تترقب دول العالم والأسواق العالمية قرار الفيدرالي بخصوص سعر الفائدة في اجتماعه المُقبل في 17 و18 سبتمبر 2024، إذ قام المجلس بتثبيت سعر الفائدة في اجتماع يوليو السابق، بحيث ظلت في نطاق يتراوح بين 5.25% و5.5%، وهو النطاق الذي لم يتغير منذ ذلك الحين.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يحاول هذا التحليل الإجابة عن سؤال رئيسي وهو: هل سيتجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تخفيض أم تثبيت سعر الفائدة في الاجتماع المُقبل؟
مُعطيات مهمة
يتوقف قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي على مجموعة من المُعطيات المهمة، التي يمكن توضيحها في ما يلي:
(*) مُعدل التضخم: يضع مجلس الاحتياطي الفيدرالي معدل التضخم في الأولويات بشأن اتخاذ قرار بخصوص سعر الفائدة، إذ حدد معدل تضخم مُستهدف يُقدر بـ2%، فمن شكل (1) يتضح أن معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية انخفض بشكل كبير عن مستواه في أغسطس 2023، إذ انخفض من 3.7% إلى 2.9%، وبمقارنته بمستوى يونيو 2022 الذي سجل فيه 9.1%، يتضح الانخفاض الشديد في معدل التضخم واقتراب لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية من الوصول إلى معدل الفائدة المُستهدف، وهو الأمر الذي بعث رسالة طمأنة إلى معظم المستثمرين في الأسواق المالية.
(*) وضع سوق العمل: تُعد سوق العمل من المُحددات الأساسية في اتخاذ قرار سعر الفائدة، إذ يُمثل ضعف هذا السوق مُحفزًا رئيسيًا لخفض سعر الفائدة، ومن بيانات سوق العمل الأمريكية، تتضح مُعاناتها من التباطؤ، إذ انخفض نمو الوظائف الجديدة، حيثُ أوضح مكتب إحصاءات العمل الأمريكي أن الاقتصاد الأمريكي لم يضف سوى 114 ألف وظيفة جديدة، كما أن المراجعة الأولية السنوية لبيانات التوظيف التي أجراها مكتب الإحصاء تُشير إلى أن عدد الوظائف في مارس 2024 كان أقل بمقدار 818 ألف وظيفة لما تم الإعلان عنه في البداية، مما يوضح ضعف نشاط سوق العمل.
وبالإضافة إلى ذلك ارتفع معدل البطالة كما يوضح شكل (2)، إذ قفز من 3.8% في أغسطس 2023 إلى 4.3% في يوليو 2024، وفضلًا عن ذلك ارتفع عدد الأمريكيين الذين تقدموا بطلبات جديدة للحصول على إعانات بطالة في يوليو 2024، إلى 250 ألف أمريكي، مقارنة بـ198 ألفًا في يناير 2024، وهو الأمر الذي يوضح التباطؤ الكبير في سوق العمل الأمريكي.
(*) سوق الأسهم: يرتبط انتعاش سوق الأسهم بانخفاض أسعار الفائدة، فهناك علاقة عكسية بين سوق الأوراق المالية ومعدلات الفائدة الأمريكية، فمع التوقعات الكبيرة للمُستثمرين بأن يُخفض الفيدرالي سعر الفائدة، فقد انتعشت الأسهم الأمريكية بشكل ملحوظ في 20 أغسطس الجاري، إذ ارتفع مؤشر داو جونز الصناعي بمقدار 236.77 نقطة، كما ارتفع مؤشر ستاندرد أند بورز 500 بنسبة 0.97%، كما قفز مؤشر ناسداك المُركب بنسبة 1.39%، ويُمثل ارتفاع الأسهم بهذه النسب تعافي سوق الأسهم الأمريكية، بعد حالة من الركود والمخاوف بين المستثمرين، ومن هنا تؤثر قرارات سعر الفائدة الفيدرالية بشكل كبير على سوق الأسهم الأمريكية، مما يوضح أن اجتماع الفيدرالي المُقبل سيُحدد مسار هذا السوق سواء بالانتعاش أو التراجع.
(*) معدل النمو الاقتصادي: هناك علاقة قوية بين النمو الاقتصادي وسعر الفائدة، فتحفيز النمو الاقتصادي يأتي من خلال تخفيض سعر الفائدة في الاقتصاد، فكما يوضح شكل (3) أن الاقتصاد الأمريكي نما بنسبة 2.8% في الربع الثاني من 2024، مُقارنة بنمو نسبته 1.4% في الربع الأول من 2024، فعلى الرغم من ارتفاع معدل النمو في الربع الثاني من 2024، إلا أنه يظل مُنخفضًا عن النمو الذي حققه الاقتصاد الأمريكي في الربع الرابع من عام 2021، إذ سجل معدل نمو 7%، وهو الأمر الذي يوضح أن الاقتصاد الأمريكي يحتاج إلى مزيد من التحفيز؛ لتحقيق معدل نمو اقتصادي مُرتفع.
