تعتبر بعض التحليلات المنشورة مطلع 2023 في مراكز التفكير الأمريكية، أن التنافس الأمريكي الصيني خلال هذا العام قد يشهد مزيدًا من الخطوات التصعيدية من الجانب الأمريكي تجاه بكين، ويستند هذا الاتجاه إلى الضغوطات الأمريكية تجاه الصين أواخر 2022 لا سيَّما فيما يتعلق بالصراع الدولي في منطقة الإندوباسيفيك، وتوظيف قضية تايوان في ذلك التصعيد. وعلى العكس من ذلك جاء الإعلان عن زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مطلع فبراير 2023 إلى بكين لتبرز الرغبة الأمريكية نحو خفض التوتر مع الصين، والتفاهم حول العديد من القضايا، مثل الحرب الروسية الأوكرانية ومسألة تايوان. تجدر الإشارة إلى أن هذه الزيارة تُعد الأولى منذ أكتوبر 2018؛ حيث زار وزير الخارجية الأسبق مايك بومبيو بكين. وعلى ما سبق يحاول هذا التحليل إبراز مسألة التعاطي الأمريكي مع النفوذ الصيني المتزايد عالميًا.
تناغم حزبي نحو الصين:
وفقًا لاستطلاع رأي أجراه مسح لمجلس شيكاغو عام 2022، يحمل فقط 32% من الأمريكيين إحساسًا إيجابيًا تجاه الصين، وذلك في مقياس الشعور الأمريكي تجاه الصين؛ إذ يمثل الصفر شعورًا سلبيًا للغاية ويمثل 100 شعورًا إيجابيًا للغاية، وداخل هذه النسبة يعتبر 24% من الجمهوريين و32% من الديمقراطيين الأمر نفسه. ويبدو من هذا المسح أن الحزبين اللذين اختلفا في كل ما يتعلق بالسياسة الأمريكية سواء الداخلية أو الخارجية لتحقيق مكاسب حزبية توافقوا على سياسة الاحتواء.
ووفقًا للشكل البياني أدناه، يبرز تدني مقياس الشعور الأمريكي تجاه الصين إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، ويُمثل هذا التدني انعكاسًا واضحًا للسياسات الأمريكية الحكومية الرسمية سواءً في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، ولاسيما فيما يتعلق بالنظر للصين على أنها مهدد لواشنطن، وهو ما يعني تراجع استراتيجية التعاون التي كانت رفعتها واشنطن في السابق وهيمنة سياسة الاحتواء في عهد الرئيس الأمريكي الراحل أيزنهاور، وهي السياسة التي تعتبر بكين مهددًا للنفوذ الأمريكي. ويتبنى الجمهوريون عمومًا اتباع نهج سياسي أكثر صرامة تجاه الصين من الديمقراطيين، خاصة إذا ارتبط الأمر بالسياسات الاقتصادية والتجارية.
أبرز مؤشرات قياس القوة:
يُرجع العديد من المُحللين الضغوط الأمريكية على الصين، إلى تخوف واشنطن من الهيمنة العالمية للصين، وفي هذا السياق يُمكننا أن نضع هذه الفرضية على ميزان قياس القوة؛ إذ يُبنى هذا النموذج على أربعة مؤشرات تقيس القوة ومهددات الهيمنة بين الدول، وهي "الديموجرافيا والجغرافيا، القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، والقوة الناعمة"، باعتبارها محددات كاشفة للحكم على دولة ما كقوة عظمى، أو النظر لدولة أخرى كمرشحة لتصبح قوة عظمى. ويُمكن تفصيل ذلك فيما يلي:
(*) الجغرافيا والديموجرافيا: تعتبر الجغرافيا والديموجرافيا من أهم العوامل المادية التي تتحكم في قوة الدول، فكما قال نابليون فإن سياسة الدول تقوم على جغرافيتها؛ حيث تنعكس الجغرافيا على الأبعاد السياسية والعسكرية للدولة، وكذلك علاقاتها الخارجية. ومن الضروري أن تتناسب المساحة وعدد السكان مع موارد الدولة في إطار ما يُسمى اقتصاديًا بالحجم الأمثل، وهو النقطة التي يتناسب فيها عدد السكان مع الموارد المادية المتاحة للدولة، حتى لا يُمثل السكان ضغطًا على موارد الدولة ونموها المحقق. ووصل عدد سكان الصين إلى 1.4118 مليار نسمة وهو ما يُمثل ضغطًا على معدلات النمو التي تحققها الدولة، خاصة عند النظر إلى الولايات المتحدة التي يبلغ عدد سكانها 332 مليون نسمة، وهو حجم مثالي عند مقارنته بمعدلات النمو والناتج القومي الإجمالي لكل منهما كما سيظهر في مؤشر القوة الاقتصادية.
