ارتفعت مؤشرات التصعيد والتصعيد المتبادل في الضفة الغربية المحتلة في الأعوام الأخيرة، على وقع التطورات في المشهد السياسي الإسرائيلي وصعود اليمين المتطرف، ومن ثم تسارع وتيرة الاستيطان في الضفة، لتشهد المنطقة منذ عام 2021 حراكًا مسلحًا فلسطينيًا، جاء نتيجة حتمية لانتهاكات المستوطنين وعناصر جيش وشرطة الاحتلال الإسرائيلي، من تهجير بعض السكان وأوامر الإخلاء بحق عدد من الأحياء والقرى، إلى جانب تصاعد الاقتحامات شبه اليومين للحرم القدسي خلال الأعياد الدينية، بالتوازي مع ارتفاع مستويات البطالة بين الشباب وفقدان الأمل بإيجاد حل قريب وناجع للقضية الفلسطينية في ظل المشهد الوطني والإقليمي الحالي.
وكان من اللافت استدعاء فصائل المقاومة الفلسطينية لأهالي الضفة الغربية بالانضمام إلى عملية "طوفان الأقصى" خلال الإعلان عن انطلاق هجوم السابع من أكتوبر، وإعادة بثّ النداء ذاته في مارس الماضي، إلا أن ميدان المعركة في الضفة الغربية المحتلة ومع استمرار الاضطرابات فيها على وقع الانتهاكات الدورية لقوات الاحتلال ومجموعات المستوطنين المتطرفين بحق المقدسات الدينية والقرى والمنشآت المدنية الفلسطينية، يختلف كليًا عن الوضع في قطاع غزة الذي يخضع التصعيد فيه وقرار التهدئة أو الحرب لسلطة الفصائل.
وتأسيسًا على ما سبق؛ تتناول الورقة التالية مؤشرات واحتمالات التصعيد في الضفة الغربية، وانعكاساتها على الوضع في الأراضي المحتلة عمومًا.
مؤشرات مهمة
أظهرت تطورات التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 2021 فورانًا شبابيًا جامحًا في منطقة الضفة الغربية المحتلة بعد فترات طويلة من الهدوء النسبي، بما فرضته بيئة الانقسام الفلسطيني وحجم الارتكازات والحواجز الأمنية الإسرائيلية على امتداد مناطق ومحافظات الضفة، إلى جانب النشاط الاستيطاني الواسع والذي عززته تسليح مجموعات المستوطنين على ضوء عمليات الطعن وإطلاق النار المتفرقة التي نفذتها الفصائل عن طريق هجمات "الذئاب المنفردة"، والتي عبرت في غالبها عن سلوك فردي يهدف لإثارة الغضب في أوساط الشباب الفلسطيني، بما يمهد لإيجاد أرضية للعمل المسلح ويسمح بتمدد والتقاء المتعاطفين مع فصائل غزة، وعلى رأسها حركتا "حماس" و"الجهاد"، وهو ما برز في ما بعد بتفعيل الخلايا النائمة للفصائل في مناطق الضفة وتوسيع نطاق العمل المسلح، بما يتجاوز الإطار الفصائلي التقليدي لتسهيل حركة المقاومين وإيصال زخم العمل المسلح إلى أوساط فئات اجتماعية واسعة تبدو ساخطة على المشهد الفلسطيني العام بنخبتيه السياسية والفكرية.
ومنذ بداية حرب غزة في 7 أكتوبر 2023 عوّلت فصائل المقاومة الفلسطينية على تحريك الضفة الغربية كجبهة رئيسية ثانية في عملية "طوفان الأقصى"، استنادًا لأهميتها المطلقة في قلب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقدرتها على إحداث زلزال واسع النطاق تمتد آثاره إلى باقي المنطقة.