اتجاهات مُحتملة
إن قراءة المؤشرات الاقتصادية، تفرض احتمالين لا ثالث لهما على اتجاه قرار سعر الفائدة الفيدرالي في الاجتماع المُقبل، وذلك على النحو التالي:
(-) الاتجاه الأول (الأكثر احتمالًا): يتمثل في أن يقوم مجلس الاحتياطي الفيدرالي بخفض سعر الفائدة تدريجيًا، تماشيًا مع البيانات المُتفائلة حول مُعدلات التضخم، فكما تم الإيضاح أن معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية سجل 2.9%، أي يرتفع عن المعدل المُستهدف بنسبة 0.9% فقط، فكسر معدل التضخم حاجز الـ 3%، يُعطي ثقة كبيرة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي حول استقرار الأسعار.
ويؤيد هذا الاتجاه إعلان مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن محضر اجتماع السياسة النقدية الذي انعقد يومي 30 و31 يوليو السابق، الذي أوضح أن أعضاء الفيدرالي الأمريكي يؤيدون قرار خفض سعر الفائدة خلال اجتماع البنك في سبتمبر المُقبل، إذ جاء في الملخص أن الغالبية العظمى من المُشاركين في الاجتماع أشاروا إلى أنه "إذا استمرت البيانات في الظهور كما هو متوقع، فمن المُحتمل أن يكون من المناسب تخفيف السياسة في الاجتماع المُقبل"، كما تدعم تصريحات رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو "ماري دالي" توقعات خفض أسعار الفائدة، إذ صرحت بأنه حان الوقت للنظر في تخفيض أسعار الفائدة من النطاق الحالي الذي يتراوح بين 5.25 و5.5%، وأن البيانات الاقتصادية الأخيرة منحتها الثقة في أن التضخم تحت السيطرة، وأوضحت أن التدرج في الخفض ليس ضعفًا ولا بطئًا ولا تأخرًا، وإنما "حكمة"، وهو الأمر الذي يُرجح أن تنخفض أسعار الفائدة في الاقتصاد الأمريكي بشكل تدريجي.
كما أن ضعف بيانات سوق العمل من المُحتمل أن تدفع الفيدرالي بشكل كبير إلى خفض سعر الفائدة؛ لإنعاش هذه السوق وانتشالها من حالة التباطؤ، ومما يدعم هذا الاتجاه أيضًا أن سوق الأسهم الأمريكية مُترقِب بشكل كبير قرار الفيدرالي بخصوص سعر الفائدة، فعدم اتخاذ قرار الخفض سيُصيب هذه السوق بالتراجع الكبير على مستوى جميع المؤشرات، ما يُعرض الاقتصاد الأمريكي لصدمة اقتصادية.
ومن هنا ومع احتمالية اتجاه الفيدرالي إلى خفض سعر الفائدة، يُمكن القول إن الخفض من المُرجح ألا يكون بنسبة كبيرة، أي أنه من المُحتمل أن تنخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس فقط في اجتماع سبتمبر المُقبل، فعدم الوصول إلى معدل التضخم المُستهدف سيجعل قرار خفض سعر الفائدة يتم في نطاق محدود.
(-) الاتجاه الثاني: يتمثل في أن يقوم مجلس الاحتياطي الفيدرالي بتثبيت سعر الفائدة، بحيث تظل تتراوح بين 5.25- 5.5%، وما يدعم هذا الاتجاه أن معدل التضخم لا يزال مُرتفعًا عن المعدل المُستهدف بنسبة 0.9%، إذ أوضحت "ميشيل بومان" عضوة مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن مخاطر التضخم لا تزال قائمة، وأن سوق العمل لا تزال قوية، ما يجعلها تحذر من الاتجاه لخفض سعر الفائدة في اجتماع سبتمبر المُقبل، فالخوف من تأثير التوترات الجيوسياسية والسياسة المالية الأمريكية على الأسعار، سيجعل مجلس الاحتياطي الفيدرالي يتجه إلى تثبيت سعر الفائدة في اجتماع سبتمبر المُقبل.
وفي النهاية يُمكن القول، إن الاتجاه الأول الخاص بخفض سعر الفائدة، يُعد الأكثر احتمالًا في اجتماع الفيدرالي المُقبل، وهو الأمر الذي أيده مُعظم الخبراء الاقتصاديين، فالاقتصاد الأمريكي سيتعرض لصدمة في حالة إذا لم يقم الفيدرالي بخفض سعر الفائدة، وسيتجه إلى الركود بشكل أسرع، كما أن الأسواق العالمية تترقب قرار الفيدرالي، وهو الأمر الذي يؤكد أن سعر الفائدة الفيدرالي يُعد من المحركات الأساسية في كل الاقتصاديات، وليس الاقتصاد الأمريكي فقط.