(*) القوة الناعمة: تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية منظومة من القوة الناعمة، التي تُمكنها من بسط هيمنتها ونفوذها على المستوى العالمي؛ حيث سعت إلى ما يُمكن تسميته بأمركة العالم، من خلال توظيف العولمة لنشر الثقافة الأمريكية في مختلف أقاليم العالم. كما تعد الولايات المتحدة الأمريكية وجهة الكفاءات من مختلف دول العالم؛ حيث تمتلك نظامًا تعليميًا جعل جامعاتها في مصاف التصنيفات العالمية. أما بالنسبة للصين، فقد بدأت وإن كانت متأخرة في الترويج لثقافتها ولغتها عبر معاهد كونفشيوس المنتشرة في أنحاء العالم، وباتت سياسة بكين وتحركاتها في هذا الجانب أكثر حيوية وإبداعًا خاصة ما يتعلق بمحاولات إحياء طريق الحرير، في إطار مبادرتها الطموحة "الحزام والطريق" أو حتى على مستوى التطور التكنولوجي الهائل.
(*) القوة العسكرية: يعتبر المحللون أن القوة العسكرية أداة نهائية لحسم الصراعات بين الدول، في إطار القوة الشاملة التي تُعد الأداة العسكرية واحدة منها وليس كلها. ويعتبر كل من واشنطن وبكين وفقًا للمؤشر العسكري قوى عملاقة وقائدة أو ممكن أن تكون مرشحة للقيادة؛ حيث تمتلكان قوة عسكرية تقليدية ونووية كبيرة، وإن كان هذا المؤشر لا زال يميل لصالح أمريكا. ووفقًا لموقع جلوبال فاير 2022، حيث خصصت الصين 250 مليار دولار لإنفاقها العسكري في ميزانية عام 2022، وبالتالي باتت تحتل المرتبة الثانية من حيث الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة الأمريكية، التي تخصص 770 مليار دولار. ويبدو من هذه المقارنة أن الصين لا تزال بعيدة تمامًا عمَّا وصلت له واشنطن في إنفاقها العسكري، وهو الأمر الذي يؤكد الهيمنة الأمريكية خلال المستقبل القريب على الأقل، خاصة وأن الصين غير مستعدة بعد لتحمل تكلفة قيادة العالم.
وبمقارنة القوة العسكرية بين البلدين نجد أن الصين تحتل المرتبة الثالثة من حيث القوة العسكرية، بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وهو ما يُمكن أن يشير إلى نقطة غاية في الحساسية، وهي تخوف واشنطن من أي تقارب روسي صيني يُمكن أن يفضي إلى تشكيل جبهة شرقية في مواجهة الغرب، في هذا السياق، قد ننظر إلى زيارة بلينكن المرتقبة إلى بكين مطلع فبراير كمحاولة أمريكية لخفض التوتر بين الجانبين، خاصة بعد زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان.
(*) القوة الاقتصادية: يُعد المؤشر الاقتصادي من أهم مؤشرات قياس قوة الدولة؛ إذ يرتبط بالناتج القومي الإجمالي للدول. وفي هذا المؤشر وفقًا لبيانات البنك الدولي 2021، تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى بناتج قومي إجمالي 23.315 تريليون دولار تقريبًا، فيما تحتل الصين المرتبة الرابعة بناتج قومي إجمالي 17.73 تريليون دولار بعد اليابان وألمانيا، وبالعودة لحجم السكان نرى أن الولايات المتحدة تتصدر هذا المؤشر؛ إذ تتجاوز الصين في الناتج القومي الإجمالي رغم عدد سكانها المثالي، فيما تحتل الصين المرتبة الرابعة من حيث الناتج القومي الإجمالي بعدد سكان يتجاوز الولايات المتحدة بمقدار أربع مرات تقريبًا. وفي هذا الصدد نرى أن الصين أدركت هذه المعادلة واتبعت سياسة تُعلي من تحديد النسل حتى تحافظ على معدلات النمو الاقتصادي المحققة، وقد تراجع عدد السكان في عام 2022 إلى 1.4118 مليار نسمة بانخفاض حوالي 850 ألف نسمة عن عام 2021، وذلك لأول مرة منذ 60 عامًا.
مؤشرات كاشفة:
وارتباطًا بما يحدث على أرض الواقع، فإن ثمَّة صراعًا أمريكيًّا صينيًّا تنعكس ملامحه في المؤشرات التالية:
(*) سياسة الحروب التجارية: بدأ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الحرب التجارية على الصين بإعلانه فرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية وصلت لحوالي 25%. إلى جانب ذلك، فرض حظرًا على تصدير أشباه الموصلات لشركة هواوي الصينية، بالإضافة إلى حرمان الشركة من استخدام التكنولوجيا الأمريكية وتصنيفها كمهددة للأمن القومي الأمريكي، وتحاول واشنطن حاليًا محاصرة تطبيق تيك توك الصيني خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه هذا التطبيق في استقطاب فئة كبيرة من الشباب والمراهقين على مستوى العالم، فمن المتوقع بلوغ عدد مستخدمي هذا التطبيق 2 مليار مستخدم نشط خلال عام 2023. وقد بدأت الولايات الأمريكية الحرب على التطبيق الناشئ مبكرًا متهمة إياه بالتجسس، وجمع المعلومات لصالح الحكومة الصينية، وهو ما تنفيه شركة بايت دانس الصينية المالكة للتطبيق. وبالفعل اتخذت أكثر من 19 ولاية أمريكية قرارًا بحظر التطبيق جزئيًا ولو على مستوى المؤسسات الحكومية، وهناك مطالبات داخل الكونجرس لفرض حظر شامل على التطبيق، وهو ما سيعد استهدافًا ممنهجًا لأي محاولة صينية للدخول إلى عصر الاقتصاد الذكي، خاصة بعد ما حدث لشركة هواوي.
