جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى الصين في الفترة من 24-26 أبريل 2024 لتعكس سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى زيادة مساحة التفاهمات مع الصين، في ظل تنامي التحديات العالمية التي تشكل تهديدًا للاستقرار العالمي، فثمة إدراك أمريكي بأهمية التنافس التعاوني، وهو التعبير الذي صكه عالم السياسة الدولية في جامعة هارفارد، جوزيف ناي، لوصف العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين باعتباره من ناحية يجمع بين حقيقة التنافس في العلاقة بين البلدين من حيث التكييف الاستراتيجي، والواقع الذي يغلب عليه الكثير من التعاون الذي تصاعد خلال العقود الأخيرة.
أهمية الزيارة
اكتسبت الزيارة أهميتها في هذا التوقيت لعدة أسباب أولها، أن الزيارة تأتي عقب موافقة الكونجرس الأمريكي على حزمة من المساعدات الخارجية، والتي تقدر بحوالي 95 مليار دولار لكل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، لا سيما مع تخصيص ثمانية مليارات دولار، لمواجهة التهديدات الصينية في تايوان ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإعطاء شركة بايت دانس الصينية تسعة أشهر لبيع منصة تيك توك مع تمديد محتمل لمدة ثلاثة أشهر، إذا كانت عملية البيع جارية. وهو التوجه الذي يعني إصرار الولايات المتحدة على الدفاع عن شركائها الرئيسيين عبر العالم لتظل تايوان بؤرة الخلاف بين الصين التي تعتبرها جزءًا من أراضيها، وتوجه الولايات المتحدة الأمريكية الداعم للميول الانفصالية لتايوان وهو ما جعلها ترسل مبعوثيها الرسميين من قيادات الإدارة الأمريكية لزيارة تايوان، بما جعل الصين تعبر عن استيائها من ذلك السلوك لتقوم بمناورات عسكرية ضخمة بالقرب من تايبيه؛ لبعث رسالة مفادها أن بكين متمسكة بمبدأ "الصين الواحدة".
وثانيها، أن الزيارة جاءت عقب موافقة مجلس النواب في 20 أبريل 2024 وبدعم واسع من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حزمة تشريعية بقيمة 95 مليار دولار تقدم مساعدات أمنية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان، إذ توفر مشاريع القوانين 60.84 مليار دولار لأوكرانيا، 26 مليار دولار لإسرائيل بما في ذلك 9.1 مليار دولار للاحتياجات الإنسانية، و8.12 مليار دولار لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك تايوان.
وتعتبر الصين أن الدعم الأمريكي والمتمثل في تخصيص الكونجرس الأمريكي لمساعدات عسكرية لتايوان، يزيد من خطر حدوث نزاع في مضيق تايوان، إذ عبر عن تلك المخاوف الناطق باسم الخارجية الصينية، وانج وين بين، في 24 أبريل 2024، معتبرًا أن التشديد على أن تعزيز الولايات المتحدة وتايوان لعلاقاتهما العسكرية لن يجلب الأمن لتايوان، وأن من شأن ذلك فقط زيادة التوترات وخطر اندلاع نزاع عبر مضيق تايوان، مؤكدًا أنه في نهاية المطاف سيكون بمثابة إطلاق المرء النار على قدميه، وأن تعزيز الروابط العسكرية بين الجزيرة والولايات المتحدة الأمريكية لن ينقذ استقلال تايوان الذي مصيره الفشل.
ونبهت الصين لعدم استبعاد اللجوء إلى القوة لاستعادة الجزيرة التي تعدها جزءًا من أراضيها، وأنها ستتخذ إجراءات حازمة وفعّالة لحماية سيادتها وأمنها وسلامة أراضيها، مطالبة الولايات المتحدة بأن توقف تسليح تايوان، وافتعال توترات جديدة، ووقف تهديد السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان. في حين اعتبر رئيس تايوان تشينج تي أن هذه المساعدات ستعزز قدرة الردع في وجه "الاستبداد والسلطوية وستحفظ السلام".
