منذ منتصف العام الجاري 2022، تحاول مجموعة "فاجنر" الروسية الخاصة، المتواجدة في دول إفريقية، لا سيما في مالي وموزمبيق وجمهورية إفريقيا الوسطى، القيام بدور تجاري واقتصادي بالتوازي مع الدور الأمني الذي أعلنته في بداية تمركزها في تلك الدول، فوفقًا لتقرير لوكالة الأخبار البلجيكية "The Brussels Times"، فإن المجموعة الروسية تواجه في الوقت الراهن اتهامات متعلقة بتورطها في عمليات تجارة وتهريب الألماس من جمهورية إفريقيا الوسطى إلى بلجيكا.
مما سبق، تُثار تكهنات حول التوجه الجديد الذي تسعى الشركة الأمنية الروسية التي أسسها العميد السابق في الجيش الروسي "ديمتري أوتكين" مارس عام 2014، لتحقيقه في الأراضي الإفريقية لتعزيز النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي الروسي ضمن الاستراتيجية القائمة على استعادة جزء من النفوذ السوفييتي متعدد الأوجه في إفريقيا، وهو ما أقلق بعض الدول الأوروبية وعلى رأسهم فرنسا، معتبرة أن موسكو تستغل الفراغ الأمني جراء انسحاب القوات الأجنبية وتنامي نشاط الجماعات الإرهابية والانقلابات العسكرية في دول النزاعات الإفريقية للتمدد داخلها.
خريطة الانتشار:
تجدر الإشارة إلى أن "فاجنر" Wagner Group التي يتولى إدارتها في الوقت الحالي "يفجيني بريجوجين" رجل الأعمال الروسي المقرب من الإدارة الروسية والمعروف باسم "طاهي بوتين"، تتمتع بموطئ قدم قوى من خلال مكاتبها المنتشرة في عدد من الدول الإفريقية. وتعكس خريطة الانتشار التي سيتم توضيحها، الأهداف التي تسعى الشركة شبه العسكرية الروسية لتحقيقها في دول القارة، خاصة وأن مؤسسها يرفع شعار "توفير الدعم العسكري مقابل الذهب"، وذلك على النحو التالي:
(*) دحر المتمردين في جمهورية إفريقيا الوسطى: انتشرت عناصر "فاجنر" بالدولة الإفريقية الغنية بالمعادن في البداية عام 2017، حينما طلب رئيسها "فوستين أرشانج تواديرا" الذي تولى مقاليد الحكم في 2016، من مجلس الأمن الدولي دعم بلاده بالقوات الأمنية لمواجهة العناصر المتمردة، وبالفعل استجابت المنظمة الأممية، ودعمت جيش إفريقيا الوسطى بـ 175 مدربًا روسيًا فقط، وهو ما دفع "تواديرا" لزيارة العاصمة موسكو في أكتوبر 2017، وإبان الزيارة وقع عدد من الاتفاقيات الأمنية مع نظيره الروسي "فلاديمير بوتين"، وطلب بتوفير موسكو مزيد من الدعم العسكري لبلاده مقابل إمدادها بكميات كبيرة من الألماس والذهب واليورانيوم، وفي إطار تلك الاتفاقيات ومع نمو الميليشيا الإرهابية في وسط إفريقيا، ناشد "تواديرا" العام الماضي، روسيا مجددًا لدعمه لدحر متمردي «سيليكا» (تحالف من المتمردين الإسلاميين) الذي أطاحوا بنظام الرئيس السابق "فرانسوا بوزيزي" وينتشرون في مدينة بوسانجوا، وبالفعل استجابت موسكو ونشرت المئات من مجموعة فاجنر".
(*) توفير الأمن والحماية للمجلس العسكري في مالي: وصلت الدفعة الأولي من عناصر "فاجنر" إلى الدولة الواقعة في غرب إفريقيا وانتشرت بالقرب من القاعدة العسكرية 101، في محيط مطار موديبو كيتا الدولي بالعاصمة باماكو، في ديسمبر 2021، استجابة لطلب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في مالي الكولونيل "أسيمي غويتا"، لتوفير الأمن والحماية والاستقرار للنظام ومساعدته في مواجهة التهديدات الإرهابية التي تقوم بها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" الإرهابية (فرع تنظيم "القاعدة" الإرهابي في مالي)، ووفقًا لإحصائيات المنظمات الدولية، نشرت "فاجنر" في يناير الماضي نحو 200 فرد من قوتها في مدينة "موبتي" وسط مالي، وانصب دورهم على توفير الأمن للمجلس العسكري والقادة السياسيين وتدريب قوات الدفاع المالية على صد الهجمات المستمرة لمقاتلي "نصرة الإسلام والمسلمين" وهذا مقابل حصول "فاجنر" على 10.8 مليون دولار رسومًا شهرية وامتيازات لحقوق التعدين، إضافة لذلك، فإن القوات الروسية شبه العسكرية سعت لتعظيم انتشارها وأرسلت في يونيو الماضي عقب انسحاب "قوة برخان" الفرنسية من مالي، جنودها إلى منطقة ميناكا شمال شرق مالي.
