تنذر سلسلة حوادث التصادم أو المناورات الحادة "البحرية والجوية" بين العديد من الفاعلين الدوليين من الدول أو ما دونها على امتداد خطوط التماس أو خطوط التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى بمستو جديد من التصعيد قد ينزلق إلى مواجهات أوسع في ساحة حرب عالمية ثالثة وإن جاءت في سياق من التطور السريع وغير المتعمد، على الرغم من تباين أنماط ووسائل التصعيد باختلاف الفاعلين وأهدافهم.
وتشير تلك الحوادث إلى تآكل ردع القوة المهيمنة، التي تعرف بقوة "الوضع الراهن status-quo" وبروز عدد من "القوى المراجعة أو التصحيحية revisionist power" الساعية لإعادة إرساء قواعد نظام عالمي جديد، عبر اللجوء للتصعيد المُدار بتوازنات وخطوط حمراء وقواعد غير مكتوبة، إلا أن تصعيد المناوشات بين تلك القوى التصحيحية وخصومها الإقليميين من حلفاء الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة يخلق حالة التوتر الإقليمي تدفع لزيادة احتمالية التصادم العسكري بانخراط الفواعل الدولية، التي تمتلك شكلًا من أشكال التحالف مع طرفي الصراع بحريًا أو جويًا، كما أن اللجوء لاستخدام أدوات وكيانات رديفة للمؤسسات العسكرية الرسمية بتلك الدول، خلق نوعًا من الاستقلالية لتلك المجموعة ووفر لها الغطاء لتنفيذ هجماتها على الخصوم مع قابلية إنكار صلتها بذلك التصعيد، فيما يظل مكمن الخطورة في تحول تلك الكيانات الرديفة لتعمد التصعيد بحثًا عن الاعتراف بها كمؤسسات مستقلة ومشروعة لها حق في قيادة العملية السياسية أو التحلل من أزمات داخلية.
التصعيد غير المحسوب .. الأنماط والسلوكيات
اتخذ التصعيد غير المقصود نمطين رئيسيين في الآونة الأخيرة، أولهما التصعيد في ساحات المواجهة الاستراتيجية بين القوى المتناظرة وفي تلك الحالة تشتد الاحتكاكات على الأجواء الدولية والمياه الدولية ونقاط الاختناق البحرية أو حول المناطق البحرية المتنازع عليها، وثانيهما أشكال التصعيد اللامتماثل، الذي تلجأ فيه القوة الأضعف لإحداث تحول في مسار المواجهات لصالحها إما بتغيير أسلوب خوض الحرب بالنسبة للفاعلين الدوليين من خلال إدخال العامل النووي على خط مواجهة عسكرية تقليدية لمنع وقوع هزيمة استراتيجية، أو بالاعتماد على القوات غير النظامية والميليشيات المسلحة في مواجهة جيوش نظامية لتعميق الضرر الواقع على الجهة الأقوى.
وبالاستناد إلى نظرية جون ميرشيمر حول القوة المهيمنة الإقليمية، التي تفترض أنه لا وجود لقوة عالمية أو قطب أوحد مهيمن بصفة مطلقة على النظام الدولي على مر التاريخ، واصفًا الولايات المتحدة بالقوة الإقليمية المهيمنة "على إقليمها الجغرافي في أمريكا الشمالية والجنوبية" الأولى في التاريخ التي تستطيع من خلال أدواتها العسكرية والأمنية تقليص نفوذ أي قوة صاعدة "قوة مهيمنة كامنة تتفوق على جوارها في حجم الموارد البشرية والطبيعية والمكانة الجغرافية وليس على صعيد القوة العسكرية" في هذا الإقليم أو ذاك من قوى تصحيحية على غرار روسيا في أوروبا والصين بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومن ثم ينخرط الفاعلون الرئيسيون في كل إقليم بسباق تسلح محموم واتخاذ إجراءات تصعيدية لتغيير ميزان القوى القائم، ويمكن استعراض تلك الأنماط كالتالي:
(*) الاستراتيجيات المتصارعة: اتخذت إدارة بايدن سياسة خارجية تتمحور حول مواجهة نفوذ الصين المتصاعد في آسيا لما تمثله من تحدٍ منهجي للقيادة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، عبر العديد من الاستراتيجيات وعلى رأسها إحياء وتعزيز التحالفات الأمنية في أوروبا وآسيا عبر توسيع حلف الناتو بضم فنلندا والسويد وإعطاء الأمل في انضمام المزيد من دول البحر الأسود ودول غرب البلقان، ورفع جاهزية قوات الحلف في مواجهة أي تحرك روسي محتمل تجاهها، وإحياء التحالف الأمني الرباعي "كواد" مع اليابان والهند وأستراليا، وتدشين تحالف "أوكوس" مع المملكة المتحدة وأستراليا والوقوف خلف إصلاح العلاقات اليابانية الكورية الجنوبية، إلى جانب تعزيز التعاون الصناعي الدفاعي والتعاون العسكري، من خلال اتفاقيات ثنائية للدفاع المشترك وتعزيز البنية التحتية العسكرية الأمريكية على أراضي الحلفاء الآسيويين، منهم الفلبين ودول جزر جنوب المحيط الهادئ مثل بابوا غينيا الجديدة، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية لواشنطن، هي؛ تهيئة المسرح الإقليمي للدفاع عن تايوان، تهدئة مخاوف الحلفاء الآسيويين بحضور الولايات المتحدة، وتحييد التحالفات المضادة لبكين.