وثالثها، أن زيارة بلينكن إلى الصين، تأتي عقب زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين في الفترة من 14 إلى 16 أبريل 2024 والتي هدفت للحفاظ على مستوى من التعاون الاقتصادي الصيني الألماني من ناحية، حيث رافقه في الزيارة عدد من ممثلي الشركات الصناعية الألمانية الكبرى، ومن ناحية أخرى يعد الدعم الغربي لأوكرانيا إحدى القضايا ذات الأولوية على جدول زيارات المسؤولين الغربيين إلى الصين، وهي القضية التي حازت على جانب من مناقشات الرئيس الصيني، شي جين بينج، مع المستشار الألماني، أولاف شولتس، وكذلك جانب من مناقشات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، مع الرئيس الصيني، شي جين بينج، في ظل ما تمتلكه الصين من علاقات استراتيجية مع روسيا، حيث تسعى الدول الغربية إلى أن تقوم الصين بوساطة ناجزة تسهم في حلحلة الصراع الروسي الأوكراني.
دلالات الزيارة
عكست الزيارة العديد من الدلالات التي يمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(*) التنافس التعاوني: تُعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين قطبين اقتصاديين مؤثرين على مسارات الاقتصاد العالمي ككل، فواشنطن تحتل المركز الأول عالميًا، حيث حافظت على مكانتها كأكبر اقتصاد عالمي لعام 2023 بناتج محلى إجمالي 26.9 تريليون دولار، في حين تحتل الصين المركز الثاني بواقع 7 .17 تريليون دولار.
وتراجعت تجارة الصين مع الولايات المتحدة، حيث يقدر التبادل التجاري بين البلدين وفقًا لبيانات الإدارة العامة للجمارك الصينية في النصف الأول من 2023 إلى ما يقرب من 327.264 مليار دولار، وقد حافظت الولايات الأمريكية إلى جانب الاتحاد الأوروبي وآسيان، على مركزها في قائمة الشركاء التجاريين الثلاثة الأُوَل للصين.
كما بلغت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة 239.35 مليار دولار، فيما بلغت صادرات الولايات المتحدة إلى الصين 87.913 مليار دولار، وإدراكًا لهذه الحقائق فثمة توجه أمريكي صيني بضرورة تعزيز الشراكة القائمة على التنافس التعاوني، بدلًا من عملية التنافس القائمة على فك الارتباط بينهما، وهو الأمر الذي عبر عنه الرئيس الصيني خلال لقائه بوزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بأن الصين سعيدة برؤية الولايات المتحدة الأمريكية واثقة ومنفتحة ومزدهرة وناجحة، آملًا أن تنظر الولايات المتحدة أيضًا إلى تنمية الصين بطريقة جيدة، مضيفًا أنه ينبغي للبلدين أن يكونا شريكين وليسا متنافسين، وأن يساعد كل منهما الآخر في تحقيق النجاح بدلًا من إيذاء بعضهما البعض، والسعي إلى أرضية مشتركة وتنحية الخلافات بدلًا من الانخراط في منافسة شرسة، وترجمة الأقوال إلى أفعال بدلًا من قول شيء ما والقيام بعكسه.
(*) المخاوف المتبادلة الأمريكية الصينية: تعكس الزيارة في أحد جوانبها سعي الولايات المتحدة لتعزيز الثقة مع الصين، في ظل ما تمتلكه الصين من مفاتيح مؤثرة من الناحية الاقتصادية والسياسية على المستوى العالمي، لا سيما بعد أن بدأت الدبلوماسية الصينية تنشط في العديد من الأقاليم، ومنها الشرق الأوسط بعد نجاحها في الوساطة بين السعودية وإيران وتوقيع اتفاق بين الدولتين ليعيد استئناف العلاقات الدبلوماسية. وبرغم أن الصين تقدم العديد من المبادرات الدولية الداعمة للتنمية وللسلام العالميين، إلا أن ثمة مخاوف أمريكية في مجموعة من القضايا الاستراتيجية، بما فيها طموحات الصين بإعادة ضم جزيرة تايوان إليها، وتزايد الخلافات مع دول أخرى مثل الفلبين على أجزاء من بحر الصين الجنوبي، والمساعدات التي تقدمها بكين لموسكو في الحرب الروسية الأوكرانية، والصادرات الصينية الرخيصة التي تغرق بها أسواق الدول الغربية.
