تنطوي العلاقات الأمريكية الكندية على التعاون الثنائي الكبير بين دولتي كندا والولايات المتحدة المتجاورتين. فقد اتسمت العلاقات الكندية الأمريكية بعمقها ونطاقها الواسع منذ القدم، نظرًا للحدود المشتركة بين الدولتين والروابط الثقافية والاقتصادية الوثيقة والمتشابكة بينهما. فقد نجم عن التراث التاريخي والثقافي المشترك بين الدولتين إقامة واحدة من أكثر العلاقات الدولية استقرارًا في العالم. وتمثل التجارة بين الدولتين أهم صور هذا التعاون، فضلًا عن أن السياحة والهجرة بين البلدين أدت إلى زيادة التوافق بينهما.
وتغيرت معادلات هذا التوافق بعد قدوم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض عام 2016، عندما صرّح بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" والدعوة إلى فرض رسوم بنسبة 25% على قطاع السيارات. وتضمن هذا التصريح تهديدًا وجوديًا لكندا، فأكثر من 75% من صادرات كندا تذهب إلى الولايات المتحدة، لذا كان هناك حرص كندي للحفاظ على إبرام صفقة التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية باعتباره أمرًا بالغ الأهمية، وبالفعل توصل البلدان إلى جانب المكسيك في النهاية لاتفاق جديد.
وفي هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات التي يأتي في مقدمتها: ما أهم القضايا الكندية المتأثرة بالانتخابات الأمريكية المقبلة؟، كيف تبدو النظرة الكندية لمرشحي الانتخابات الأمريكية؟، وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر الانتخابات الأمريكية على انتخابات كندا 2025؟، وكيف يبدو المشهد الانتخابي الكندي 2025؟
إدراك الكندي لمرشحي الانتخابية الأمريكية:
يمكن تحديد هذا الإدراك من خلال تحديد الموقف الرسمي الكندي تجاه كل من بايدن وترامب، على النحو التالي:
(*) تقييم ترامب من وجهة نظر كندية: قال جاستن ترودو، رئيس الوزراء الكندي، أواخر يناير 2024، إن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب "يمثل عدم اليقين، ولا نعرف بالضبط ما الذي سيفعله". ويرى "ترودو" أن حكومته كانت قادرة على إدارة أمورها مع ترامب في السابق، من خلال إظهار أن كندا والولايات المتحدة يمكنهما خلق نمو اقتصادي على جانبي الحدود، وأنه نجح في التغلب على التحديات التي تمثلها إدارة ترامب لمدة 4 سنوات، قبل 7 سنوات، انطلاقًا من حقيقة أن كندا والولايات المتحدة تعملان بشكل أفضل عندما يتفقان على نفس الشيء ويقومان به معًا.
من ناحية أخرى، فقد وصف ترامب ترودو بأنه "ضعيف" و"غير أمين" وهاجم التجارة الحيوية لكندا عندما كان رئيسًا. فقد هدد بفرض رسوم جمركية على السيارات وفرضها على الصلب. وتركت النبرة غير المسبوقة للهجمات على أحد أقرب حلفاء واشنطن انطباعات سيئة، وشعر معظم الكنديين بالارتياح لهزيمة ترامب في عام 2020. واعتبر رئيس الوزراء الكندي أنه تمكن من التعامل مع ترامب خلال فترة رئاسته السابقة، على الرغم من هجماته على المزارعين في جميع أنحاء كندا، أو هجماته على عمال الصلب والألومنيوم، أو تصميمه على تمزيق اتفاقية التجارة الحرة مع المكسيك وكندا، ويتباهى ترودو من الوقوف بقوة أمام ترامب وإعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
وإجمالا، يرى تردود أن النهج الناجح مع جميع الرؤساء الأمريكيين هو إظهار أن ما هو جيد لكندا هو أيضًا جيد للولايات المتحدة والعكس صحيح، وأن التكامل الاقتصادي والشراكات بين الدولتين في العديد من المجالات المختلفة تؤدى إلى النفع على جانبي الحدود.