وعلى ضوء التحركات الدبلوماسية والأمنية والعسكرية الأمريكية خاصة في أعقاب زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب السابقة، لجزيرة تايوان، 2 أغسطس 2022، التي اعتبرتها بكين "استفزازية"، اتخذت الصين العديد من الإجراءات التصعيدية المضادة في مواجهة الوجود الأمريكي المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ عامة والوضع حول مضيق تايوان على وجه خاص، من خلال توسيع التعاون العسكري البحري مع روسيا وغض الطرف عن سلوك كوريا الشمالية، بعدما باتت كوريا الجنوبية في عهد الرئيس يون سوك يول أحد أبرز محاور سياسة احتواء الصين.
وفي بحر الصين الجنوبي كذلك دعمت الولايات المتحدة، الفلبين في نزاعها البحري مع الصين حول منطقة سكند توماس شول والسفينة الفلبينية الصدأة "سييرا مادري"، في ظل عمليات الحصار البحري على السفينة بقطع خطوط الإمداد البحري عنها والاحتكاك بسفن الإمداد التي تسعى لتزويد بحارتها بالمؤن، من خلال توسيع الوصول الأمريكي لمزيد من القواعد العسكرية الاستراتيجية وعلى رأسها في جزيرة بالاوان التي تبعد نحو 190 كم عن المنطقة المتنازع عليها.
وازداد التوترات الميدانية بين واشنطن وبكين على وقع المناورات الصينية المكثفة في محيط جزيرة تايوان واعتراض القوات الجوية بجيش التحرير الشعبي الصيني، خلال دوريات مراقبة للولايات المتحدة وحلفائها فوق بحري الصين الشرقي والجنوبي، إذ بلغ عدد الاعتراضات الجوية الصينية لنظيرتها الأمريكية 180 حادثة منذ الربع الأخير من عام 2021، مقارنة بإجمالي 200 حادثة خلال العقد السابق على ذلك التاريخ، بينما يمثل إجمالي الاعتراضات للولايات المتحدة وحلفائها في العامين الماضيين نحو 300 حادثة.
انعكاسات التصعيد
غني عن البيان أن الصراعات وبؤر التوتر تشتعل في أوقات التحولات الكبرى في هيكل النظام الدولي مصحوبة باستعداد بعض القوى (التصحيحية) لاستخدام القوة العسكرية بالأصالة أو بالوكالة لفرض توازن جديد على المستوى العالمي أو المستوى الإقليمي، ويمكن تفسيره كذلك من قبيل مقاومة القوى الإقليمية الكامنة لضغوط وإجراءات القوة المهيمنة الفاعلة لتقويض صعودها، وتبرز تلك الحالة في عدم الاستقرار بالشرق الأوسط وفي منطقة المحيطين، إلى جانب القارة الأوروبية.
(&) تزايد احتمالات الصدام بين القوى الكبرى: اندلعت الحرب بأوكرانيا نتيجة فشل واشنطن في احتواء موسكو وتستعصي محاولات حل الأزمة الروسية الأوكرانية أو "المسألة الأوروبية" إن جاز التعبير، مع محاولة إخراج روسيا من منظومة الأمن الأوروبية وإعادة الانسجام إلى المنظومة الأوروأطلسية، إلى جانب أن توسع حلف الناتو وتعزيز سياسة التحالفات في آسيا يُسرع من وتيرة سباق التسلح بين القوى المتصارعة بما يدفع لمزيد من التصعيد المتبادل في الأنشطة العسكرية واحتمالية نشوب صدام عسكري بين القوى الكبرى، خاصة مع بروز سيناريوهات اتساع الحرب الروسية الأوكرانية إلى دول البلطيق وفق تقرير عسكري ألماني كشفت عنه مجلة بيلد الألمانية، يناير الماضي، كما يظهر ذلك في الانتشار العسكري الأمريكي بمنطقة المحيطين لإفشال أي تحرك صيني محتمل لضم تايوان بالقوة من خلال شبكة القواعد العسكرية وخريطة الإمداد اللوجيستي للولايات المتحدة وحلفائها، وفق تقرير حديث لوكالة رويترز نُشر 31 يناير الماضي، يظهر تعزيز مخزون الذخائر والمعدات العسكرية ووقود الطائرات وغيرها من الإمدادات اللوجيستية في أستراليا، خلال تنفيذ تدريب جوي مع جيوش أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكندا وفرنسا وبريطانيا، يوليو 2023.
وإجمالًا؛ يمثل انكشاف استراتيجيات القوى المتصارعة على قمة النظام الدولي عاملًا رئيسيًا في كبح احتمالات أي مواجهة في المستقبل القريب، إلا أن تراكم الإجراءات التحوطية بين القوى المتنافسة عبر التحالفات الأمنية والدفاعية وتطوير التكتيكات العسكرية واللجوء للتصعيد اللامتماثل يقلص من الفوارق الجوهرية في موازين القوى في بعض الأحيان أو يتغلب على تلك الفوارق عبر الاستنزاف المتدرج والمتعمد، وتعزز من حالة الصراع في مختلف مجالات المواجهة مع تطوير تكتيك "الحرمان النشط"، الذي يسمح لحلفاء الطرف الأقل قوة بتعزيز إمداداته ودفاعاته في صد الهجوم الرئيسي للخصم الإقليمي والإعداد لهجوم مُضاد حاسم وسريع، ما يدفع في النهاية لاحتمالية تورط هؤلاء الحلفاء بصورة مباشرة في الصراع حال تعثر الهجوم المضاد خاصة إذا ما استهدف الطرف المقابل خطوط الإمداد الرئيسية للخصم أو استهداف الإمدادات الخارجية بصورة استباقية، كما أن استخدام أو توظيف الفواعل المسلحة ما دون الدولة قد يصاحبه سوء تقدير في حجم التصعيد ومرونتها بالتعامل مع الضغوط الميدانية، وكذلك قدرة القوة التي توظيف تلك الفواعل على توقع رد فعل الخصم.