ويمكن الإشارة إلى أبرز محفزات التصعيد في الضفة الغربية على النحو الآتي:
(*) توسيع الانتهاكات الإسرائيلية: يصاحب تصديق وزير الدفاع يوم الخميس 2 مايو 2024 على اختيار آفي بلوط خلفًا ليهودا فوكس قائدًا للمنطقة الوسطى بجيش الاحتلال الإسرائيلي، والمسؤولة عن الضفة الغربية ضمن سلسلة تعيينات عسكرية، توترًا علنيًا بين قيادة المؤسسة الأمنية ممثلة في وزير الدفاع يوآف جالانت ورئيس الأركان هيرتسي هاليفي من جهة، وزعماء اليمين المتطرف بحكومة نتنياهو ممثلة في وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن جفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش من جهة أخرى، إذ جاءت التعيينات الأخيرة خلافًا لرغبة الجناح المتطرف وخارج إطار ترشيحات نتنياهو التي أوصت باختيار قائد فيلق هيئة الأركان العامة الجنرال دافيد زيني أو العميد عوفِر فينتر، خاصة أن الأخير يشتهر بخطابه المتطرف وتقربه من أحزاب اليمين، التي لطالما انتقدت تعامل فوكس مع بعض انتهاكات المستوطنين في الضفة الغربية والقدس.
وتثير رغبات اليمين في السيطرة على قيادة الجيش بالضفة الغربية المحتلة، مع وجود عدد من الوحدات العسكرية الحريدية، مخاوف إسرائيلية ودولية من انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، إذ أشارت الخارجية الأمريكية إلى تسجيل انتهاكات لعناصر 5 وحدات عسكرية إسرائيلية قبل حرب غزة، ومنها كتيبة "نيتساح يهودا" المسؤولة عن محافظة جنين، والتي ينسب إليها عدد من الانتهاكات، منها اغتيال الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة في مايو 2022.
وتسهم سياسات حكومة نتنياهو في تسريع وتيرة الاستيطان على حساب أصحاب الأرض، وهو ما عززه توقيع وثيقة تفاهمات في فبراير 2023، بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت ووزير المالية سموتريتش، والذي يشغل كذلك منصب وزير في وزارة الدفاع، لنقل بعض صلاحيات الإدارة المدنية لعمليات الاستيطان في الضفة ويتولى بموجبها الأخير قيادة الوحدتين العسكريتين "الإدارة المدنية"، و"منسق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية"، وتقضي تلك التفاهمات بتقسيم الصلاحيات بين الجيش والوزير المتطرف، إذ يختار الجيش قائدي الوحدتين من بين قادته برتبتي لواء وعميد على التوالي، بينما يعين سموتريتش نائبيهما بما يضمن تعزيز نفوذه ودوره في توسيع عمليات الاستيطان وإدارة شؤون المستوطنين إلى جانب صلاحيات نزع ومصادرة الأراضي (خاصة في المنطقة ج)، الأمر الذي يقلص من سلطة الجيش في الضفة، ويعرض دولة الاحتلال لمزيد من الانتقادات الدولية على ضوء توسيع الاستيطان غير الشرعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي يديرها الجيش، لاسيما مع التهديدات المتكررة للوزيرين المتطرفين سموتريتش وبن جفير بمحو قرى وبلدات فلسطينية على رأسها حوارة وترمسعيا وحي الشيخ جراح.
وبموجب تلك الصلاحيات أصدر سموتريتش قرارات تضفي الشرعية على نحو 68 بؤرة استيطانية غير شرعية، عبر توجيه الوزارات بتوفير التمويل والخدامات لها حسبما ذكرت حركة السلام الآن الإسرائيلية في 21 أبريل الماضي، كما أعلنت الإدارة المدنية بالضفة خلال العام الجاري عن مصادرة نحو 11 كيلومترًا مربعًا من أراضي محافظات القدس وبيت لحم ونابلس.
ومن الجدير بالذكر، تأكيد المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، في 8 مارس 2024، أن سياسة الحكومة الحالية تتماشى مع الحركة الاستيطانية بصورة غير مسبوقة، منوهًا -في تقرير قدمه إلى المجلس الأممي لحقوق الإنساني- بإقامة نحو 24300 وحدة سكنية داخل مستوطنات الضفة الغربية، من بينها 9670 في القدس الشرقية المحتلة، وذلك في الفترة من 1 نوفمبر 2022، إلى 31 أكتوبر 2023.
(*) اقتحامات الأقصى: وتمتد الانتهاكات الإسرائيلية إلى عمليات الاقتحامات المتكررة للحرم القدسي خلال فترات الأعياد الإسلامية واليهودية، إذ أظهرت بيانات محافظة القدس أن عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد الأقصى خلال أسبوع عيد الفصح (22 إلى 29 أبريل 2024) بلغ 4345 مستوطنًا، بزيادة بلغت نحو 915 شخصًا عن عدد المستوطنين خلال عيد الفصح للعام الماضي، والذي بلغ 3430 مستوطنًا.