(*) أزمة أشباه الموصلات، والرقائق الإلكترونية: تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الإنتاج العالمي من الرقائق الإلكترونية؛ حيث تسيطر واشنطن فقط على 12% من هذه الصناعة، فيما تنتج اليابان 15%، وكوريا الجنوبية حوالي 21%، وتايوان 22% باستثمارات أغلبها أمريكية، فيما انتقلت الصين من صفر إلى 15% من إجمالي السوق العالمية، وقد أدركت واشنطن أهمية الاستثمار والهيمنة على هذا القطاع مرة أخرى، حيث كانت تسيطر في التسعينيات على حوالي 37% من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات.
في هذا السياق، اعتبر جو بايدن أثناء افتتاحه لأحد المصانع المنتجة للرقائق الإلكترونية في ولاية أوهايو، أن الاستثمار في هذه التكنولوجيا بمثابة أمن قومي، وهو ما يوحي بأهمية هذه الصناعة ومستقبلها الواعد؛ حيث بدا مؤخرًا سعي واشنطن لتوظيف هذه الصناعة لضرب التطور التكنولوجي الصيني، والتي تُشكل عصب صناعة الهواتف الذكية والسيارات والأجهزة الإلكترونية وحتى الأسلحة.
(*) عسكرة لمناطق شرق آسيا: وفقًا للمسح الذي أجراه مجلس شيكاغو في 2022، تتزايد النظرة السلبية تجاه الصين كمهدد؛ حيث يدعم 72% من الشعب الأمريكي الانتشار العسكري في شبه الجزيرة الكورية، و67% منهم يدعمون التمركز في اليابان، ويعتبر هذا تطورًا كبيرًا ستنعكس أثاره على سياسات الحزبين، الجمهوري والديمقراطي. وتُمثل السياسة الدفاعية اليابانية الجديدة التي تضمنت تعزيز قدراتها العسكرية وزيادة حجم إنفاقها العسكري إلى 320 مليار دولار خلال الخمس سنوات المقبلة مظهرًا من مظاهر الضغوطات التي تمارسها واشنطن على الصين في محيطها الاستراتيجي، وهو ما يتصل مباشرة بعسكرة شبه الجزيرة الكورية، وذلك بهدف تحجيم الصين اقتصاديًا وعسكريًا.
(*) قضية تايوان: تُمثل قضية تايوان النموذج الأساسي والتقليدي للصراع بين بكين وواشنطن؛ حيث تستخدم واشنطن مسألة تايوان للضغط على الصين فيما يعتبره البعض محاولة لما يُمكن أن يُطلق عليه الاستدراج العسكري كما حدث في الحرب الروسية الأوكرانية. على الناحية الأخرى، رغم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسياسة الصين الواحدة إلا أنها تعلن دفاعها عن تايوان في حال تعرضت لأي هجوم. ومن غير المتوقع أن تشغل تايوان حيزًا كبيرًا خلال عام 2023، وذلك نظرًا للحكمة التي تتسم بها السياسة الصينية، وذلك دون أن ينتقص ذلك من احتمالات تحرش أمريكي بالصين عبر تايوان على غرار ما قامت به رئيسة مجلس النواب الأمريكية نانسي بيلوسي أواخر 2022.
إجمالًا؛ يبدو من خلال هذا التحليل أن واشنطن لن تسمح بأي منافسة لدورها العالمي دون تكلفة، وهو الأمر الذي يطرح على الصين علامات استفهام فيما يتصل بقدرتها على مجاراة خطوات واشنطن، لا سيَّما في مجالات القوة الناعمة، والقوة الاقتصادية، والإنفاق العسكري الذي لا زالت الولايات المتحدة تتربع على عرشه منذ الحرب العالمية الثانية. واتبعت واشنطن خطوات محددة في التعامل مع الصعود الصيني، ولكن على الناحية الأخرى لا يُمكن أن نغفل نجاح السياسة الصينية في استيعاب ذلك. ومن المتوقع أن تظهر الصين نجاحًا واضحًا خلال عام 2023في التعاطي مع هذه الضغوط لا سيَّما بعد إنهاء حالة الإغلاق الكامل التي فرضتها السلطات منذ جائحة كورونا عام 2020، وانتخاب الرئيس الصيني شي جين بينج لولاية ثالثة. ومن المحتمل أن تؤسس زيارة بلينكن لمسألة خفض التوتر خصوصًا في الأمد المنظور.