يستضيف رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، يومي 26 و27 مايو 2024، كلًا من رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا ورئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانج، في قمة استثنائية بعد 4 سنوات ونصف السنة من انعقاد القمة الثامنة بين قادة البلدان الثلاثة، رغم اتفاق سول وبكين وطوكيو على الانعقاد السنوي لفعالية القمة منذ 2008، في ظل وجود عدد من آليات التعاون بين كبار المسؤولين ووزراء الخارجية منذ تدشين صيغة التعاون الثلاثي عام 1999.
وعلى الرغم من تصاعد التوترات خلال العام الماضي بين اليابان وكوريا الجنوبية من جهة والصين من جهة أخرى، إلا أن التطورات المتسارعة في بحر الصين الجنوبي بشأن تايوان ونتيجة لتوثيق التعاون بين الولايات المتحدة وكوريا واليابان خلال قمة كامب ديفيد الثلاثية في أغسطس،2023 وعقد مناورات عسكرية مشتركة، بالتوازي مع تواتر التجارب الصاروخية لكوريا الشمالية والمخاوف اليابانية الكورية من التعاون الدفاعي بين موسكو وبيونج يانج باتهامهم الأخيرة بتزويد روسيا بالأسلحة وقذائف المدفعية مقابل المساعدة الروسية في تطوير صناعات الدفاع لكوريا الشمالية.
دوافع القمة
بدأ التعاون الثلاثي بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية عام 1999، بغرض تعزيز قدرة البلدان الثلاثة على معالجة الأزمة المالية الآسيوية حينها، وتطورت مسيرة التعاون بالاتفاق على عقد قمة سنوية بين القادة منذ عام 2008، وتحويل صيغة التعاون والاجتماعات التنسيقية بين كبار المسؤولين إلى إطار مؤسسي منظم منذ 2011 بتدشين أمانة التعاون الثلاثي لدعم السلام والازدهار المشترك وتعزيز القيم المشترك بين الشعوب.
وعلى الرغم من ذلك تعذر عقد القمة منذ النسخة الثامنة التي عقدت في مدينة تشينجداو الصينية في ديسمبر 2019، نتيجة لعدد من العوامل على رأسها تفشي جائحة "كوفيد-19" والخلافات اليابانية الكورية بشأن قضايا العبودية الجنسية، إلا أن عودة القمة جاءت على وقع العديد من المتغيرات الإقليمية والدولية المرتبطة بالأطراف الثلاثة، ترتبط ببحث التعاون في 6 مجالات (الاقتصاد والتجارة والتنمية المستدامة والتكنولوجيا والعلوم والصحة ومواجهة الأوبئة والاستجابة للكوارث):
(*) بروز التحالفات الأمنية الأمريكية في آسيا: أعادت الإدارة الأمريكية في عهد جو بايدن ترتيب أوراق منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عبر إحياء تحالفات أمنية، مثل التحالف الأمني الرباعي "كواد" وإنشاء تحالفات جديدة إلى جانب دعم مركز اليابان كقوة إقليمية منافسة مواجهة للصين، عبر تدشين تحالف ثلاثي بمشاركة كوريا الجنوبية، إلى جانب إبداء الدعم الياباني للفلبين في مواجهات احتكاكات سفن الدورية الصينية بسفن الإمداد الفلبينية ببحر الصين الجنوبي خلال القمة الثلاثية بين زعماء أمريكا واليابان والفلبين في البيت الأبيض أبريل 2024.
ودشنت قمة كامب ديفيد في أغسطس 2023 بين قادة الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان دعائم تحالف أمني جديد وواعد، يتجاوز خلافات الماضي الاستعماري لليابان في ضوء رغبة البلدان الثلاثة لمجابهة التهديد الكوري الشمالي، بعدما أثارت الأنشطة الصاروخية لبيونج يانج مخاوف جيرانها، واجتياز أحد الصواريخ للمجال الجوي الياباني قبل سقوطه في البحر، في خضم تقارب واضح بين الصين وكوريا الشمالية، إذ أجرى الرجل الثالث في الصين، كبير المشرعين رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني (الرابع عشر) لنواب الشعب الصيني تشاو له جي، زيارة إلى بيونج يانج في 12 أبريل 2024 بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ75 لإقامة العلاقات بين البلدين، وشارك إلى جانب رئيس اللجنة الدائمة لمجلس الشعب الأعلى بكوريا الشمالية تشوي ريونج هاي في إطلاق "عام الصداقة" بين البلدين.