في المقابل هناك تبلور لعدد من المخاوف الصينية من سعي الولايات المتحدة الأمريكية لتطويق المصالح الصينية في منطقة المحيط الهادئ، وذلك من خلال عقد التحالفات الهادفة للحد من الصعود الصيني في تلك المنطقة، ومنها تحالف "أوكوس" الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وأستراليا، فضلًا عن تزايد المخاوف الصينية أيضًا من سعي الولايات المتحدة لعرقلة وصول الصين إلى الرقائق المتقدمة، وملاحقة بعض شركات التكنولوجيا الرائدة، مثل بايت دانس المالكة لتيك توك.
(*) الحرب الروسية الأوكرانية: تشكل الحرب الروسية الأوكرانية إحدى القضايا على أجندة المناقشات الأمريكية الصينية، ففي حين تدعم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، والذي تجسد في عقد اتفاقات أمنية ثنائية مع دول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لدعم كييف، وإقرار مجلس النواب الأمريكي لحزمة من المساعدات قدرت بـ 60.84 مليار دولار، حيث جاءت نتيجة التصويت لتقديم تمويل إلى أوكرانيا بواقع 311 صوتًا مؤيدًا مقابل معارضة 112 عضوًا جميعهم من الجمهوريين، فإن ثمة تقديرات غربية تُشير إلى أن الصين زودت موسكو بالبصريات والإلكترونيات الدقيقة ومحركات الطائرات المُسيرة، والتي عززت الصناعات العسكرية الروسية في مرحلة مؤثرة من الحرب الروسية الأوكرانية، بما أسهم في إطالة أمد الحرب وتعقد مساراتها والإخفاق في الوصول إلى تسوية سلمية للصراع.
(*) رفض احتواء الصعود الصيني: تعتقد الصين أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تطويق واحتواء الاقتصاد الصيني، ومنع صعوده أو ترجمة ذلك الصعود إلى نفوذ دولي يمكن بكين من منافسة الهيمنة الأمريكية على المستوى الدولي. وقد تجلى ذلك في مبدأ الرئيس الأسبق أوباما بالتوجه شرقًا، والذي هدف بالأساس إلى تعزيز الوجود الآسيوي لأمريكا لمنع الصعود الصيني.
كما شكلت حرب الرقائق بين أمريكا والصين مؤشرًا على ذلك النهج، حيث نجحت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في التوصل لاتفاق مع هولندا واليابان، في 27 يناير 2023 بهدف تقييد تصدير بعض آلات إنتاج الرقائق الإلكترونية المتقدمة للصين؛ لتنضم الدولتان لمساعي واشنطن الرامية لتقويض بكين تكنولوجيًا، ومن ثم إبطاء تطورها العسكري والتقني المرتبط بالذكاء الاصطناعي. وقد عبر عن رفض ذلك التطويق وانج يي، وزير الخارجية الصيني، في لقائه بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن خلال زيارته لبكين، مشيرًا إلى أنه بشكل عام "بدأت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تستقر، في الوقت نفسه لا تزال العوامل السلبية في العلاقة تزداد وتتراكم، لقد تم قمع حقوق التنمية المشروعة للصين بشكل غير معقول، وتواجه مصالحنا الأساسية تحديات"، مؤكدًا أن سلبيات العلاقات الثنائية تزداد وتتراكم؛ لأن الولايات المتحدة تبنت سلسلة لا نهاية لها من الإجراءات لقمع الاقتصاد الصيني والتجارة والعلوم والتكنولوجيا، معتبرًا تلك التصرفات ليست منافسة عادلة، ولا تؤدي إلى إزالة المخاطر، بل إنها تخلق المخاطر بحد ذاتها.
مجمل القول،يُشكل التعاون التنافسي أحد مرتكزات مسار العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، في ظل سعي الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على النظام الدولي القائم، والذي يضعها كقوة مهيمنة على قمته، في حين تحاول الصين ترجمة مكامن القوة الاقتصادية إلى مكانة مؤثرة في تفاعلات النظام الذي يبدو أنه لا يزال قيد التشكيل، بما جعل اللقاءات بين قادة البلدين حيوية للحفاظ على استقرار الاقتصاد الدولي ككل، حتى في ظل محاولة كل طرف أن ينهي الصراع المكتوم لصالحه.