وسعت التنظيمات الإرهابية في الفترة الأخيرة دائرة أنشطتها الإجرامية، متمثلة في نقل بعض أعمالها العنيفة من البر والجو إلى البحر، وذلك بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب الممكنة، التي تساعدها على توفير الموارد المالية اللازمة لتنفيذ أجندتها؛ وبات مصطلح "الإرهاب البحري" محل دراسة من قبل الخبراء والمتخصصين في أغلب المؤسسات المعنية على المستويين الإقليمي والدولي، للوقوف على الأسباب الكامنة التي تدفع هذه التنظيمات إلى استهداف منشآت النفط والغاز، بالتركيز على ضرب خطوط الأنابيب والناقلات والمصافي النفطية.
وتجدر الإشارة إلى أن الهجمات الإرهابية التي تشهدها الناقلات النفطية في البحار والمحيطات في الوقت الحالي، والتي كان آخرها في 16 نوفمبر الجاري، إذ تعرضت ناقلة نفط قبالة سواحل عمان، لهجوم بطائرة مسيرة مفخخة؛ ليست وليدة اللحظة، حيث شهد العقدان الماضيان، هجمات متعددة نفذتها بعض الميليشيات المتطرفة سواء في منطقة الشرق الأوسط أو إفريقيا بجانب أمريكا اللاتينية، وفي البداية لم تُبد دول المجتمع الدولي اهتمامًا كبيرًا بهذه الهجمات، وهذا الصمت استغلته تلك التنظيمات، وهو ما يفسر سبب تزايد معدل الهجمات الإرهابية على البحار خلال السنوات الخمس الأخيرة، الأمر الذي يجبر دول العالم على وضع استراتيجيات فعّالة تسهم في وقف أو التقليل من حدة هذه الهجمات وانعكاساتها على اقتصاديات الدول.
هجمات متنوعة:
اعتمدت التنظيمات الإرهابية على عدة وسائل لاستهداف السفن التجارية والناقلات النفطية في البحار والمحيطات، من بينها أعمال القرصنة والزوارق الانتحارية ثم الألغام البحرية، وصولًا إلى استخدام الصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة، ومن أبرز الهجمات التي شنتها على مدار السنوات الماضية، ما يلي:
(*) تنظيم القاعدة الإرهابي والقرصنة البحرية: كانت أعمال القرصنة خلال السنوات الماضية من ضمن الوسائل التي تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية لاستهداف الملاحة، إما بخطف السفينة وطاقمها، أو الاستيلاء على محتوياتها، وصولًا إلى تنفيذ هجوم انتحاري لإغراقها، وقد ركز تنظيم "القاعدة" منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وخاصة بعد إعلان واشنطن "الحرب على الإرهاب"، على وضع الهجمات التي تستهدف الملاحة البحرية ضمن استراتيجيتها الإرهابية، وعليه فإن أبرز أعمال القرصنة البحرية كانت من نصيب تنظيم القاعدة، الذي كان على مدار السنوات الماضية الداعم والممول الرئيسي بالأسلحة المختلفة للقراصنة المنتشرين تحديدًا في المناطق الواقعة جنوب البحر الأحمر، سواء في اليمن أو إريتريا أو الصومال، مركزًا على تهديد واستهداف المصالح الأمريكية بهذه المناطق.
ففي منتصف أكتوبر عام 2000، تبنى تنظيم القاعدة هجومًا نفذه "انتحاريان" كان يستقلان زورقًا محملًا بأكثر من 200 كيلو جرام من المتفجرات، مستهدفا المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" في أثناء وجودها في ميناء عدن للتزود بالوقود، وهو ما نجم عنه انفجار هائل في هيكل المدمرة أدي إلى مقتل 17 بحارًا أمريكيًا وإصابة 39 آخرين، وإضافة إلى ذلك فإن حركة الشباب الصومالية (التابعة لتنظيم القاعدة في إفريقيا) اختطفت في 2014، سفينة تابعة لدولة كينيا (الواقعة في شرق إفريقيا) واحتجزت وقتها 11 بحارا كرهائن من مختلف الجنسيات، بهدف المساومة بهم.