(*) تقييم بايدن من وجهة نظر كندية: بدأ الرئيس الأمريكي جو بايدن اتصالاته الخارجية بقادة دول الجوار الأمريكي، وتحديد قادة كل من كندا والمكسيك، وسط تفاؤل كندي بفتح صفحة جديدة. وتباحث بايدن خلال أول اتصال مع رئيس الوزراء الكندي، بشأن خط أنابيب النفط كيستون، فقد أصدر بايدن أمرًا تنفيذيًا فور تسلمه السلطة بوقف أعمال هذا الخط التي بدأت منذ عقد داخل الأراضي الأمريكية، لأن بناءه لا يتوافق مع أهداف إدارته الاقتصادية والمناخية. وكان مفترضًا أن ينقل هذا الخط البالغ طوله 1947 كيلومترًا، اعتبارًا من 2023، ما يصل 830 ألف برميل من النفط يوميًا من حقول ألبيرتا الكندية إلى نبراسكا الأمريكية، ثم عبر شبكة موجودة أساسًا إلى مصاف في سواحل تكساس.
وصرّح مكتب ترودو وقتها بأن رئيس الوزراء الكندي عبّر عن خيبة أمل كندا من قرار الولايات المتحدة بشأن مشروع كيستون، مضيفًا أنه شدد على الفوائد المهمة التي توفرها العلاقة الثنائية في مجال الطاقة على صعيد الاقتصاد وأمن الطاقة. وكان "ترودو" أكد قبيل الاتصال في مؤتمر صحفي أن قرار بايدن بشأن "كيستون" صعب للغاية بالنسبة إلى العمال الكنديين "الذين تعرضوا لهزات عدة في السنوات الماضية". وعلى الرغم من ذلك يرى ترودو إلى أن إدارة بايدن تمثل فرصة لطي صفحة العلاقة الصعبة في عهد ترامب، الذي وصف ترودو في إحدى المرات بأنه "غير صادق" و"خنوع". ويتأكد توتر العلاقة بين ترامب وترودو بأن الأول لم يقم بأي زيارة لكندا خلال فترة ولايته.
وقام بايدن بزيارته الأولى لكندا في مارس 2023، إذ تُدلل هذه الزيارة على عودة المودة بين البلدين بعد الولاية الرئاسية لدونالد ترامب الذي كانت تربطه علاقة متوترة بترودو. من الجدير بالذكر أن هذه الزيارة هي الأولى لرئيس أمريكي منذ زيارة باراك أوباما عام 2009، فمن المعتاد أن يتوجه رئيس الولايات المتحدة في أول رحلة له بعد تنصيبه إلى كندا، لكن بسبب فيروس كورونا (كوفيد-19)؛ اكتفى بايدن في فبراير 2021 بزيارة افتراضية.
قضايا كندية متأثرة بالانتخابات الأمريكية:
هناك العديد من القضايا الكندية التي تتأثر بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، هذه القضايا تتصل بالأساس بتعاون الدولتين، إذ تقوم القيادة السياسية بالدولتين بدور مهم فيها. ويأتي في مقدمة تلك القضايا التجارة، والهجرة، لذلك هناك تعاون وثيق بين كندا والولايات المتحدة في الدفاع وأمن الحدود وإنفاذ القانون، وتداخل كبير في الثقافة والتقاليد.
ويرى نيلسون وايزمان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تورنتو، أن حكومة ترودو الليبرالية قلقة للغاية بشأن احتمال تولي ترامب الرئاسة مرة أخرى. ويذهب إلى أنه في حين أنه من غير المرجح أن يمزق ترامب اتفاقية "نافتا" المُعدلة قليلًا التي تفاوضت عليها الحكومة الكندية في السابق، فإن أي حكومة أمريكية أكثر حمائية ستكون تهديدًا كبيرًا للاقتصاد الكندي، لأن ثلثي تجارة كندا مع الولايات المتحدة، فتأثير نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة خاصة في حالة فوز ترامب، سيكون أكبر على كندا من أي بلد آخر باستثناء المكسيك. وفي حال انتخاب ترامب قد تفرض رسومًا وتعريفات وحصصًا، وتدابير أخرى قد تكون مخالفة لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ولكن قد تأخذ وقتًا طويلًا للتسوية بموجب أحكام حل النزاع لاتفاقية "نافتا"، وبالتالي لا يمكن توقع أي تخفيضات أو مزايا لصالح كندا. وفي ضوء ما سبق، يمكن رصد بعض ملامح أو أبعاد تأثير الانتخابات الأمريكية على الأوضاع والأحوال الكندية فيما يلي:
(*) العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من كندا والمكسيك: بلغ إجمالي حجم التجارة بين الولايات المتحدة وكندا نحو 1.2 تريليون دولار كندي (890 مليار دولار) في عام 2022. وكل يوم يعبر نحو 400 ألف شخص أطول حدود دولية في العالم. لذلك جاءت هذه العلاقات في مقدمة أولويات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فقد صرّح قبل 6 سنوات بأنه لا حاجة لإبقاء كندا في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" وحذر الكونجرس بألا يتدخل في المفاوضات التجارية وإلا سيلغي اتفاق التجارة الثلاثي برمته. فقد سبق وأن أجبر ترامب كلًا من كندا والمكسيك على إعادة التفاوض بشأن معاهدة "نافتا"، التي تم التوصل إليها قبل نحو 24 عامًا من وصوله للحكم، لكن الرئيس الأمريكي السابق اعتبر هذه الاتفاقية مضرة لبلاده وقرر عدم الالتزام بها. من الجدير بالذكر هنا أن اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" - الولايات المتحدة، المكسيك، كندا - القائم منذ 1994 يغطي تجارة حجمها 1.2 تريليون دولار سنويًا عبر القارة. ويرى مؤيدو هذا الاتفاق أنه مسؤول عن إيجاد 12 مليون وظيفة أمريكية، وثلث إجمالي الصادرات الزراعية للولايات المتحدة.
