يعقد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الخامس والعشرين من يوليو الجاري، اجتماعه الخامس في عام 2023؛ لبحث القرار الخاص بسعر الفائدة، بعد اتخاذه قرار بالتثبيت في اجتماع يونيو السابق.
وتشير متابعة وقراءة بيانات البنوك المركزية في العالم خلال الأيام الأخيرة، إلى حالة ترقب عامة لما يُحتمل أن يخرج عن قرار الفيدرالي؛ لما له من تأثيرات جمة على الاقتصاد الأمريكي، واقتصاديات الدول الأخرى، فالفيدرالي الأمريكي يسعي وراء هدف أساسي هو الوصول بمعدلات التضخم إلى 2%، ما دفعه نحو رفع سعر الفائدة أكثر من مرة واتباعه لسياسة نقدية مُتشددة.
في ضوء ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى الظروف الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، باعتبارها المحرك الأساسي لقرار الفيدرالي حول سعر الفائدة، محاولًا توقُع ما قد يخرج عن اجتماعه المقبل.
ظروف مواتية:
توجد مجموعة من الظروف الاقتصادية التي يراعيها مجلس الاحتياطي الفيدرالي أثناء اتخاذه قرارًا بشأن سعر الفائدة (رفع، أو خفض أو تثبيت) تتمثل في:
(*) معدلات التضخم: تعتبر معدلات التضخم، هي المحرك الأساسي لقرارات الفيدرالي الخاصة بتحديد سعر الفائدة؛ للوصول إلى معدل التضخم المُستهدف الـ2%، ولتحقيق ذلك الهدف قام الفيدرالي برفع معدلات الفائدة بمعدل عشر مرات خلال عامي 2022 و2023 حتى اجتماع مايو الماضي، إذ كانت معدلات التضخم مرتفعة، ووفقًا للشكل رقم (1) سجلت 9.1% في يونيو 2022، لذلك قام الفيدرالي برفعها بمقدار 75 نقطة في اجتماع ذلك الشهر واجتماع يوليو أيضًا حتى انخفضت إلى 7.1% في ديسمبر 2022.
كما استمرت معدلات التضخم في الانخفاض خلال عام 2023 بسبب قرارات الفيدرالي برفع الفائدة ثلاث مرات بواقع 25 نقطة، حتى انخفضت إلى 4% في مايو 2023، ولكن جاء قرار الفيدرالي في اجتماع يونيو 2023 مخالفًا للتوقعات، وقام بتثبيت أسعار الفائدة في نطاق يتراوح بين 5 و5.25%، وكان هذا بسبب التباطؤ الذي أحدثه التشدُد في السياسة النقدية على النشاط الاقتصادي، ما جعله يتمهل في رفع أسعار الفائدة.
(*) معدلات البطالة: هناك علاقة اقتصادية عكسية بين معدلات البطالة وأسعار الفائدة، فكلما ازدادت معدلات البطالة داخل الاقتصاد تلجأ البنوك المركزية إلى تخفيض سعر الفائدة؛ لتحفيز الاقتصاد القومي ودعم الإقبال على القيام بالمشروعات الاستثمارية التي تعمل على تشغيل المزيد من العمالة ومنها تخفيض معدلات البطالة بشكل كبير.
بالنسبة لوضع البطالة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فيلاحظ من الشكل رقم (2) أن معدلات البطالة في يونيو 2023 انخفضت بالمقارنة بمايو 2023، لكنها ارتفعت عن نسبتها في أبريل 2023، وسجلت 3.4%، وقد تذبذبت معدلات البطالة ما بين 3.7% و3.4 % منذ مارس 2022، ما يؤكد على وجود سوق عمل ضيقة تعطي مرونة للفيدرالي لرفع أسعار الفائدة.
(*) سوق الأسهم الأمريكية: ترتبط أسعار الفائدة بعلاقة عكسية مع أداء الأسهم؛ إذ إن ارتفاع سعر الفائدة يعكس ارتفاع العائد على الاستثمار منخفض المخاطر مثل شهادات الإيداع والسندات، وهو ما يعمل على زيادة الطلب على هذه الاستثمارات، ومن ناحية أخرى تقل رغبة الأفراد في تحقيق المخاطرة في الاستثمار، ما يعمل على تقليل الطلب على الأسهم، ولذلك تُثير مخاوف رفع أسعار الفائدة في الاجتماع المقبل الذعر بين المستثمرين، ما تسبب في هبوط جماعي لأسهم بورصة "وول ستريت"، وكما يتضح من الشكل رقم (3) انخفض مؤشر" ستاندرد آند بورز 500" عند الإغلاق في يوم 7 يوليو 2023، إذ انخفضت العقود الآجلة لهذا المؤشر ومؤشر "نسداك" بنحو 0.3% و0.4% على الترتيب، وذلك انعكاسًا لبيانات الأجور التي أشارت إلى احتمالية ارتفاع معدلات التضخم المستقبلية.