(*) ميليشيا الملالي والألغام البحرية: مثلت الألغام أحد أبرز أدوات التنظيمات الإرهابية لاستهداف الناقلات النفطية وسفن الشحن التجارية، وكشفت غالبية التفجيرات التي شهدتها الملاحة الدولية، أن معظم الألغام البحرية التي اعتمدت عليها بعض الميليشيات الإرهابية كانت مصنوعة في إيران، ففي يونيو 2019، تعرضت ناقلة النفط اليابانية "كوكوكا كاريدجس" لهجوم جراء انفجار لغم في بحر عُمان، وتوصلت التحقيقات الأمريكية إلى أن إيران، هي المتسببة في هذا الهجوم، وذلك بعدما توصلت القيادة المركزية الأمريكية إلى أن قارب دورية تابع للحرس الثوري الإيراني (تصنفه واشنطن منظمة إرهابية) هو من وضع هذا "اللغم المغناطيسي"، وبجانب ذلك فإن ميليشيا الحوثي الإرهابية (ذراع إيران في الأراضي اليمنية) لطالما اعتمدت على الألغام البحرية إيرانية الصنع في الهجمات الإرهابية التي استهدفت ناقلات السفن التجارية في البحر الأحمر ، وأعلنت أواخر 2018، عن امتلاكها نوعين من هذه الألغام، هما "مرصاد 1" و" مرصاد 2" ذوي الصناعة الإيرانية والسوفيتية.
(*) تنظيم داعش والعبوات الناسفة: برزت العبوات الناسفة من ضمن الأدوات التي اعتمدت عليها بعض التنظيمات الإرهابية لاستهداف المنشآت والسفن النفطية، ويعد تنظيم داعش الإرهابي من أبرز الجماعات المستخدمة لها. ففي مطلع سبتمبر 2018، فجرت مجموعة من العناصر المسلحة التابعة لداعش، خط أنابيب نقل النفط الخام في محافظة كركوك بشمال العراق بواسطة عبوتين ناسفتين، وفي يناير 2017، أعلن داعش مسؤوليته عن التفجير الذي استهدف معمل "حيّان" للغاز بريف حمص الشرقي بالأراضي السورية، وكشفت وسائل إعلام التنظيم أن عملية التفجير تمت بعدد كبير من العبوات الناسفة.
(*) الحوثيون والصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة: اعتمدت بعض التنظيمات الإرهابية على سلاح الطائرات المسيرة "الدرونز" كوسيلة لاستهداف الناقلات والمنشآت والسفن النفطية، وتعد ميليشيا الحوثي، أبرز التنظيمات التي اعتمدت بشكل مكثف على هذه الوسيلة منذ سيطرتها على العاصمة اليمنية صنعاء في 2014 وعدد من المحافظات اليمنية. وتعتبر المُسيرات الإيرانية الصنع أحد أهم أدواتها المستخدمة في هذا الشأن، فعلي سبيل المثال، تلاحظ أن الثلاث هجمات التي شنّها الحوثيون في الفترة من (18- 22 أكتوبر الماضي) على موانئ تصدير النفط في كل من الضبة بمحافظة حضرموت، النشيمة بمحافظة شبوة، بالإضافة إلى استهدافهم ميناء قنا التجاري والنفطي في مديرية رضوم بمحافظة شبوة، في 11 من نوفمبر الجاري، كانت باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة. هذا بالإضافة إلى أن واشنطن كشفت -في تقارير منشورة- أن الهجوم الذي تعرضت له ناقلة النفط "باسيفيك زيركون" قبالة ساحل عمان في 16 نوفمبر الجاري، نُفذ بطائرة مسيرة إيرانية، ولم تستبعد ضلوع ميليشيا الحوثي أو أحد أذرع إيران بالمنطقة في هذا الهجوم، خاصة أن الناقلة يملكها الملياردير الإسرائيلي "عيدان عوفر".