(*) مكافحة المهاجرين غير النظاميين: قال بايدن في خطاب أمام البرلمان الكندي، مارس 2023، إن البلدين سيعملان معًا لمكافحة المهاجرين غير النظاميين الذين يعبرون الحدود الأمريكية باتجاه كندا. وينص الاتفاق الذي تم التوصل إليه بينهما في العام الماضي، على أن تستعيد الولايات المتحدة طالبي اللجوء غير المسجلين الذين يعبرون من أراضيها إلى كندا، في حين تتعهد كندا بقبول أعداد أكبر من طلبات الهجرة. ويأتي هذا الاتفاق في ظل ما أثارته قضية الهجرة من مشكلات لبايدن، فثلثي الأمريكيين يقولون إنهم لا يتفقون مع تعامله مع قضية الحدود لذلك تشكل هذه القضية تهديدًا سياسيًا له في الانتخابات المقبلة. فقد استغل ترامب، المنافس المحتمل لبايدن في هذه الانتخابات، حالة الاستياء هذه لصالح حملته الانتخابية.
(*) الموقف الموحد للدولتين تجاه القوى الدولية الأخرى؛ تحديدًا روسيا والصين: تتبنى الدولتان موقفًا موحدًا تجاه روسيا والصين خلال إدارة بايدن، وبالتالي ستؤثر نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة على استمرار هذا الموقف من عدمه. فقد أعلن الرئيس الأمريكي خلال زيارته لكندا، العام الماضي، أن الصين لم تزود بعد روسيا بأسلحة كي تستخدمها في الحرب الدائرة بأوكرانيا، لكن ذلك لا يعني أن بكين لن تمد موسكو بالأسلحة. ومن جهته، قال ترودو إن العالم يدرك أنه لم يعد من الممكن الاعتماد على روسيا والصين لاستيراد بعض المواد والمعادن.
ويطرأ على هذا الموقف الكندي الأمريكي تجاه روسيا والصين بعض التغيير في حالة انتخاب ترامب لولاية ثانية، لأن ترامب يميل إلى الانعزالية في السياسة الخارجية القائمة على "أمريكا أولًا" وتوفير النفقات الدفاعية، وبالتالي لا يرحب بتعاون أمريكا مع حلف الناتو ودعمهما غير المحدود لأوكرانيا، فمن شأن هذا الموقف، احتمال أن يحدث تقارب أمريكي روسي في حالة فوز ترامب خاصة فيما يتعلق بتسوية الأزمة الروسية الأوكرانية. ومن المتوقع أن يحدث نفس الشيء بتقارب أمريكي صيني فيما يتعلق بتهدئة التوترات في بحر الصين الجنوبي التي تصاعدت في الآونة الاخيرة. وتبعًا لذلك قد يتغير الموقف الأمريكي الكندي إزاء استيراد بعض المواد والمعادن من كل من روسيا والصين في حال إعادة انتخاب ترامب مرة ثانية.