(*) تأسيس الوجود المسلح: مع انتقال شرارة المقاومة إلى الضفة وبروز مدينة جنين ومخيمها كبيئة خصبة للعمل المقاوم، أعلنت "سرايا القدس" في عام 2021 تدشين "كتيبة جنين" بقيادة جميل العموري ووئام إياد الحنون، لتستوعب عمل الفصائل والشباب الغاضب في المحافظة الشمالية والتي باتت المعقل الرئيسي للاشتباك الفلسطيني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية.
ولم يقتصر وجود التشكيلات المسلحة مع صغر عددها وضعف تسليحها على "سرايا القدس" التابعة لحركة "الجهاد" و"كتائب القسام"، إذ ظهرت في 2 سبتمبر 2022 مجموعة "عرين الأسود" والتي أثارت العديد من الشكوك حول انتماءاتها وظهورها المفاجئ، وكشفت المجموعة عن نفسها في حفل تأبين مؤسسها محمد العزيزي في البلدة القديمة بنابلس، قبل أن تكشف تلك الديناميكية الناشئة عن فشل سياسة جز العشب التي اتبعها الاحتلال في القضاء على النشاط المسلح للفصائل بالضفة الغربية خاصة في جنين ومخيمها، إذ تمثل كتيبة جنين المعقل الرئيسي لـ"سرايا القدس"، ويحتل قائدها منصب القائد العام للجناح العسكري في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من استهداف قادة الكتيبة قبيل وعقب اندلاع حرب غزة، إلا أن المواجهات مع الكتيبة لم تتوقف، بينما عززت السرايا تموضعها في عدد من المخيمات والمحافظات الشمالية الفلسطينية، خاصة في مخيم نور شمس بطولكرم، ففي 19 أبريل 2024 شن جيش الاحتلال عملية عسكرية في المخيم استمرت يومين واستهدف فيها تصفية قائد كتيبة نور شمس، ومع انتهاء العملية باغتيال 14 فلسطينيًا بينهم طفل حسب وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، تناقلت وسائل إعلام محلية وفصائل فلسطينية نبأ مقتل "أبو شجاع"، قبل أن يظهر الأخير في أوساط عناصر المقاومة، في دلالة على فشل العملية التي قال الجيش إنها أسفرت عن مقتل 10 مسلحين.
(*) تطور العمليات النوعية الفلسطينية: مع بداية الحرب على غزة اقتصرت هجمات الضفة الغربية بصورة كبيرة على نمط "الذئاب المنفردة" من خلال عمليات إطلاق نار في تل أبيب أو القدس أو ضد الحواجز العسكرية الإسرائيلية بمختلف مناطق الضفة الغربية، لكن تطورًا ملحوظًا في نمط الاستهداف برز خلال عمليات إطلاق نار وتفجير عبوة ناسفة بحق جنود جيش الاحتلال في بيت ليد شرقي طولكرم بتاريخ 2 نوفمبر، والتي تبنتها "كتائب القسام" ونشرت مقطعًا مصورًا يظهر تفاصيل الاستهداف في اليوم التاسع من ذلك الشهر.
وفي 24 مارس 2024، أعلنت "كتيبة طولكرم" التسلل خلف الخط الأخضر، ونصب كمين لسيارة مدنية تحمل قوة عسكرية إسرائيلية مناوبة، ونقلت وسائل إعلام فلسطينية عن بيان الحركة تصفية ضابط وثلاثة جنود، ردًا على اغتيال القائد العام لـ"سرايا القدس" في الضفة الغربية وقائد "كتيبة جنين" محمد مأمون حواشين في 22 مارس 2024.
كما أعلنت "كتائب القسام" تنفيذ ما أسمته "عملية مركبة" لاستدراج جنود إسرائيليين بالقرب من قرية النبي إلياس في قلقيلية 7 أبريل الماضي، أسفرت عن إصابة اثنين بينهما مجندة إسرائيلية صنفت إصابتها بالخطيرة.
اتجاهات مقلقة
وتبرز تلك العمليات تواضع إمكانيات فصائل المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية على صعيدي العدد والعتاد، وتمركز عملياتها المؤثرة في شمال الضفة خاصة مع تنفيذ عمليات باتجاه الداخل الإسرائيلية، بينما تتركز جهودها على تعزيز تمركزاتها وثقلها في مختلف مناطق الضفة، مما لا يؤهلها لتنفيذ عمليات هجومية مؤثرة، ويدفعها للاقتصاد في القوة لحين نشوب مواجهة كبرى بما ينفصل عن التطورات في غزة.
