تشير زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ألمانيا، في الفترة من 26 إلى 28 مايو 2024، إلى دقة المرحلة التي تواجه القادة الأوروبيين في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، وتأتي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس فرنسي إلى ألمانيا منذ 24 عامًا قبيل 10 أيام من إجراء انتخابات مصيرية للبرلمان الأوروبي، تتعزز فيها حظوظ اليمين المتطرف.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أبعاد الزيارة الحالية للرئيس الفرنسي وتداعياتها على مستقبل الاتحاد الأوروبي.
دلالة جوهرية
تناولت الزيارة المهمة للرئيس الفرنسي إلى برلين ودريسدن ومونستر عددًا من الملفات الأوروبية والدولية التي يمتلك فيها البلدان مساحات من التباعد والخلاف، خاصة في ظل خروج ماكرون العلني عن الإجماع والتوافق الغربي بشأنها، إلا أن تقارب الأهداف والغايات الاستراتيجية لا يزال السمة الأبرز في العلاقة بين القيادتين الحاليتين، وفيما يلي أبرز ما تناولته الزيارة:
(*) أوروبا قوة عالمية رائدة: في مقال رأي مشترك نشر بصحيفة فايننشال تايمز البريطانية في 27 مايو 2024، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس الحاجة إلى تقوية أوروبا وتعزيز دورها كقوة عالمية رائدة في مجالات الصناعة والابتكار التكنولوجي، على صعيد التكنولوجيا الحيوية والكيماويات والذكاء الاصطناعي والحوسبة والفضاء وتقنيات الجيل الخامس والسادس للاتصالات، إلى جانب الحفاظ على طموح التحول الأوروبي إلى أول قارة محايدة مناخيًا.
وبدت بصمات الرئيس الفرنسي ومصطلحاته الصادمة حاضرة في توصيف واقع الاتحاد الأوروبي، وأنها في ضوء ضعف تنافسيتها أمام الجانبين الأمريكي والصيني تبدو أوروبا عرضة لخطر مميت، وهو ما يستدعي الارتقاء لمستوى التحدي الراهن كما تصفها الاستراتيجية الألمانية للسياسة الخارجية والأمنية بنقطة التحول التاريخية "ZeitenWende".
(*) الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي: كان لافتًا التأكيد على مفهوم "السيادة الأوروبية"، وتوسيع قاعدة الصناعات الدفاعية الأوروبية المشترك، واتفاق مجلس الأمن والدفاع المشترك، يوم الثلاثاء 28 مايو 2024، على التصنيع الألماني الفرنسي لأسلحة بعيدة المدى.
واتفق الجانبان -الفرنسي والألماني- على حق أوكرانيا في استخدام الأسلحة الألمانية والفرنسية بتنفيذ هجمات ضد المواقع العسكرية في العمق الروسي، والتي تنطلق منها هجمات مماثلة، وهو ما بات موضع تقبل لعدد من القوى الغربية وآخرها الولايات المتحدة، وأشار إليه كذلك الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج بالتزامن مع تلك الزيارة، وذلك رغم استمرار الحذر الألماني، إلا أن توسع حالة الإجماع في ضوء ما كشفته "بوليتيكو" يوم الخميس 30 مايو 2024 عن سماح إدارة بايدن للجانب الأوكراني جزئيًا بشن ضربات على الأراضي الروسي في إطار معركة الدفاع عن خاركيف، أكد شتيفن هيبستريت المتحدث باسم المستشار الألماني، يوم الجمعة 31 مايو 2024، أن برلين تسمح لكييف باستخدام الأسلحة الألمانية لهذا الغرض.
(*) أجندة للإصلاح الأوروبي: يمثل البعد الأوروبي الداخلي أبرز شواغل الزيارة التي تأتي في خضم صعود عنيف لليمين المتطرف في ألمانيا على وجه التحديد، فيما أشاد الزعيمان بمخرجات قمة فرساي 2022، في إطار بحث أجندة إصلاح أوروبية جديدة للسنوات الخمس المقبلة، تهدف لتقليص "الاعتماد الحرج" على القوى المنافسة وتعزيز الميزة التنافسية العالمية لأوروبا، عبر التحول إلى سوق موحدة والقضاء على العوائق الجمركية وتخفيف القيود البيروقراطية وضخ الاستثمارات الضخمة في مجال البحث والتطوير.
مؤشرات متضاربة
تعكس الزيارة حالة عدم اليقين التي تواجهها أوروبا في ضوء مجموعة من التطورات السياسية الداخلية والاستراتيجية الدولية والتي حتمت إظهار الوحدة والتعاون بين البلدين الرئيسيين في التكتل الأوروبي.