وعلى الجانب الصيني، يمثل الانحياز الياباني والكوري للتعاون مع السلطة الجديدة في تايوان بزعامة لاي تشينج تي، الذي يعد من صقور الحزب الديمقراطي التقدمي المؤيد للانفصال عن الصين، مؤشرًا خطيرًا يُضعِف جهودها لفرض سيادة البر الرئيسي على الجزيرة، إذ انتقدت الخارجية الصينية حضور مشرعين من كلا البلدين لحفل تنصيب الرئيس الجديد لتايوان في 20 مايو 2024.
(*) بروز العامل الروسي: اعتبرت كوريا الجنوبية واليابان تعميق الانخراط الروسي بالمنطقة وتقاربها العسكري مع كوريا الشمالية، عاملًا محفزًا على سلوك كوريا الشمالية باتجاه التخلي المطلق عن أي مفاوضات مقبلة لنزع السلاح النووي، إذ يبرز التخوف من تعاون دفاعي بين موسكو وبيونج يانج يسمح للأخيرة بتطوير منظومتها التسليحية نظير الدعم العسكري في الحرب بأوكرانيا.
ونتيجة لتلك المخاوف، تغيرت سياسات الجانبين الياباني والكوري لتخفيف التوترات بالمنطقة، وكان على رأسها محاولة تفكيك تلك التهديدات عبر تعزيز التواصل مع الصين لممارسة ضغوط على روسيا، لتخفيف وتيرة التعاون العسكري والدفاعي المحتمل مع كوريا الشمالية، وإقناع الأخيرة بوقف تجاربها الصاروخية الاستفزازية، بينما تراجعت كوريا الجنوبية خطوة إلى الوراء في انحيازها لأوكرانيا عبر الالتزام بسياستها بعدم إمداد أي دولة تخوض صراعًا عسكريًا بأسلحة فتاكة، وعزز هذا النهج اتجاه سول وموسكو لتهدئة المخاوف المتبادلة، وتعيين سفير جديد لروسيا في سول، يناير الماضي.
ومع تدهور العلاقات اليابانية الروسية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية ووقف مباحثات السلام بين الجانبين، اختار رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا التعامل مع الخطر الكوري الشمالي عبر المباحثات المباشرة مع زعيمها كيم جونج أون، ففي 31 يناير 2024 أعلن اعتزامه التواصل مع "كيم" لتخفيف التوتر بين البلدين، وهو ما أكدته كيم يو جونج (شقيقة زعيم كوريا الشمالية) في 25 مارس الماضي بأن كيشيدا طلب لقاء الزعيم الكوري، بينما أكدت ارتهان اللقاء بتغير سياسات طوكيو في إطار التحالف مع الولايات المتحدة.
(*) الحروب التجارية والتكنولوجية: تمثل العلاقات الاقتصادية والتجارية أحد عوائق فك الارتباط بين البلدان الثلاثة، إذ تمثل الصين الشريك التجاري الأول لكل من اليابان بقيمة تتراوح بين 350 إلى 359 مليار دولار سنويًا، وهو ما يعادل خمس التجارة الخارجية لليابان حسب بيانات إحصائية على موقع وزارة الخارجية اليابانية، بينما يبلغ حجم التجارة بين بكين وسول 310 مليارات دولار، إلا أن تراجع العلاقات بفعل التوترات الإقليمية وتزايد التعاون العسكري لكل من اليابان وكوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة، وهو ما يظهر في تراجع تدفق الاستثمارات المباشرة من كلا البلدين، إذ بلغت الاستثمارات الكورية الجنوبية في الصين لعام 2023 نحو 1.87 مليار دولار بنسبة تراجع بلغت 78% عن الأعوام الماضية حسب وكالة بلومبرج لتخرج الصين من قائمة أكبر خمس وجهات للاستثمارات الكورية المباشرة منذ 1992، فيما جاءت قيمة الاستثمارات اليابانية إلى الصين في 2022 بالمرتبة الثالثة بقيمة 9.2 مليار دولار.