دلالات متعددة:
وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول إن تركيز التنظيمات الإرهابية نُصب أعينها على استهداف منشآت وناقلات النفط بالوسائل المختلفة التي سبق الإشارة إليها، يرجع إلى جملة من الدلالات، على النحو التالي:
(*) استهداف اقتصاد الدول المعتمدة على النفط: يسعى الإرهابيون من جراء الهجمات النفطية إلى استهداف اقتصاد الدول التي تعتمد على النفط بشكل كبير، ولذلك فإن استهداف منشأة نفطية لن يلحق الضرر بالأوضاع الاقتصادية للبلد فقط، بل سيمتد الأمر إلى التأثير على القوة السياسية أو التجارية أو العسكرية، وهو ما قد ينجم عنه حالة من الفوضى والاضطرابات السياسية في الدولة، التي تكن عرضة لجرائم الإرهابيين على المنشآت النفطية والتجارية، فمن المعروف أن الاقتصاد يعد العامل الأبرز الذي يحدد نهضة وقوة دولة عن غيرها، فالاقتصاد القوي ينعكس على باقي مجالات البلد، وهو ما يفسر سبب تركيز تنظيم القاعدة على استهداف منشآت الطاقة التي تعتمد عليها واشنطن بشكل خاص، لأنه في حال نجحت في ذلك يعني إحداث "ضربة" للاقتصاد الأمريكي المعتمد على النفط، كما ستؤدي أيضًا هذه الهجمات إلى حدوث اضطرابات في سوق الطاقة العالمي، وهذا بدوره سيؤثر على أسعار الطاقة العالمية.
(*) إلهاء المجتمع الدولي عن تطورات داخلية: في بعض الأحيان، تكون منشآت الطاقة هدفًا للإرهابيين من أجل إلهاء المجتمع الدولي عن أعمال أخرى لهذه الجماعة، أو من أجل صرف الأنظار عن تطورات تحدث داخل الدول الداعمة لها، فعلى سبيل المثال، فإن توقيت استهداف الحوثيين للموانئ النفطية، تحديدًا خلال شهر أكتوبر الماضي، جاء بالتزامن مع الاحتجاجات التي تشهدها إيران في الداخل بسبب انتهاكات نظام الإيراني لحقوق الإنسان، واتجاه العديد من الدول الأوروبية إلى فرض عقوبات على طهران، وعليه فإن ميليشيا الحوثي وُجهت من نظام الولي الفقيه، ولإظهار ولائها له، باستهداف تلك الموانئ في محاولة منها لصرف نظر المجتمع الدولي عما يحدث بالداخل الإيراني، خاصّة أن "النفط" كما ذكرنا هو "شريان الحياة" لاقتصاديات بعض الدول.
(*) الضغط على بعض الدول لتحقيق مطالب الإرهابيين: تتجه بعض الميليشيات لاستهداف الموانئ النفطية بهدف تحقيق بعض مطالبها، سواء المتعلقة بالحصول على تعويضات مالية من خلال احتجازها للسفن النفطية وطاقمها، وهو ما يجعلها تساوم الدول مالكة السفينة للدفع مقابل الإفراج عن سفينتها المحتجزة أو إطلاق سراح بعض عناصرها إذ كان هناك محتجزين إرهابيين لدي الدول صاحبة السفينة، أما الأمر الآخر هو الحصول على جزء من أراضي وممتلكات الدولة، كما يحدث في اليمن، فميليشيات الحوثي استهدفت المؤسسات الحيوية النفطية، خلال الفترة الماضية، للضغط على الحكومة اليمنية الشرعية لدفع رواتب جميع موظفين الدولة من عائدات النفط في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، خاصة بعد انتهاء الهدنة في 2 أكتوبر الماضي، ورفض الحوثيين تجديدها، بل هددوا باستهداف المنشآت النفطية لدول قوى التحالف في حال لم يتم الاستجابة لمطالبها.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن استهداف التنظيمات الإرهابية لسفن الشحن والناقلات النفطية سيستمر خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيؤثر يشكل سلبي على الملاحة الدولية وسيلقي بظلالها على سوق النفط العالمي، الذي يعاني في الوقت الحالي من تدهور كبير جراء الحرب الروسية الأوكرانية؛ وسيحدث ذلك طالما لم تتدخل دول المجتمع الدولي وتضع حدًا لـ"الإرهاب البحري" والدول الداعمة له. هذا بالإضافة إلى توفر عدة عوامل جاذبة، تظل طوال الوقت محفزة على ارتكاب عمليات إرهابية، هي صعوبة نقل المنشآت النفطية، وتمركز بعض منشآت النفط والغاز في أماكن نائية بعيدة عن الحدود الوطنية للدولة، أو في المسافات الواسعة التي تفصل بين الدول، بالإضافة إلى أن بعض البحار والمحيطات لا تتمتع بالرقابة الدولية الكافية.