتتبُع السلسلة الزمنية التي يُشير إليها شكل (3)، يتضح أن مُشتريات البنوك المركزية من الذهب ارتفعت في الربعين الثالث والرابع من عام 2022 مُقارنة بالأعوام السابقة، إذ سجلت 458.77 طن في الربع الثالث و382.1 طن في الربع الرابع.
وفي عام 2024 ارتفع الطلب على الذهب من قبل البنوك المركزية بشكل كبير، فقد قفز من 286.21 طن في الربع الأول من 2023 إلى 299.94 طن في الربع الأول 2024، بنسبة ارتفاع 4.80%، وفي الربع الثاني ارتفع من 173.63 طن إلى 183.39 طن، بنسبة 5.62%، وهو الأمر الذي يوضح العلاقة الطردية بين الأزمات والتوترات الجيوسياسية في عام 2024 وبين الطلب العالمي على الذهب.
ويأتي إقبال البنوك المركزية على شراء المعدن النفيس (الذهب)، رغبةً في تنويع احتياطاتها؛ للحماية من التقلبات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية الحالية، فالذهب ملاذ آمن عندما تتقلب أسعار العملات والأصول المُختلفة، إذ يتميز بالاستقرار النسبي خلال أوقات الأزمات، مما يجعله يُستخدم للتحوط من التضخم، وبالإضافة إلى ذلك يُعد الذهب أقل تأثُرًا بالمخاطر السياسية، فمن هنا يُساعد الدول التي تُفرض عليها عقوبات اقتصادية في الحفاظ على سيولتها وأدائها الاقتصادي.
انعكاسات محورية
إن انتعاش سوق الذهب العالمية، يحمل في طياته العديد من الانعكاسات التي سيتم توضيحها في ما يلي:
(&) خفض نسبي لقيمة الدولار: يُعد الدولار والذهب من البدائل المهمة في تنويع محفظة المُدخرات سواء للدول أو المُستثمرين، وبالتالي يرتبطا بعلاقة عكسية، فارتفاع أسعار الذهب يؤدي إلى خفض قيمة الدولار نسبيًا في السوق العالمية، فعندما يُقبل الجميع على شراء الذهب وخفض المُضاربة على الدولار، تُعاني العقود الآجلة لمؤشر الدولار الأمريكي من الانخفاض، ومن ثم يُمكن القول إن العلاقة العكسية بين الدولار والذهب تؤثر على المركز العالمي للدولار كعملة احتياطية، خاصة أن البنوك المركزية أدركت أهمية زيادة الاحتياطي من الذهب، وهو الأمر الذي سيُخفض من الطلب على الدولار نسبيًا.
(&) تقوية عملات الدول النامية: إن ارتفاع أسعار الذهب العالمية، مع اتجاه الدول المختلفة لزيادة احتياطاتها من الذهب سيُحقق غطاءً نقديًا مناسبًا للعملات المحلية داخل هذه الدول، خاصة التي تتبع نظام الصرف الحر، فاتباع هذا النظام يتطلب احتياطيًا نقديًا كبيرًا يُحقق نجاحه، فالتنوع في أصول الاحتياطي الأجنبي يواجه التذبذب في سعر صرف العملات الأجنبية ويعمل على التحوط ضد انخفاض سعر الدولار في السوق العالمية، مما يعمل على تحقيق الاستقرار النقدي لهذه الدول.
(&) تعزيز هدف تكتل "بريكس": يُعد الهدف الأساسي لتكتل "بريكس" إحداث توازن في النظام الاقتصادي العالمي، وتقليل هيمنة الدولار، فمع انتعاش سوق الذهب العالمية واتجاه البنوك المركزية إلى زيادة الاحتياطي منه على حساب الدولار الأمريكي، سيستطيع تكتل "بريكس" تحقيق أهدافه الكُبرى التي سعى إليها، والتي تنصب بشكل أساسي على مستقبل الاقتصادات النامية والناشئة، فدول البريكس اتجهت في الفترة الأخيرة إلى التوسع في شراء الذهب؛ لاحتمالية إصدار عملة موحدة مدعومة بالذهب.
توقعات مُستقبلية
من قراءة الوضع الحالي لسوق الذهب العالمية، يُمكن توضيح التوقعات المُستقبلية لهذا السوق، على النحو التالي:
(-) ارتفاع سعر الأوقية: يُمكن الاستدلال من الأوضاع السياسية والاقتصادية الحالية، خاصة الخفض المتوقع لأسعار الفائدة والانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المُقبل، وما سيترتب عليها من عدم استقرار نسبي في سعر الدولار، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية المُتصاعدة في الشرق الأوسط والأزمة الروسية الأوكرانية، أنه من المُرجح بشكل كبير أن يستمر سعر الأوقية عالميًا عند مستوى 2500 دولار، بل من المتوقع أن يتجاوز ذلك السعر قليلًا إذا خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة في سبتمبر المُقبل بأكثر من 25 نقطة أساس، إذ توقع معظم الخبراء أن يتم تداول الذهب في نطاق 2500 و2600 في عام 2025.
(-) استمرار انتعاش الطلب: يحكم الطلب العالمي على الذهب، المؤثرات التي تم توضيحها في السابق، وبالنظر إلى الأوضاع الحالية نظرة تحليلية مُتعمقة، يُمكن القول إن طلب البنوك المركزية على الذهب من المُحتمل بشكل كبير أن يظل في مستويات مُرتفعة في السنوات المُقبلة؛ نظرًا لانتشار حالة عدم اليقين في الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي، ورغبة الدول في تقليل الاعتماد على الدولار، وهو الأمر الذي سيُحقق انتعاشًا كبيرًا لسوق الذهب العالمية في المُستقبل.
وعليه يُمكن القول إن الذهب سيستمر في تنافس كبير مع الدولار كأحد الملاذات الآمنة، خاصة في السنوات المُقبلة، فالدول بدأت تُعيد النظر في سياساتها النقدية، بما يتماشى مع الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية، فالذهب لم يعُد مخزنًا للقيمة فقط، بل أصبح يُحافظ على الاستقرار الاقتصادي للدول، وهو الأمر الذي يرفع من التوقعات الإيجابية بخصوص سوق الذهب العالمية في المستقبل القريب.