ويأتي لقاء القمة بعد أيام من رفع الولايات المتحدة رسومًا جمركية بنسبة 100% على السيارات الكهربائية الصينية، إلى جانب إلغاء تراخيص تصدير تسمح لشركة هواوي الصينية باستيراد رقائق إلكترونية من شركتي "إنتل" و"كوالكوم"، وتتخوف الصين من ممارسة واشنطن ضغوطًا على اليابان وكوريا الجنوبية لتطبيق إجراءات عقابية بحق الشركات والسلع الصينية، بعدما انضمت طوكيو في العام الماضي لتحالف مع واشنطن وأمستردام لتقييد صادرات معدات إنتاج الرقائق الإلكترونية إلى بكين نهاية يناير 2023.
فرص وتحديات
جاءت القمة بمبادرة من الرئاسة الدورية لكوريا الجنوبية، لتعكس رغبة كوريا الجنوبية في الحفاظ على مصالحها مع الصين مع التمسك بعلاقات أمنية ودفاعية قوية مع الولايات المتحدة خلال مرحلة مفصلية في المشهد السياسي الأمريكي، خاصة أن الغطاء الأمني لواشنطن يظل رهينة لشخصية ساكن البيت الأبيض، وهو ما يلقي بظلاله على حالة عدم اليقين لدى حلفاء الولايات المتحدة، وعلى الرغم من تكفل اليابان بجانب من تكاليف نفقات القوات الأمريكية لديها، إلا أن احتمال عودة ترامب للبيت الأبيض قد يفرض تكاليف إضافية على ذلك الوجود في كل من اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول الآسيوية التي وسع الجيش الأمريكي انتشاره بقواعدها، وهو ما يمثل عبئًا إضافيًا على تلك الدول في ظل تحديث بنية التحتية العسكرية وتعزيز إنفاقها الدفاعي لتواكب معيار الناتو (2% من الناتج المحلي الإجمالي).
كما يمثل التطلع لإنجاز ضم تايوان وتخفيف القيود الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية الأمريكية أمام الصعود الصيني أحد أبرز شواغل الرئيس الصيني شي جين بينج، بعد تثبيت موقعه أمينًا عامًا للحزب الشيوعي ورئيسًا للجنة العسكرية المركزية، وهو ما يفرض العودة لإطار التعاون رغم الخلافات والتباينات في الملفات الإقليمية وحتى على المستويين الثنائي والثلاثي. بينما قد يمثل التعاون الاقتصادي والتجاري وتخفيف القيود على تدفق الاستثمارات أحد الثمار المحتملة للقمة المقبلة والتي تؤسس لإعادة بناء الثقة بين الأقطاب الثلاث.
وإجمالًا؛ تتجه الأطراف الثلاثة لإعطاء مساحة معتبرة لتبادل وجهات النظر تتضمن نقاط الخلاف الجوهرية بينها، مع الحفاظ على الانضباط في العلاقات بين الأطراف الثلاث، خاصة على الجانب الاقتصادي، في ظل صعوبة فك الارتباط وحالة عدم اليقين بشأن حدود التغير المحتمل في سياسات واشنطن مع بلدان المنطقة رغم الالتزام القومي الأمريكي بالتصدي لصعود الصين، ومن ثم يظل المتغير الأهم للبلدان الثلاثة (الصين واليابان وكوريا الجنوبية) في إحياء آلية التعاون الثلاثي والحفاظ على بُعدِها المؤسسي هو الحفاظ على قناة تواصل دائمة يمكن من خلالها تبادل الرؤى والمواقف، ومن غير المحتمل أن تُحدِث اختراقًا كبيرًا في ملفات تايوان أو كوريا الشمالية ونزع سلاحها النووي أو حتى العودة بالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة لما قبل قمة كامب ديفيد في أغسطس 2023.