(&) تعزيز هيمنة اليمين المتطرف: يسعى الوزيران بن جفير وسموتريتش للسيطرة على قرار السلم والحرب في الضفة الغربية على صعيد دعم تسليح المستوطنين لأغراض توسيع الاستيطان على نطاق المنطقة (ج).
وتكمن خطورة الانتهاكات المتكررة في المناسبات الدينية والقومية المصطنعة لدولة الاحتلال على غرار مسيرة الأعلام المزمع الاحتفال بها في شهر مايو الجاري، إلا أن مساعي الجناح الأكثر تطرفًا تتجاوز مخطط التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي خصوصًا بين اليهود والمسلمين إلى فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على مدينة القدس والمسجد الأقصى في القلب منها، من خلال التوعد بذبح القرابين خلال عيد الفصح وإقامة الشعائر التلمودية في الحرم القدسي، وتقويض الوجود الفلسطيني في جنباته.
وتشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى بلوغ انتهاكات عصابات المستوطنين في الضفة بحق المواطنين الفلسطينيين أرقامًا قياسية خلال العام الماضي بنحو 1225 هجومًا، يقف خلفها عدد من التنظيمات وعلى رأسها منظمات "شبيبة التلال" و"جباية الثمن" و"لافاميليا" و"نحالا" و"لاهافا"، إلى جانب الوحدات العسكرية المحسوبة على اليمين المتطرف مثل كتيبة "نيتساح يهودا".
(&) الانقسام الفلسطيني: يهدد الانقسام الفلسطيني في خضم الحرب الجارية بقطاع غزة وعموم الأراضي المحتلة بتفجير الصراع الداخلي من جديد على وقع التباين في مواقف السلطة الوطنية والفصائل المسلحة، والتي امتدت لاتهامات بالاستهداف المتبادل، ففي مطلع الشهر الجاري سقط أحمد أبو الفول أحد عناصر "كتيبة طولكرم" في تبادل إطلاق نار مع عناصر أمن السلطة الوطنية الفلسطينية.
إن استمرار الحرب في غزة دون أفق واضح لنهايتها واستمرار مؤشرات الاضطراب في الضفة الغربية من ارتفاع معدلات البطالة لما يفوق 32%، إلى جانب حالة عدم الثقة في النخبة السياسية والمسلحة التقليدية قد يحفز حالة من الانقسام الداخلي في ظل توجيه البعض سهام الانتقاد للسلطة وإظهارها في موقف ضعيف أمام العدوان المتواصل من قوات الاحتلال من جهة وتقويض سلطتها في الضفة وتعزيز حالة الغضب الشعبي من جهة أخرى عبر التقييد الإداري والمالي من قبل سلطات الاحتلال، وهو ما كشفه آخر استطلاع رأي للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية الصادر في منتصف أبريل الماضي، وميل الرأي العام في الضفة للعمل المسلح على أي من المسارات التفاوضية أو المقاومة.
وإجمالًا؛ يشكل تزايد النشاط الاستيطاني مؤشرًا خطيرًا على التصعيد في الضفة الغربية خاصة في ظل تقوية قبضة اليمين المتطرف على العمل الاستيطاني، إلى جانب استمرار محاربة السلطة الوطنية سياسيًا وأمنيًا وماليًا، وانتهاك المقدسات الدينية في القدس، مما يدفع لإذكاء التوترات في المنطقة ويدفع المزيد من الشبان الفلسطينيين إلى المقاومة المسلحة طالما تضاءلت آمال التوصل لتسوية سياسية شاملة وفق حل الدولتين.
وبغض النظر عن قدرة قائد المنطقة العسكرية الوسطى الجديد من عدمها على ضبط سلوك المستوطنين والاستجابة للضغوط الأمريكية في ملاحقة بعضهم على جرائمهم بحق المجتمعات الفلسطينية، يبقى الحل السياسي الشامل والمصاحب بتفكيك المستوطنات وملاحقة التنظيمات الاستيطانية المتطرفة هو العامل الأبرز في إنهاء دوامة التصعيد الممتدة منذ 2021، ولا يمكن التعويل على سلطة احتلال في فرض الأمن والاستقرار واحترام مقررات الشرعية الدولية بشأن الصراع ووضع الأراضي الخاضعة للاحتلال.