(*) مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي في موزمبيق: بداية الظهور الأول لحوالي 200 من عناصر "فاجنر" في فبراير 2019، بالعاصمة مابوتو، بهدف مساعدة النظام الحاكم بالدولة الواقعة جنوب شرقي القارة الإفريقية على مواجهة الجماعات الإرهابية، خاصة تنظيم "داعش" الذي شن عدة هجمات على منطقة "كابو ديلجادو" الغنية بالنفط وتقطنها أغلبية مسلمة، ومع ذلك فقد كشفت مصادر مطلعة أن العمليات العسكرية لقوات "فاجنر" بالتعاون مع قوات موزمبيق لم تنجح في مواجهة الإرهاب الداعشي.
أهداف توسعية:
في إطار ما تقدم، يمكن القول إن خريطة الانتشار السابق ذكرها، تكشف عن وجود جملة من العوامل التي ساهمت في توغل "فاجنر" وانتشارها بهذا الشكل لتحقيق عدة مكاسب على المستوى السياسي، الاقتصادي، التجاري، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(&) استغلال ضعف البيئة الأمنية في بعض الدول الإفريقية لتحقيق مكاسب اقتصادية: لم تكتفِ "فاجنر" بمساندة الدول الإفريقية عسكريًا على مواجهة الجماعات الإرهابية والقوى المتمردة، بل قامت بدور اقتصادي متنوع، تمثلت أهم ملامحه في التنقيب عن الثروات الطبيعية، وهو ما كشفه في فبراير 2022، "ستيفن تاونسند" قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) آنذاك، قائلًا: إن "فاجنر ومالي تعاقدتا على أن تدفع باماكو للمجموعة 10 ملايين دولار شهريًا، ومقابل ذلك ستقوم مالي بالمتاجرة في الموارد الطبيعية كالذهب والأحجار الكريمة من أجل دفع هذا المبلغ"، كما كشفت وسائل إعلام إفريقية عن حصول الشركة الأمنية على 78% من أسهم الشركة الوطنية "مارينا جولد"(المسؤولة عن تعدين الذهب في مالي)، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى كان الدخول مشروط بحصول "فاجنر" على نسبة من الذهب والألماس مقابل توفير الأمن أيضًا.
(&) تسهيل عملية الانتشار في إفريقيا مقابل مبالغ ضئيلة: تطلب العديد من الشركات الأمنية الخاصة مبالغ مالية مرتفعة مقابل توفير الأمن لبعض الدول، إلا أن "فاجنر" تمكنت من التوسع والانتشار في دول القارة الإفريقية بسبب وضعها مبالغ وصفت بأنها "ضئيلة" لهذه الدول، ووفقًا لتصريحات صحفية لـ"يفجيني شباييف" الضابط العسكري الروسي السابق، في نوفمبر 2019، فإن الشركة الأمنية الروسية تطالب بمبلغ من (1800-4700) دولار عن كل مجند، وذلك بخلاف بعض الشركات وخاصة الأمريكية منها مثل شركة "بلاك ووتر" العسكرية، التي تأخذ ما بين 15 إلى 25 ألف دولار عن كل فرد من أفرادها، وهو الأمر الذي جعل عدة بلدان إفريقية تتجه نحو الشركة الروسية، التي تمكنت من اكتساح هذه البلدان وفرضت شروطها على حكامها بل وتمكنت من توسيع نشاطها التجاري.
(&) قوة مديرها العسكري الروسي في توسيع العلاقات مع إفريقيا: إن من ضمن أسباب انتشار "فاجنر" في إفريقيا أن مديريها "يفجيني بريجوزين" المعروف إعلاميًا بـ"طباخ بوتين" يمتلك مهارات القيادة وتكوين علاقات مع الشركاء والوسطاء الماليين، مقابل تحقيق كل ما يريده، وهو ما أدركته الدول الغربية التي سارعت على الفور بفرض عقوبات على الشركة الأمنية لمحاصرة النفوذ الروسي بإفريقيا، كان آخرها في فبراير الماضي، إذ فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على "فاجنر" و8 أشخاص و3 شركات مرتبطة بها، بسبب الممارسات المزعزعة للاستقرار التي يقوم بها أفرادها.
تأسيسًا على ما سبق؛ يمكن القول إن روسيا حتى وإن لم تعترف بشكل رسمي بالشركة الأمنية شبه العسكرية، إلا أنها لن تتخلى في إطار الاستراتيجية الروسية نحو إفريقيا عن عناصر "فاجنر" الذين استعانت بهم مؤخرًا في النزاع الروسي الأوكراني، لمساندة قواتها وتوسيع نفوذها الاقتصادي والتجاري في بلدان القارة الإفريقية التي تتمتع بالعديد من الثروات المعدنية والموارد الطبيعية، وهو ما جعلها خلال السنوات الأخيرة مطمعًا للجماعات الإرهابية.