(*) تزايد عدد المهاجرين الأمريكيين لكندا: ربما كان بعض الأمريكيين جادين عندما هددوا بالانتقال إلى كندا إذا ما فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة، بعد حملة دعاية انتخابية كانت سببًا بشكل رئيسي في انقسام حاد بالبلاد. فقد عانى موقع الهجرة الرئيسي في كندا 9 نوفمبر 2016 من انقطاعات متكررة بالتزامن مع تقدم ترامب في عدة ولايات رئيسية وتزايد احتمالات وصوله للبيت الأبيض. وظهرت رسالة تفيد بمشكلات في الموقع لبعض المستخدمين من الولايات المتحدة وكندا وآسيا عندما حاولوا الدخول على الموقع. وفي فبراير من نفس العام كانت قد سوقت جزيرة كيب بريتون الواقعة على ساحل كندا المطلة على المحيط الأطلسي نفسها على أنها ملاذ آمن للمهاجرين الأمريكيين، الذين يسعون للفرار في حالة وصول ترامب للبيت الأبيض.
الانعكاسات المحتملة على انتخابات كندا 2025:
يمكن تصور هذا المشهد في ضوء ما ورد بصحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، ديسمبر الماضي، أن جاستن ترودو، رئيس الوزراء الليبرالي الكندي، يتخلف بنسبة 15% تقريبًا عن منافسه بيير بويليفر، وفقًا لجميع استطلاعات الرأي، ما يعني احتمال سقوط شخصية حكمت البلاد لأمد طويل. فالمراقبون السياسيون يشككون في إمكان قلب ترودو دفة الأمور، بعد أن عجز عن إقناع الكنديين بفوائد التعددية الثقافية والووكيسم "الحركات المناهضة للتمييز والعنصرية" والعديد من الخيارات الاجتماعية. في حين أن المرشح الشعبوي بيير بويليفر يعد مواطنيه "بجعل كندا الدولة الأكثر حرية في العالم". فقد أدت أزمة تكلفة المعيشة، والارتفاع الحاد في أسعار الفائدة، والنقص المزمن في المساكن إلى منح زعيم حزب المحافظين المعارض بيير بويليفري الذخيرة لمهاجمة ترودو متهمًا إياه بتغذية زيادات الأسعار بالإنفاق الحكومي المسرف. فقد أصبح بيير بويليفر هو البديل السياسي الوحيد لجاستن ترودو، وهو يستفيد من السخط المتزايد تجاه ترودو وحكومته. ومن الجدير بالذكر هنا، أنه قد بزغ نجم حظ بويليفر منذ أن فاز عندما كان طالبًا بجائزة قدرها 10 آلاف دولار عن مقال بعنوان "لو كنت رئيسًا للوزراء".
إجمالا، يمكن القول إن كندا ستكون من بين أكثر الدول تأثرًا بنتائج الانتخابات الأمريكية 2024، بحكم أنها إحدى دول الجوار الأمريكي، فضلًا عن القضايا الحيوية المشتركة بين الدولتين خاصة للجانب الكندي؛ التي يأتي في مقدمتها التجارة والهجرة لذلك تراقب كندا هذه الانتخابات بكل اهتمام. فيعيش نحو 800 ألف كندي في الولايات المتحدة يمثلون أداة كندا للتأثير في هذه الانتخابات لأنهم بطبيعة الحال يميلون للمرشح الرئاسي الذي يخدم توجهات قضايا وطنهم الأم.
ويتزايد هذا الاهتمام الكندي في ظل التأثير المتبادل المحتمل بين الانتخابات الأمريكية 2024، والانتخابات الكندية 2025، إذ يُتوقع تزايد تأثير الانتخابات الأمريكية المزمع إجراؤها نوفمبر المقبل على الانتخابات الكندية المزمع إجراؤها، العام المقبل، إذا فاز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في هذه الانتخابات. وهو الأمر الذي قد يؤثر في سلوك الناخب الكندي في انتخابات 2025 باختيار بيير بويليفر، زعيم حزب المحافظين الكندي والملقب بترامب كندا. فيرى الكثير من مواطني كندا أن بويليفر يشبه ترامب؛ حيث يقوم بويليفر بكثير من التجاوزات من دون أن يلحقه ضرر، إذ أعلن أنه سيقيل محافظ بنك كندا، وسيسحب السيطرة على الأموال من المصرفيين والسياسيين لإعطائها للشعب إذا فاز بهذه الانتخابات. فبرنامج بويليفر - كما يكرر في كل لقاءاته - هو "الفطرة السليمة"، ويوضح ذلك قائلًا "يمكن للكنديين الهروب من التضخم عن طريق اختيار العملات المشفرة". وهو مثل ترامب، يكره الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية، فسيتوقف عن تمويل قنوات الإذاعة والتلفزيون العامة حال فوزه بهذه الانتخابات.