(*) وضع القطاع المصرفي: تأثر القطاع المصرفي بشكل كبير من قرارات الفيدرالي الخاصة بأسعار الفائدة، إذ تعرض عدد من البنوك الأمريكية للانهيار مثل بنوك "سيليكون فالي" و"سيجنتشر" و"فرست ريبابليك".
وانضم أخيرًا إلى حصيلة البنوك المُنهارة في أمريكا، بنك "باك ويست"، الذي خسر كمية كبيرة من الودائع خلال الربع الأول من عام 2023 تُقدر بـ5 مليارات دولار، كما خسر 90% من قيمة الأسهم في مارس 2023، وتدل الانهيارات المتتالية للبنوك على ضعف الثقة في القطاع المصرفي الأمريكي، فقد خرجت كمية من الودائع إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية، كما يتضح من الشكل رقم (4)، وانخفضت ودائع البنوك التجارية من 17.99 تريليون دولار في ديسمبر 2021 إلى 17.34 تريليون دولار في يونيو 2023، وتعد هذه الأزمة من أكبر الأزمات التي عصفت بالبنوك الأمريكية منذ الأزمة المالية العالمية 2008، الأمر الذي لابد أن يضعه الاحتياطي الفيدرالي في اعتباره عند اتخاذ قرار بشأن سعر الفائدة في الاجتماع المقبل.
سيناريوهات محتملة:
من خلال قراءة وتحليل الأرقام التي أوضحتها الأشكال السابقة، يُمكن وضع السنياريوهات التي من المحتمل أن يتبناها الفيدرالي الأمريكي في اجتماعه المقبل، وذلك على النحو التالي:
(#) السيناريو الأول؛ رفع سعر الفائدة: من المحتمل أن يقوم الفيدرالي في الاجتماع المُقبل برفع أسعار الفائدة للوصول إلي معدل التضخم المستهدف، ويدعم هذا السيناريو البيانات التي يظهرها الشكل رقم (5) الذي يوضح الارتفاع العام في معدلات الأجور للساعة في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ارتفعت من 28.62 دولار للساعة في أبريل 2023 إلي 28.75 دولار للساعة في مايو 2023، وتشير هذه البيانات إلى احتمال ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية عن الوضع الحالي لها، خاصة أن ارتفاع الأجور سيعمل علي زيادة القوة الشرائية للمواطنين، وهو ما سيتسبب في رفع معدلات التضخم، وهذا سيكون حافزًا للفيدرالي لرفع أسعار الفائدة، لكن من المُحتمل ألا يكون الرفع بنقاط أساس مرتفعة.
(#) السيناريو الثاني؛ استمرار تثبيت سعر الفائدة: هذا السيناريو أقل ترجيحًا، لكن يظل ضمن السيناريوهات المحتملة التي من الممكن أن يتخذها الفيدرالي للمرة الثانية على التوالي مخالفًا كل التوقعات، فمن الممكن أن يسعى الفيدرالي إلى تحقيق استقرار مصرفي واستقرار لسوق الأسهم ولمعدلات البطالة مُجنبًا هدف "معدل التضخم المستهدف" في هذا الاجتماع حتى يعطي فرصة للاقتصاد الأمريكي أن يتنفس الصعداء، وخاصة أن احتمالية دخول الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة ركود اقتصادي كما توقع الفيدرالي، ستعمل على دعم سيناريو" تثبيت سعر الفائدة"؛ لأن رفع سعر الفائدة في تلك الظروف ستُبطئ من وتيرة النمو الاقتصادي بشكل كبير وتسرّع من الدخول في هذه المرحلة.
وعليه، من المرجح أن يقوم الفيدرالي برفع سعر الفائدة بنحو 25 نقطة فقط، إذ يُعد هذا السيناريو هو الأقرب لتوجهات الفيدرالي في تلك الفترة، بعد ما قام "الفيدرالي" في اجتماع يونيو بتثبيت سعر الفائدة ليعمل على تهدئة الأوضاع الاقتصادية إلى حد ما داخل الولايات المتحدة الأمريكية وتخفيض الأثر السلبي للصدمات النقدية عليها، وحتى يُمهد لقرار رفع سعر الفائدة في الاجتماع المُقبل.
في النهاية، يتضح من الرصد السابق أن الاقتصاد الأمريكي يُعاني زخمًا اقتصاديًا كبيرًا في تلك الفترة، ما يجعل الاجتماع المُقبل لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، مرتقبًا بشكل كبير من كل قطاعات الاقتصاد الأمريكي وبخاصة القطاع المصرفي وسوق الأسهم اللذين تضررا من سياسة رفع سعر الفائدة بشكل كبير، وعلى الجانب الآخر يبقى الهدف الأعظم للفيدرالي، هو كبح جماح معدلات التضخم، الذي لا يتردد في تحقيقه برفع أسعار الفائدة خلال تلك الفترة، لكن تتطلب الرشادة الاقتصادية أن يتخذ الفيدرالي قرار تثبيت سعر الفائدة في الاجتماع المُقبل؛ لتُحقق المؤشرات الاقتصادية الكلية التعافي النسبي ويستعيد الاقتصاد قوته.