(&) النفوذ المتصاعد للتيارات الشعبوية: يعاني البلدان من صعود كبير لأحزاب اليمين المتطرف في نتائج الاستطلاعات بشأن الانتخابات الأوروبية المقررة في الفترة من 6 إلى 9 يونيو 2024، ففي فرنسا يتقدم حزب التجمع الوطني بنسبة 33% على حزب النهضة بقيادة ماكرون بنسبة 15.5%، كما يحل الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة شولتس ثالثًا بنسبة 14.3% بعد التحالف المسيحي المحافظ الذي جاء في المرتبة الأولى بنسبة تفوق 30%، وحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف بنسبة 15.8%، حسب موقع يورونيوز.
(&) غياب الرؤية الاستراتيجية: خلال ولايته الأولى وبينما سعى لإعادة تقديم دور فرنسا كقوة كبرى عالمية تهدف للتخفف من الإرث الاستعماري وتصويب ممارستها مع البلدان الفرانكفونية إلى جانب تصويب مسار أوروبا استراتيجيًا ودفاعيًا، فشل إيمانويل ماكرون في العديد من ملفات السياسة الخارجية، كما اتسمت أغلب مبادراته بالانفعالية وفقدان التوازن، إذ لم تنجح محادثاته من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقف الحرب في أوكرانيا نتيجة لعدم وجود ضمانة أمنية فرنسية موثوقة للجانب الروسي في ظل الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وفي أعقاب تزايد حدة المعارك خلال العام الجاري باتجاه خاركيف وغرب أوكرانيا، مثلت دعوة الرئيس الفرنسي لإبداء الاستعداد الأوروبي وإرسال قوات عسكرية رسمية للدفاع عن أوكرانيا صدمة للعديد من القوى الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا، مما اضطره لاحقًا للاكتفاء بإرسال قوات غير قتالية إلى كييف لأنشطة التدريب.
وعلى صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة والصين، تبدو الخلافات واضحة بين الجانبين في إطار تبني الرئيس الفرنسي لوضع قواعد أوروبية صارمة للاعتماد على الذات والاكتفاء بالدرع النووي الفرنسي وتطوير التعاون العسكري والدفاعي، إلى جانب تصحيح هياكل التجارة وتقليص تسرب الاستثمارات والمدخرات الأوروبية للخارج، تتبنى "ألمانيا شولتس" نهجًا حذرًا في العلاقة مع الولايات المتحدة، وأن تعزيز التعاون الدفاعي الأوروبي لا يغني بالكلية وبأثر فوري عن الثقل العسكري الأمريكي في مواجهة روسيا، خاصة في ظل حالة الانكشاف الأوروبي العميق من الداخل، مما يعني أن الوجود الأمريكي مع تأثيراته السلبية والمضرة على صعيد التجارة وحركة تدفق أصول الشركات الأوروبية، إلا أنه لا يزال الضامن الرئيسي لأمن الجبهة الشرقية.
كما أن الصراع على زعامة أوروبا يظهر كذلك في المبادرات الدفاعية، إذ لم تنضم باريس إلى تحالف درع السماء الألماني لتعزيز الدفاعات الجوية الأوروبية بمنظومة متعددة الطبقات، تجمع بين منظومات ألمانية وأمريكية.
(&) مخاوف أوروبية عميقة: يشير تقرير حديث لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية في 29 مايو 2024 إلى عدم جاهزية حلف الناتو في الوقت الراهن للدفاع عن أجواء الجبهة الشرقية، إذ لا يمتلك الحلف سوى 5% من قدرات ومنظومات الدفاع الجوي اللازمة لمواجهة هجوم واسع النطاق، ما يضع أوروبا أمام خيارين؛ إما تعزيز القدرات الدفاعية المشتركة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وبحث سبل إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وإما مواجهة خطر التفكك والانقسام.
وإجمالًا؛ يواجه الزعماء الأوروبيون تحديًا مركبًا خلال الأشهر المتبقية من العام، فالاستحقاق الانتخابي مصيري لحسم مستقبل التكتل الأوروبي، وفيما ينتظر القمة الخامسة والسبعين لحلف الناتو بواشنطن خلال يوليو المقبل تجديد الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا وبحث الخيارات المتاحة لاستمرار دعم أوكرانيا، قد يدفع السباق الانتخابي الأمريكي ومخاوف عودة ترامب، قادة أوروبا لتغيير استراتيجياتهم الأمنية والدفاعية بالاعتماد على تعزيز القدرات الوطنية وتقليص الاعتماد على الإطارين الأوروبي والأطلسي في توفير الأمن.